التعليم العربي.. التطوير وضرورة مواجهة أزماته الباب: مقالات الكتاب
د. إدريس سلطان صالح أستاذ جامعي - مصر |
نعيش اليوم ثورة معرفية وتكنولوجية لها تأثيرات غير محدودة على حياة الناس، ونمط حياتهم، وبالتبعية على تعليمهم واكتسابهم للمعارف والمهارات التي تجعلهم قادرين على مواكبة هذا التطور.
فقد تطورت العلوم المختلفة، في محتواها، وأدواتها، وتطبيقاتها، وهو الأمر الذي استجابت له علوم التربية بفروعها المتنوعة، من خلال الدراسات والبحوث التي اهتمت بدراسة متطلبات العصر الجديد، والمهارات الأساسية للتعلم، ومطالب النمو وخصائصه لدى المتعلمين، وأنماط التعلم ونظرياته، والتطبيق الفعال لأدوات وتكنولوجيا العصر. ولذلك فلابد أن ينعكس ذلك على ممارساتنا التربوية داخل المدرسة تبعًا لتلك التطورات.
تقليدية تعليمنا وتبعاتها:
تتنوع مظاهر أزمة التقليدية في مدارسنا اليوم، سواء في نظرتنا إلى المتعلمين أنفسهم، وما يجب أن يكتسبوه من معارف ومهارات ووجدانيات، أو النظرة التقليدية لعمليات التدريس، التي تقتصر على ما يقوم به المعلم من أنشطة؛ لنقل المعارف إلى عقول المتعلمين داخل الفصل الدراسي، بمعنى أن المعلم ينقل ما لديه من معارف إلى المتعلمين الذين يستقبلون هذه المعارف؛ لحفظها واسترجاعها وقت الحاجة إليها.
ولذلك كان الدور الأساسي في المدرسة يقع على المعلم، والذي يعد دوره إيجابيًّا في العملية التعليمية، لما يقوم به من نقل للمعارف، ومن ثم أصبح هذا المعلم مصدرًا أساسيًّا للمعرفة التي ينقلها من كتاب المدرسة، بينما المتعلم دوره سلبي، لأنه مجرد متلقي للمعارف التي ينقلها إليه المعلم، ومن ثم لا يشارك في أي عملية للحصول على المعرفة كالبحث أو الاستقصاء أو غيرها من طرق الحصول على المعرفة.
ونتيجة لتلك النظرة التقليدية أنه تم التركيز على جانب واحد من جوانب نمو المتعلمين، وهو الجانب المعرفي، وأصبح تعلمهم يقاس بمقدار ما يحفظونه من معلومات ومعارف، وأهملت بقية جوانب النمو، مثل المهارات والجوانب الوجدانية اللازمة لمواجهة تحديات العصر، والتعامل معها، وأصبح كتاب المدرسة المصدر الأساسي للمعرفة دون بقية مصادر عصر التكنولوجيا، واستخدمت الاختبارات التحصيلية كأداة وحيدة للتقويم، دون غيرها من أدوات التقويم، مثل الملاحظة واختبارات الأداء والمقاييس النفسية...إلخ.
تطوير التعليم والاستجابة لمتغيرات العصر وتحدياته:
لابد أن تتغير كثير من المفاهيم التربوية في المدرسة، فالعالم الآن يبحث عن مهارات جديدة للقرن الحادي والعشرين، ويطور من أدوات وتكنولوجيا؛ لتنمية تلك المهارات لدى المتعلمين، وما يرتبط بها من قيم واتجاهات، من أجل تهيئة الأجيال الجديدة لعالم مختلف عن عالم اليوم.
فقد تطورت الأهداف المرجوة من التعليم، وتبعها المحتوى ومصادره، وطرق الحصول عليه، وعمليات التعليم والتعلم، والتقويم كذلك، فالعالم اليوم يبحث عن وظيفية التعليم، وفاعليته في تنمية المتعلمين ومجتمعاتهم معًا، مستفيدًا من نظريات التعلم الجديدة، وتكنولوجيا العصر وما وفرته من معارف ومصادر الحصول عليها.
ولعل كل هذه التطورات والتغيرات في عمليات التعليم والتعلم في العالم من حولنا، تفرض علينا الاستجابة والعمل على تطوير التعليم في مدارسنا؛ ليكون تعليمًا قويًّا قادرًا على إعداد الأجيال الجديدة لعالم المستقبل، وتفعيل أدوراهم في نهضة مجتمعاتنا وتطورها.
وبحثًا عن قوة التعليم، وقدرته على إعداد أجيال لعصر جديد، ومواكبته لكل تحدياته ومتغيراته، حدد المجلس القومي الأمريكي للدراسات الاجتماعية مجموعة من المبادئ الأساسية تزيد من قوة التعليم والتعلم، والتي تنعكس آثارها على المتعلمين، ومعارفهم، ومهاراتهم، واتجاهاتهم، وقيمهم، وهي:
• التعليم ذو المعنى:
بمعنى التعليم الذي يعتمد على شبكات المعرفة، والمهارات، والاتجاهات التي تتمحور حول الفهم الاجتماعي، والأسئلة الأساسية، والأفكار المهمة، والأهداف المرتبطة بالفاعلية المدنية، حيث يركز التعليم على كل ما يهم الفرد والمجتمع، ويجد له المتعلم نفعًا في حياته الشخصية والعملية، وتطبيقًا واقعيًّا له صدى في تطوره وتطور مجتمعه.
فالتعليم القوي هو الذي يتم فيه تطوير المفاهيم الرئيسية، والموضوعات الدراسية بعمق يتناسب مع التطور المعرفي والتكنولوجي في هذا العصر؛ ليكتسب المتعلمين المعرفة والفهم المناسب لتلك المفاهيم والموضوعات، وما يرتبط بها من قضايا، وكذلك الاهتمام بالمهارات لمساعدة المتعلمين على النمو والنجاح في عالم متغير ومتسارع، وهذا يشمل المهارات الأساسية للقراءة والكتابة، والوعي متعدد التخصصات والمجالات، وجمع وتحليل المعلومات، الاستقصاء والتفكير الناقد، والاتصال، والاستخدام الواعي لوسائل إعلام وتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين.
• التعليم المتكامل:
وهو التعليم الذي يحقق التكامل من خلال التواصل مع الماضي، والارتباط بالحاضر، والتطلع إلى المستقبل، ومن ثم التركيز على التخصصات الأساسية التي تشمل المواد المستخلصة من الأداب والعلوم والإنسانيات، ومن الأحداث الجارية، ومن الأمثلة المحلية، ومن حياة المتعلمين أنفسهم. فالمعرفة متكاملة وليست أجزاء منفصلة، ومن ثم فالتكامل في العملية التعليمية يقدم للمتعلمين فرص القيام بعمليات الاستقصاء، وجمع البيانات والمعلومات وتطويرها وعرضها، واستخلاص النتائج منها، وإصدار الأحكام والقرارات المناسبة تجاهها.
• التعليم المستند إلى القيم:
يدرك المعلمون أن الطلاب لن يصبحوا مواطنين مسئولين ومشاركين بطريقة آلية، ولكن يجب أن تنعكس القيم المجتمعية مثل: الديموقراطية، والعدالة، والمساواة، والحرية في الممارسات الصفية في أثناء عمليات التعليم والتعلم. ولذلك يجب على المعلمين تطوير وعيهم بالقيم، وتأثيرها على التعليم والتعلم، مما يساعدهم على تقييم أدائهم من ضوء التزامهم بها، وانعكاسها على عمليات التدريس، وعلى طلابهم.
حيث ينمي التعليم المستند إلى القيم وعي المتعلمين بالسياسات الحالية في المجتمع، والآثار المترتبة عليها، والتفكير بشكل ناقد، واتخاذ قرارات حول القضايا المجتمعية، والقيام بطرح نماذج لاختياراتهم التي يشكلونها كمواطنين بالغين.
ولذلك يحتاج المتعلمون إلى تعلم تقييم مزايا كل الحجج المتاحة، واتخاذ قرارات منطقية حول القيم الاجتماعية المتاحة، وتوظيف المناقشات والمناظرات، واستخدام المصادر والمحاكاة والبحوث من أجل تنمية التفكير الناقد والقدرة على اتخاذ القرار، والتدريب على تطبيق القيم عند معالجة القضايا والمشكلات المجتمعية، والمشاركة في خبرات تعليمية تنمي العقلية العـــادلة fair mindedness، وتشجع على الاعتراف بوجهات نظر الآخرين واحترامها، واحترام التشابهات والاختلافات الثقافية، والالتزام بالمسئولية الفردية والاجتماعية.
• التعليم المتحدي:
يجب أن يعكس عمل المتعلمين توازنًا بين استرجاعهم للمحتوى وسرده، وبين الدراسة العميقة للمفاهيم؛ من أجل توفير فرص تحدي فكري لهم، ولذلك يجب على المعلم تفسير المعايير الفكرية المتوقعة من المتعلمين، مثل: الوضوح، والدقة، والاكتمال، والعمق، والصلة بالموضوع، والإنصاف وعدم التحيز.
يؤدي التحدي في التعليم والتعلم إلى استخدام الكتابة المنظمة، وتحليل أنواع مختلفة من الوثائق، مثل: المصادر الأولية والثانوية، الرسوم البيانية والرسوم التوضيحية، وبنوك المعلومات، بحيث تشمل مصادر من الفنون، والعلوم الإنسانية، والعلوم، والمحادثات الحقيقية، والعمليات الاستقصائية.
• التعليم والتعلم النشط:
تحتاج عمليات التعليم والتعلم النشطة من المتعلمين أن يفكروا فيما يتعلمونه، فهناك فرق بين التعلم عن إجراءات ونتائج الآخرين، والتفكير في تلك الاستنتاجات، فالتعلم النشط ليس مجرد تدريب عملي.
فالتعلم النشط يساعد المتعلمون على العمل بشكل فردي وجماعي، واستخدام مصادر غنية ومتنوعة؛ للتوصل إلى الفهم، واتخاذ القرارات، ومناقشة القضايا وحل المشكلات. كما يساعد التعلم النشط في عمليات بناء المعني من خلال التفسيرات الواضحة، والنمذجة، والتفاعل، وطرح الأسئلة، والإجابة عنها، والمناقشة، والمشاركة في المشروعات، مما ينمي التفكير الناقد لدى الطلاب.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الثقافة بين البناء وتأجيج الصراعات
- الفكر المتطرف في مجتمعنا العربي
- التعليم وثقافة التنمية المستدامة في العالم العربي
- الدراسات الاجتماعية في التعليم العربي
- التعليم العربي.. التطوير وضرورة مواجهة أزماته
- نحن والغرب.. ثراء التنوع الثقافي الصراع عبث والتعايش محتوم
- أزمات تعليم الدراسات الاجتماعية في المجتمعات العربية
- التربية والثقافة المعلوماتية طريق العالم العربي للتنمية الذكية
- التنور التكنولوجي.. البُعد الغائب في حياة أولادنا
اكتب تعليقك