أزمات تعليم الدراسات الاجتماعية في المجتمعات العربية الباب: مقالات الكتاب
د. إدريس سلطان صالح أستاذ جامعي - مصر |
نعيش اليوم ثمة تغيرات محلية وعالمية لها التأثير البالغ في مجتمعاتنا العربية، وترتب عليها تحديات لمنظومة التعليم ودورها في إعداد طلابنا للتعامل مع تلك التغيرات ومتطلباتها، من خلال تسليحهم بالمعارف والمهارات والقيم الإيجابية التي تجعل منهم مواطنين صالحين، قادرين على النهوض بمجتمعاتهم، والعمل على تطورها.
ورغم تلك التغيرات وما تفرضه من تحديات على منظومة التعليم، إلا أن المتأمل لواقع التعليم العربي وما يتضمنه من مناهج دراسية، يلحظ ثمة مشكلات متنوعة، كان لها التأثير الواضح فيما نشهده اليوم من غياب كثير من قيم المواطنة والسلوكيات المرتبطة بها لدى الأجيال الناشئة. ولعل أهم المناهج الدراسية المرتبطة بإعداد المواطن الصالح هي مناهج الدراسات الاجتماعية وفروعها المتنوعة، وما يرتبط بها من إدراك لمفهومها وطبيعتها وموضوعاتها ودورها التربوي، والممارسات التدريسية المناسبة لتحقيق أهدافها في المدرسة، ومن ثم المجتمع ككل، ورغم تلك المكانة للدراسات الاجتماعية إلا أن الواقع يشير إلى معاناتها من أزمات متعددة.
أزمة مصطلح الدراسات الاجتماعية:
تتمثل أزمة مفهوم الدراسات الاجتماعية في تنوع المصطلحات المستخدمة في التعليم العربي للتعبير عن طبيعة الدراسات الاجتماعية وموضوعاتها في المنهج المدرسي، فالبعض يطلق عليها العلوم الاجتماعية Social Sciences تمييزًا لها عن العلوم الطبيعية Natural Sciences، أو المواد الاجتماعية والاجتماعيات. ورغم هذا التنوع إلا أن مفهوم الدراسات الاجتماعية Social Studies هو الأكثر استخدامًا في نظم التعليم العالمية وبعض الدول العربية، باعتبار أنه مفهوم شامل ويحقق تكامل وترابط فروع المعرفة الاجتماعية والإنسانية المتنوعة، بهدف دعم قيم المواطنة والكفايات المدنية لدى الطلاب في التعليم العام، أكثر من مجرد التركيز على مواد أو موضوعات دراسية منفصلة كما في المواد الاجتماعية.
فتُعرف العلوم الاجتماعية بأنها الدراسات التي تستخدم المنهج العلمي في دراسة مظاهر النشاط الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع. وتتنوع فروعها لتشمل التاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، الأنثروبولوجيا، وعلم الجريمة، والقانون، والفلسفة، والدين، والتربية. في حين نجد أن الدراسات الاجتماعية تعني الدراسة التكاملية للعلوم الاجتماعية والإنسانية من أجل دعم الكفايات المدنية، وأنها جزء من المنهج المدرسي الذي يعني بدراسة العلاقات الاجتماعية ووظائف المجتمع وأدواره، من خلال دمجها لفروع العلوم الاجتماعية والإنسانية معًا من منظور تكاملي شامل.
ورغم التشابه بين الدراسات الاجتماعية والعلوم الاجتماعية في مجال الدراسة، واعتماد الدراسات الاجتماعية في محتواها على بنية العلوم الاجتماعية من حقائق ومفاهيم ومهارات وغيرها، إلا أن الفرق بينهما يتضح في مستوى التناول، والهدف الذي تسعى إليه كل منهما. حيث تتناول الدراسات الاجتماعية الموضوعات والقضايا التي تتناولها العلوم الاجتماعية في مستوى بسيط يناسب تحقيق أهداف تربوية محددة لدى المتعلمين في التعليم العام، بهدف إعدادهم كمواطنين فاعلين في مجتمعاتهم.
أزمة محتوى وموضوعات الدراسات الاجتماعية:
لا شك أن الدراسات الاجتماعية اليوم تختلف عن الدراسات الاجتماعية في الماضي، حيث تطورت فروعها ومحتواها وأدواتها، نتيجة التطورات والتحديات العالمية المعاصرة، التي كان لها تأثير في شتى فروع المعرفة وتطبيقاتها. وقد فرضت هذه التحديات على الدراسات الاجتماعية أن تطور محتواها، من معارف ومهارات وجوانب وجدانية، بحيث تكون قادرة على المساهمة في إعداد أجيال تستطيع التعامل مع هذه التحديات ومواجهتها.
حيث كان من نتائج الثورة التكنولوجية والمعلوماتية ظهور فروع معرفية جديدة في شتى مجالات الدراسات الاجتماعية، وخاصة الجغرافيا، مثل: جغرافية الجريمة، وجغرافية الخدمات، والجغرافية الطبية، وجغرافية الترويح، إضافة إلى تغير النظرة إلى كثير من مفاهيم الدراسات الاجتماعية، مثل: الحدود والسيادة والدولة وغيرها، وظهور مفاهيم جديدة كالعالم متعدد الثقافات، والثروة العالمية، والإرهاب الدولي وغيرها.
ومن التطورات التي شهدتها الدراسات الاجتماعية أيضًا، الاتجاه نحو الأساليب الكمية فى استفادة من التقدم الهائل فى علوم الحاسب والثورة المعلوماتية والكمبيوترية، مثل الاستفادة من تقنيات الاستشعار عن بعد فى توفير معلومات حديثة وشاملة عن الظواهر الجغرافية والإنسانية، مما يمكن الدارسين من الحصول على بيانات وخرائط دقيقة، وتزايد استخدام نظم المعلومات الجغرافية، واتساع مجال تطبيقاتها فى كافة المجالات المجتمعية، من خلال جمع المعلومات الجغرافية من مصادرها المتنوعة، ومنها الخرائط، والصور، والكتب، والكلمات المسموعة، والتقارير، وإدخال هذه المعلومات وتخزينها فى قواعد بيانات جغرافية، وتحليل البيانات وإنتاجها فى صورة بيانات إحصائية أو تقارير أو خرائط.
ونتيجة للتطورات التي شهدتها الدراسات الاجتماعية، لم تعد النظرة التقليدية لمحتواها وموضوعاتها صالحة لأداء دورها في إعداد المواطن الصالح، الذي ينبغي أن يمتلك المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم اللازمة لقيامه بدوره في خدمه مجتمعه.
ولتحقيق الهدف من الدراسات الاجتماعية في تنمية المواطنة ودعم الكفايات المدنية لدى الطلاب في ضوء التطورات المحلية والعالمية التي نشهدها حاليًا، حدد المجلس القومي الأمريكي للدراسات الاجتماعية موضوعات أساسية لها تركز على الثقافة، والزمن والاستمرارية والتغير، والناس والأماكن والبيئات، والتطور الفردي والهوية، والأفراد والجماعات والمؤسسات، والسلطة والحكم، والإنتاج والتوزيع والاستهلاك، والعلم والتكنولوجيا والمجتمع، والعلاقات الكونية، والمُثل والممارسات الوطنية.
أزمة تدريس الدراسات الاجتماعية:
تتمثل أزمة تدريس الدراسات الاجتماعية في سيطرة المفهوم التقليدي للتدريس الذي يركز على ما يقوم به المعلم من أنشطة لنقل المعارف إلى عقول الطلاب داخل الفصل الدراسي، بمعنى أن المعلم ينقل ما لديه من معارف إلى طلابه الذين يستقبلون هذه المعارف لحفظها واسترجاعها وقت الحاجة إليها.
ولذلك فالدور الأساسي في عملية التدريس يقع على المعلم، والذي يعد دوره إيجابيًا في العملية التعليمية، لما يقوم به من نقل لمعارف الدراسات الاجتماعية، وبالتالي أصبح هذا المعلم مصدرًا أساسيًا للمعرفة، بينما الطالب دوره سلبي، لأنه مجرد متلقي للمعارف التي ينقلها إليه المعلم، وبالتالي لا يشارك في أي عملية للحصول على المعرفة كالبحث أو الاستقصاء أو غيرها من طرق الحصول على المعرفة.
وترتب على التدريس وفق النظرة التقليدية أنه تم التركيز على جانب واحد من جوانب نمو الطلاب، وهو الجانب المعرفي، وأصبح تعلم الطالب للدراسات الاجتماعية يقاس بما يحفظه من معلومات ومعارف تلقاها من معلمه، ولذلك كان هناك إهمالًا لبقية جوانب النمو، مثل المهارات والجوانب الوجدانية، وكذلك كان هناك تركيزًا على الاختبارات التحصيلية دون غيرها من أدوات التقويم، مثل الملاحظة واختبارات الأداء والمقاييس النفسية...الخ.
وتأكيدًا لتلك الأزمة، فقد توصلت الدراسات والبحوث التي تناولت تدريس الدراسات الاجتماعية في التعليم العام، إلى بعض المشكلات في تدريسها، مثل:
- التركيز على الجوانب المعرفية.
- عدم الاهتمام بالجوانب النفسية والاجتماعية.
- إهمال الجوانب المهارية.
- تركيز التدريس واستراتيجياته على الحفظ والتلقين.
- ضعف استخدام أساليب التعلم الذاتي.
- إهمال العمل الجماعي ومهاراته في عمليات التعليم والتعلم.
- ضعف الاهتمام بتنمية مهارات التفكير الإبداعي والناقد.
- ضعف استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ونتيجة لما سبق من مشكلات يعانيها تدريس الدراسات الاجتماعية، أصبحت هناك ضرورة لتطوير تدريسها بمعناه الواسع، حتى يكون تدريسًا فعالًا يحقق الهدف منها في إعداد مواطنين فاعلين في مجتمعاتنا. ولذلك حدد المجلس القومي الأمريكي للدراسات الاجتماعية مبادئ أساسية لتدريسها الفعال، وهي:
- يكون تدريس الدراسات الاجتماعية فعالًا عندما يكون ذو معنى.
- يكون تدريس الدراسات الاجتماعية فعالًا عندما يكون متكاملًا.
- يكون تدريس الدراسات الاجتماعية فعالًا عندما يستند إلى القيم.
- يكون تدريس الدراسات الاجتماعية فعالًا عندما يكون متحديًا.
- يكون تدريس الدراسات الاجتماعية فعالًا عندما يكون نشطًا.
يتضح مما سبق تنوع الأزمات التي تعانيها الدراسات الاجتماعية في مدارسنا، رغم تغير النظرة إلى مفهومها وطبيعتها وموضوعاتها وأهدافها. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى مراجعة تصوراتنا عن الدراسات الاجتماعية في مدارسنا العربية، والعمل على تطوير أهدافها ومحتوى موضوعاتها وتدريسها بما يواكب التطورات العالمية، ويساير رؤى النظم التعليمية المتطورة للدراسات الاجتماعية، حتى تحقق لنا الهدف المنشود من تربية أبنائنا، وتمدهم بالمعارف والمهارات والقيم التي تؤهلهم لمستقبل متغير، يتطلب منهم فهم كل متغيراته ومتطلباته.
المراجع:
- أحمد بدر (2001). مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع.
- أحمد عبدالرحمن النجدى، وآخران (2002). الدراسات الاجتماعية ومواجهة قضايا البيئة. القاهرة: دار القاهرة.
- فوزي الشربيني وعفت الطناوي (2006). الموديولات التعليمية مدخل للتعلم الذاتي في عصر المعلوماتية. القاهرة: مركز الكتاب للنشر.
- مصلح صالح (1999). الشامل قاموس مصطلحات العلوم الإجتماعية إنجليزي وعربي. الرياض: دار عالم الكتب.
- Friesen, S. (2009). What did you do in school today? Teaching Effectiveness: A Framework and Rubric. Toronto: Canadian Education Association.
- National Council of the Social Studies. (2008). A vision of powerful teaching and learning in the social studies: Building civic efficacy. Retrieved from:
http://www.socialstudies.org/positions/powerful
- National Council for the Social Studies (2010). National Curriculum Standards for Social Studies: A Framework for Teaching, Learning, and Assessment. Silver Spring, MD: NCSS.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الثقافة بين البناء وتأجيج الصراعات
- الفكر المتطرف في مجتمعنا العربي
- التعليم وثقافة التنمية المستدامة في العالم العربي
- الدراسات الاجتماعية في التعليم العربي
- التعليم العربي.. التطوير وضرورة مواجهة أزماته
- نحن والغرب.. ثراء التنوع الثقافي الصراع عبث والتعايش محتوم
- أزمات تعليم الدراسات الاجتماعية في المجتمعات العربية
- التربية والثقافة المعلوماتية طريق العالم العربي للتنمية الذكية
- التنور التكنولوجي.. البُعد الغائب في حياة أولادنا
اكتب تعليقك