منتزهات قرطبة الإسلامية حصيلة أشغال بعثة أثرية في منتزه منية الرمانيةالباب: مقالات الكتاب
د. عبدالرحيم الرحوتي أستاذ الألسن وعلم الترجمة بالمعهد العالي الدولي للسياحة، طنجة، المغرب |
فن المنتزهات الذي كان منتشرًا في إسبانيا الإسلامية تم استيراده، بحسب الباحثين، من المشرق ومن إفريقيا الشمالية. كانت المنتزهات والحدائق غالبًا ما توجد على مقربة من القصور ومن بيوتات الأعيان ودارات الأغنياء التي تقع في معظم الأحيان بأطراف المدن. مثل جميع المنتزهات المشرقية، فإن منتزهات إسبانيا الإسلامية كانت تتشكل من شبكة مغلقة من الوحدات مربعة الشكل على العموم، أما هندسة المدرجات التي توجد بها، فهو إسهام إسباني تم ابتكاره لتوفير مجال للرؤية عن بعد 1.
لم يسأم الشعراء والأدباء وحتى المؤرخين العرب من ذكر منتزهات قرطبة وجمالها الرائع: أنهار متدفقة، مياه عذبة رقراقة، نافورات، أحواض عظيمة صممت بأشكال هندسية راقية، أسقف وجدران زخرفت بماء الذهب واللازورد، أشجار باسقة صفت على شكل سطور متناظرة، أزهار من مختلف الأشكال والألوان رتبت بطريقة تجعل الناظر يراها وكأنها تبتسم لبعضها البعض ... 2. يبدو أن مثل هذه الأوصاف كانت مألوفة ومتداولة بشكل واسع إلا أنها لا تشكل، بأي حال من الأحوال، حجة لإثبات الظاهرة، خاصة وأن منتزهات قرطبة التي تعود إلى القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي اندثرت ولم يعد لها وجود 3، أما المنتزهات التي لازالت موجودة، مثل منتزه قصر الحمراء في غرناطة، فقد شيدت في وقت متأخر 4. من كل المنتزهات التي كانت تتوفر عليها قرطبة، وحده منتزه حاضرة الخلافة المسمى مدينة الزهراء، الذي يبعد بثمانية كيلومترات عن المدينة بقيت بعض معالمه صامدة في وجه الزمن، ولكن يتعلق الأمر بفضاء في حالة خراب. مع ذلك، استطاع علماء الآثار تحديد من خلال الآثار المتبقية منه هيكله العام الذي يمكن إجماله على الشكل التالي: وسط مساحة على شكل مربع تقريبًا يبلغ قياس أضلعه 150 مترًا، كان يوجد بناء تحيط به أربعة أحواض، ومنها كانت تنطلق في الاتجاهات الأربعة الرئيسية أربع ممرات تمتد على جوانبها قنوات مياه 5.
من لديهم معرفة بالمنتزهات المشرقية يرون في هذا الرسم شكل صليب «جهار باغ»، أي أن الأمر يتعلق بمنتزه مقسم إلى أربعة أجزاء بحسب ما تدل عليه العبارة الفارسية. مع الأسف، لم يعد في الإمكان العثور على آثار صفوف محتملة تتشكل من أشجار مرتبة على هيئة سطور متناظرة. لقد خضع المنتزه بالفعل، لأعمال تنقيب في أربعينيات القرن الماضي، وهي حقبة لم تكن فيها إمكانية دراسة بقايا النباتات بمنهجية علم الآثار الأحيائي متوفرة لدى علماء الآثار الإسبان. الأسوأ في كل ذلك، يسجل فيليكس أرنولد، أن المنتزه أعيد تشجيره، بحيث صارت حتى الدراسات الجزئية مستحيلة، على اعتبار أنه لم يعد في الإمكان التمييز بين ما هو قديم وما هو حديث 6.
المنتزه الموريسكي المشهور باسم «ألكزار» (القصر) في مدينة إشبيليا، لا يساعد، لا قليلاً ولا كثيرًا هو الآخر، في الإجابة عن أسئلة من قبيل: هل كانت مجاري المياه في المنتزه على شكل جداول أو قنوات؟ ما هي أنواع المغروسات التي كانت توجد به؟ وما هي طبيعة أريجها؟ إلخ. من المؤكد أن تاريخ هذا المنتزه يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، ولكن تهيئته أعيدت من جديد انطلاقًا من القرن الثالث عشر إلى حد أن البنايات الجديدة غيرت من شكله الأصلي. أما فيما يخص حدائق قصر الحمراء في غرناطة، فإنها تعكس اليوم فكر حقبة أخرى من تاريخ إسبانيا الإسلامية، حتى وإن كان أصلها يعود إلى عصر الخلافة بقرطبة 7.
بأي طريقة يمكن ضبط هندسة الهيكلة الحقيقية للمنتزهات الأندلسية بقرطبة في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي وتوثيقها؟ للإجابة عن هذا السؤال تشكل، في خريف 2006، فريق علمي إسباني ألماني خصص مهمته لدراسة منتزه قصر ريفي أندلسي قديم يوجد على بعد عشرة كيلومترات غرب قرطبة (يعرف باسم منية الرمانية). جزء كبير من مساحة هذا المنتزه لم يتعرض للنبش، كما أن أسس البناية بقيت على حالتها الأصلية ولم يلحقها أي تغيير أو هدم 8.
تشكل فريق البعثة من كل من فاليخو تْرِيانو محافظ مدينة الزهراء وألبيرتو كانتو غارسيا أستاذ علم آثار القرون الوسطى في جامعة مدريد المستقلة وفيليكس أرنولد من معهد علم الآثار الألماني بالقاهرة. عملت البعثة على مواصلة الأبحاث التي سبق وأن قام بها ركاردو فيلاسكيز بوسكو مؤرخ الهندسة المعمارية الإسبانية الذي أنجز، في 1910، دراسة لبنايات القصر التي تعود لعصر الخلافة الأموية بالأندلس، قبل أن يقرر أحد الأرستقراطيين الإسبان بناء إقامة صيفية له بعين المكان. من جملة الأشياء التي اكتشفها ريكاردو فيلاسكيز بوسكو بقايا زخارف من الرخام، التي يمكن مشاهدتها اليوم في متحف علم الآثار بقرطبة 9.
يقع القصر شمال نهر الوادي الكبير على السفح الجنوبي لجبال سييرا مورينا في الجنوب الإسباني. ينعت في المصادر العربية القديمة باسم مُنية الرمانية، أي قصر وادي الرمان10. يتوفر القصر على عدد من المدرجات يبلغ طول كل واحد منها 150 مترًا وعرضه 50 مترًا، ثلاثة منها كانت مُهيأة على شكل منتزهات تتدرج على ارتفاع يصل إلى حوالي ثلاثة أمتار. فوق المدرج الأكثر ارتفاعًا كانت توجد مباني للسكن والاستقبال وكذلك حوض كبير أعد لتجميع مياه الأمطار 11.
مالك القصر الأول كان يشغل منصب وزير المالية (خازن) لدى الخليفة الحكم الثاني، ينعت بالدُرِّي (303 - 366 هـ/915 - 976م)، أي «الصبي» وهو سليل عائلة ذات نفوذ مما جعله يتحمل مسؤوليات كبرى في سن مبكر. قد يكون الدُرِّي شرع، انطلاقًا من سنة 355 هـ/965م، في بناء قصر مُنية الرمانية مخصصًا لذلك مجموع ثروته. لكنه لم يتمكن، للأسف، من التمتع به لمدة طويلة، إذ اتهم باختلاس أموال عمومية وتحويلها لفائدة مشاريعه، فغضب عليه الخليفة وعزله في أبريل 363 هـ/973م. في سياق تسوية قضيته سيتنازل الدُرِّي لفائدة الخليفة عن قصره بعد أن نظم به حفل استقبال كبير على شرف هذا الأخير. بعد وفاة الخليفة، تعرض الوزير المذكور لمؤامرة داخل البلاط ولقي حتفه في أثناء هربه 12.
خصص علماء البعثة الجزء الأول من أعمال البحث لدراسة فضاءات السكن والاستقبال، وأفردوا الجزء الثاني لدراسة نظام التزود بالمياه. بعد توثيق الآثار التي لازالت موجودة إلى اليوم، انصب الاهتمام على الجدار المحيط بالقصر الذي لازالت بعض أجزائه في حالة جيدة. تشبه بنيته الغريبة بنية جدار مُفَرَّغ، إذ هو عبارة عن تسلسل لأعمدة من كتل الكلس ملأت الفجوات الفاصلة بينها بالطين المدكوك 13.
لا شك أن حوض الماء كان يشكل مفخرة معمارية، إذ تبين خلال البحث أن طوله كان يبلغ 50 مترًا وعرضه 30 مترًا وعمقه أربعة أمتار، وهو بذلك يعد أحد أكبر الأحواض المائية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. عمل الفنيون على إحداث حفرة في الأرض أحاطوها بجدار من حجارة جعلوه مسيكا لمنع تسرب المياه مستعملين في ذلك طلاء خاصًّا وأنهوا عملهم بصقل الجدار، ثم أقاموا داخل الحوض أعمدة متوجة بأقواس وضعت فوقها صفائح من حجارة، بحيث يمكن السير فوق سطح الماء والتمتع بمشاهدة الأسماك في داخله 14. كانت لهذه الهياكل، على رأي أعضاء الفريق العلمي، وظيفة أخرى، تتمثل في توفير الظل للأسماك في حوض لا وجود به لأي نباتات مناسبة.
نظام تجميع واستغلال المياه آثار إعجاب أعضاء البعثة العلمية. أغلب التقنيات المستعملة كانت موجودة، بعضها منذ العصر الروماني، ولكن التنفيذ يكشف عن وجود كفاءة عالية لدى الفنيين الذين أشرفوا على الإنجاز. تم تحويل صبيب مياه أحد جداول الجبل وهو ما تحقق عن طريق إنشاء سد لتجميع المياه، ومنه كانت تنطلق قناة نحو الحوض المذكور 15. سجل العلماء كذلك، وجود عدد من العيون في الأرض المحيطة بالقصر بنيت جنباتها بالحجارة، لتسهيل عملية استغلال مياهها، كما لاحظوا وجود سرداب كان يستعمل لتجميع المياه، وقناة تحت الأرض استغلت لجلب المياه الجوفية من الجبل المحاذي، وعاينوا كذلك وجود خزان أنشئ لتوفير مياه الشرب، أما مياه الحوض فكانت تستغل في سقي المغروسات وتلطيف الجو صيفًا في قاعة الاستقبال 16.
في 2008، خصصت البعثة العلمية مهمتها لدراسة النباتات التي كانت توجد في محيط المنتزه باستعمال تقنية علم الآثار الأحيائي. بدأ العمل بتجميع عينات من تربة استخرجت من خنادق حفرت خلال أعمال التنقيب، ثم أرسلت إلى مختبرات جامعة خَايِّن (جَيَّان) بالأندلس بهدف إخضاعها للتحليل وتجميع كل بقايا النباتات العالقة بها. الغريب في الأمر، هو أن الأراضي الواقعة بجوار البناية مباشرة هي التي ستكشف عن أكبر قدر من المعلومات. وهذا شيء يساعد تاريخ منية الرمانية على تفسيره بسهولة، بحسب العلماء، ذلك أن حريقًا كان قد التهم البناية، في 399هـ/1009م، خلال إحدى الفتن، وهو الحريق الذي نتج عنه انتشار رماد كثيف فوق الأرض المجاورة للبناية والتحامه بالتربة مشكلاً ما يشبه طبقة عازلة ساهمت في الحفاظ على ما كان عالقًا بها 17.
تعجب العلماء بعد تمكنهم من نتائج التحليلات المخبرية، ذلك أنهم لم يجدوا بالعينات المدروسة لتربة منية الرمانية أي أثر للزنبق والورد والأقحوان والبنفسج والنسرين ... باختصار، كل الأزهار التي يسهب الأدباء العرب في ذكرها عندما يصفون المنتزهات المشرقية لا أثر لها في عينات التربة التي أخضعت للتحليل. هذا الجزء من المنتزه الذي كان يتصور أنه يتعين أن يكون عبارة عن فضاء للزينة، اتضح في نهاية الأمر أنه حقل زيتون 18. بالإضافة إلى ذلك، اكتشف الباحثون في جامعة خاين (جَيَّان) خلال تحليلهم للعينات المنتقاة من التربة وجود آثار لأشجار اللوز والبرقوق والكرز، ولكن، وهو أمر يتعين تسجيله، لم يجدوا، في مكان يحمل اسم وادي الرمان، أي أثر لهذا النوع من الأشجار 19. يظهر، عند هذا الحد من البحث، أن بساتين منية الرمانية كانت تتكون من مغروسات هي عبارة عن أشجار مثمرة وليست أزهارًا للزينة. كون أن أعضاء الفريق العلمي لم يقعوا بالمكان على أي أثر لممرات مرصفة قوى لديهم هذا الانطباع 20.
الأوصاف المتوفرة عن منية الرمانية في الكتابات القديمة تؤكد هي الأخرى هذا الانطباع، لأنه لم يرد فيها ذكر لوجود أزهار أو مغروسات من النوع الذي يستعمل للزينة. يحرج مثل هذا الوضع المؤرخين المتخصصين في فن المنتزهات الذين تأثروا بالإشارات الأدبية العديدة التي توحي بوجود جنات فوق الأرض، إلا أنها تنكشف في النهاية، كما يقول فيليكس أرنولد، عبارة عن فضاءات لا تختلف كثيرًا عما هو موجود في الواقع 21.
قصور قرطبة الريفية أنشأت في سياق ظاهرة مشابهة، حيث توصف في الكتابات التاريخية، باعتبارها أمكنة للترويح يقصدها أصحابها في الصيف هربًا من حرارة المدن، ولكن أيضًا للراحة بعد الحرب، كما كانت تشكل فضاء لأحداث اجتماعية مهمة مثل الأعراس وحفلات العقيقة أو الختان 22. في مثل هذه الفضاءات التي أعيد فيها إنتاج طبيعة متحكم فيها، حيث يتم التفكير والاشتغال في السياسة وهو ما يفسر وجود قاعات الاستقبال 23.
كما ينص على ذلك فيليكس أرنولد، فقد تمكن أعضاء البعثة العلمية، في 2006، من الحصول على مؤشرات أفضت إلى استنتاج أن القاعة المجاورة للحوض المائي الكبير في منية الرمانية كانت قاعة استقبال، وأن حفريات 2008 و2009 ساعدتهم في الكشف عن شكلها وبعض قطع سقفها وزخارفه المصنوعة من الرخام ليتضح من خلال فحص القطع المذكورة أن الأقواس كانت تحمل نقوشًا ورسوم نباتات مثل أوراق الأقنثة والكرم والرمان، وكذلك رسوم حيوانات مثل الطيور والأسد أو الغزلان، وهي كلها، كما يقول، كانت تشكل موضوعات مميزة لفنون الرسم الإسلامي، كما أنها تجسيد لأعمال فنية توجد دائمًا عند منتصف الطريق بين ما هو معماري وما هو طبيعي 24.
لاحظ أعضاء البعثة العلمية الألمانية الإسبانية خلال أعمال التنقيب أن الأقواس التي تتصل عبرها قاعة الاستقبال الكبرى بالخارج تكشف عن بعض جوانب فكر النخبة في حاضرة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. كانت هذه الأقواس تفتح مجال الرؤية على الحوض المائي الكبير من جهة الشمال، وتفتحه من جهة الجنوب في اتجاه مدرجات المنتزه ونهر الوادي الكبير في البعيد. الحفريات التي سمحت بالكشف عن أسس بناء القاعة أوحت بتطبيق مبدأ هندسي عند وضع هذه الأقواس، بحيث أن عرضها يطابق بالضبط قاعدة مثلث متساوي الأضلاع تلامس قمته الأقواس المقابلة، تلك التي توجد في الجهة الأخرى من القاعة. كما نعلم، فإن زوايا مثلث متساوي الأضلاع تتساوى مع بعضها في ستين درجة، وهو معطى يطابق زاوية النظر القصوى لشخص ثابت في مكانه. بناء على ذلك، يلزم أن يكون المهندس أو الرسام أو المصور قد أخذ في الحسبان مسبقًا هذا المعطى عند قيامه بتهيئة مجال الرؤية 25.
هل كان الفنيون الذين أشرفوا على بناء قصر منية الرمانية على علم بهذه المسألة؟ في بلاط القاهرة، حيث كان يشتغل، عمل الرياضي والفلكي أبو علي الحسن بن الحسن ابن الهيثم (354 – 430 هـ / 965 – 1040 م) على صياغة هذا المبدأ البصري في كتابه الذائع الصيت «كتاب المناظر». ما قام به هذا العالم العربي الذي يعد رائد الدراسات العلمية للرؤية، من قطع مع المفهوم القديم للبصريات، لازال ينظر إليه إلى اليوم بصفته إنجازًا ضخمًا، بل وثورة علمية حقيقية. مع ذلك، فإن «كتاب المناظر» الذي انتشر بشكل واسع في أرجاء العالم الإسلامي وترجم إلى اللاتينية وعليه استند العلماء الأوربيون في أبحاثهم، وهو الذي هيئ لهم الظروف المناسبة لابتكار مبدأ «المنظور» في عصر النهضة، تم تأليفه عشرات السنين بعد ابتكار المنتزهات التي نتحدث عنها 26.
لا يستبعد أن يكون ابن الهيثم قد استفاد من الأفكار التي كانت رائجة عند العلماء المسلمين في عصره، مثل العالم الرياضي القرطبي أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي (338 -398 هـ/950 – 1007م) وهو عالم كبير عرف بباعه الطويل في علمي المساحة والتثليث. حتى ولو لم يكن الأمر يتعلق إلا بتخمين، فإن الملاحظات التي تم تسجيلها في منية الرمانية أوحت للفريق العلمي بأن ابن الهيثم قد لا يكون هو أول من تعرف على قانون انحصار النظر عند الإنسان: أقواس القاعة تعطي للعين نطاقًا ثابتًا لمشاهدة المنظر 27، ومن ثم فإن هذا التنظيم لا يمكن أن يكون عرضيًّا، بل إن في الأمر ما يوحي بأنه اختيار واعي من قبل المهندس المعماري الذي أشرف على تشييد قصر منية الرمانية 28.
في كتابه «فلورانسا وبغداد، قصة البصر بين الغرب والشرق»، يطرح مؤرخ الفنون الألماني هانز بيلتينغ فكرة مفادها أن العالم الإسلامي وضع مبادئ البصريات بشكل سليم، ولكنه لم يطبقها في مجال الفن، لأن مثل ذلك كان يقتضي، على رأيه، افتراض وجود مشاهد في تصور الفضاء، وهو تصور ذهني يعتبره مؤرخ الفن الألماني سمة مميزة لعصر النهضة الأوربية مرتبطة بالمفهوم الجديد للإنسان الذي بدأ في الانتشار آنذاك 29. من دون وجود مشاهد مفترض في قاعة الاستقبال يكون بصره موجهًا نحو الخارج، يقول فيليكس أرنولد، فإن تناسب أقواس قاعة الاستقبال في قصر منية الرمانية لا يمكن تفسيره، بالنظر إلى أنه لا يمكن الإحاطة بمجال الرؤية بشكل دقيق إلا انطلاقًا من نقطة واحدة 30.
يميل فيليكس أرنولد إلى الاعتقاد بأن منتزه منية الرمانية قد يكون تجسيدًا لواحدة من القيم التي أصبغت على الفرد في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وانطلاقًا من هذه الفرضية يتساءل بهدف معرفة ما إذا كان في الإمكان القول إن نوعًا من «النهضة الإسلامية» قد يكون وجد نقطة انطلاقه في قرطبة؟ لا يستبعد عالم الآثار الألماني مثل هذا الاستنتاج، خاصة وأن المبادئ الهندسية التي طبقت في قرطبة، كما يقول، ستطبق من جديد، في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، في قصر الجعفرية بسرقسطة وفي قصبة ألميرية، حيث تستقطب الأقواس النظر من الداخل في اتجاه المنتزهات 31.
الظروف السياسية، بشكل خاص تلك التي نشأت مع أجواء الحروب المتوالية، قد تكون أعاقت، كما يقول، تطور هذه النهضة الإسلامية الوليدة، خاصة وأنه في 399 هـ/1009م، ستزداد حدة الصراعات العرقية بين السكان الأصليين والمهاجرين الذين جاؤوا من إفريقيا الشمالية والرقيق الذين استقدموا من أوربا، وانتهى ذلك باندلاع فتنة كبيرة في حاضرة قرطبة ترتب عنها خراب أجزاء واسعة من المدينة وهجرها عدد كبير من سكانها بسبب هذه الأحداث. قصر منية الرمانية، لم يسلم بدوره من آثار هذه الفتنة، بحيث التهمته النيران عن آخره وحولته إلى رماد. إثر ذلك، سيهاجر العلماء والفنانون ويغادرون قرطبة بحثًا عن أماكن آمنة وجدوها في بلاطات مماليك استقلت بذاتها عن الحكم المركزي.
الهوامش:
1. Felix Arnold : Des jardins mauresques à la renaissance, Pour la science, N° 426, avril 2013.
2. أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1988، ج 1، ص 466-479. ينظر كذلك كتاب الحدائق والجنان من أشعار أهل الأندلس وديوان بني فرج شعراء جيان، جمع وترتيب وشرح الدكتور محمد رضوان الداية، نادي التراث، أبو ظبي، 2003.
3. Felix Arnold : Des jardins mauresques à la renaissance, op. cit. pp. 28-34
4. D. Fairchild Ruggles: Gardens, Landscape, and Vision in the Palaces of Islamic Spain, Pennsylvania State University Press, 2000, pp. 46.
5. Félix Arnold, Alberto Canto García, Antonio Vallejo Triano : Madinat al-Zahra, in Revista de difusión científica del Conjunto Arqueológico Nº 6, 2008, pp. 181-204
6. Félix Arnold, Alberto Canto García, Antonio Vallejo Triano : Madinat al-Zahra, op. cit. pp. 181-204
7. Felix Arnold, Alberto Canto García, A. Vallejo Triano: Das islamische Landgut ar-Rumaniya bei Córdoba, op. cit. pp. 503-523.
8. Félix Arnold, Alberto Canto García, Antonio Vallejo : La Almunia de al-Rummaniyya. Resultados de una documentación arquitectónica, op. cit. pp. 181-204.
9. Felix Arnold, Alberto Canto García, A. Vallejo Triano : Das islamische Landgut ar-Rumaniya bei Córdoba, op. cit. pp. 503-523
10. خصص ابن حيان في كتاب المقتبس في أخبار بلاد الأندلس، تحقيق عبدالرحمن حجي، بيروت، 1983، ص 106 – 107، وصفًا دقيقًا لهذه المنية نورده فيما يلي للفائدة: «وفي النصف من شعبان منها (أي سنة 362 هـ / 972 م) اقترب الفتى الكبير دري الأصغر الخازن الصقلبي إلى الخليفة مولاه بإهدائه إليه منيته الغراء بوادي الرمان المنسوبة إليه. وكانت اختراعه ومرسى جنته ومستفرغ نفقته حتى أبلغ منها الغاية التي ناغاها كثير من منى مولاه وقسمت له حظًا من هواه صيره ينتابها أيام نزهه ويقسم لها من راحاته، تحرى لها هذا الفتى مسرته فزفها عند استوائها واكتمالها هدية إليه، بجميع ما كان له فيها داخلها وخارجها من البساتين المسقية والأرضين المزدرعة، وما كان له بها من عبد وأمة وثور ودابة، اشتمل ذلك على أعداد متوالية وأموال وافرة ونعم مؤثله تقبلها منه الخليفة مولاه وأبدى لها مسرة، وتقدم إليه بإقراره عليها وكيلاً ومسندًا إلى نظره فيها، كما لا ينخرم شيء من عمرانها، فعمل بذلك، وسأل الخليفة أثر ذلك أن يشرفه بحضور دعوة يعدها له فيها، فيشهدها بالأمير هشام ولده وعياله، فنيف بمقداره، فأسعفه الخليفة بذلك، وركب إليه من قصر الزهراء إلى هذه المنية الرمانية المهداة له، يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان منها قاصدًا مع الأمير هشام ولده والعيال. وقد قدر المبيت فيها ليلته فأقيم له داخلها بيوت المنام وضربت حولها الفساطيط والأبنية لمن حفها من الخدم والغلمان، فنزلها عامة يومه ذلك، عاكفًا على نعيم لا ينادى وليده، مطهر من حرام يشوبه، وأفاض رب الدعوة على جميع من حضره داخلاً وخارجًا من صنوف الأطعمة الغريبة وأنواع الفواكه الملذة ما غالب شهواتهم وعم طبقاتهم، فأجمعوا أنهم لم يشاهدوا في المنتزهات السلطانية أكمل ولا أهذب ولا أعم من صنيع دري هذا.
11. Felix Arnold, Alberto Canto García, A. Vallejo Triano : Das islamische Landgut ar-Rumaniya bei Córdoba, op. cit. pp. 503-523
12. ينظر بهذا الخصوص بحث «المنيات بالأندلس»، الدكتور محمد حمام، مجلة التاريخ العربي، عدد 17، 2001، ص 7-40.
13. Felix Arnold, Alberto Canto García, A. Vallejo Triano : Das islamische Landgut ar-Rumaniya bei Córdoba, op. cit. pp. 503-523
14. نفسه، ص 503-532.
15. Felix Arnold : Des jardins mauresques à la renaissance, op. cit. pp. 28-34.
16. نفسه، ص 28-34.
17. نفسه، ص 28 – 34.
18. Felix Arnold: Al-Rummaniya. Ein islamischer Landsitz bei Côrdoba, op. cit. pp. 215-239.
19. نفسه ص 215-239.
20. نفسه ص 215-239.
21. Felix Arnaud : Des jardins mauresques à la renaissance, op. cit. pp. 28-34.
22. الدكتور محمد حمام، المنيات بالأندلس، سبق ذكره، ص 7-40.
23. نفسه، ص 7-40.
24. Felix Arnold : Des jardins mauresques à la renaissance, op. cit. pp. 28-34.
25. Felix Arnold : Al-Rummaniya. Ein islamischer Landsitz bei Côrdoba, op. cit. pp. 215-239.
26. نفسه، ص 215-239.
27. نفسه، ص 215-239.
28. نفسه، ص 215-239.
29. Hans Belting : Florence et Bagdad, Une histoire du regard entre Occident et Orient, op. cit. p.115
30. Felix Arnold: Al-Rummaniya. Ein islamischer Landsitz bei Côrdoba, op. cit. pp. 28-34.
31. نفسه، ص 2015–239.
المراجع:
1. Felix Arnold: Al-Rummaniya. Ein islamischer Landsitz bei Côrdoba, in Madrider Beiträge, vol. 34, 2014. pp. 215-239.
2. Felix Arnold : Des jardins mauresques à la renaissance, in Pour la science, N° 426, avril 2013, pp. 28-34.
3. Hans Belting : Florence et Bagdad, Une histoire du regard entre Occident et Orient, Paris, Gallimard, 2012.
4. D. Fairchild Ruggles: Gardens, Landscape, and Vision in the Palaces of Islamic Spain, Pennsylvania State University Press, 2000.
5. M. Barrucand et A. Bednorz : Architecture maure en Andalousie, Paris, Taschen Editeur, 2007.
6. Felix Arnold, Alberto Canto García, A. Vallejo Triano : Das islamische Landgut ar-Rumaniya bei Córdoba, in Madrider Mitteilungen vol. 50, 2009, 503-523
7. Félix Arnold, Alberto Canto García, Antonio Vallejo Triano : Madinat al-Zahra, in Revista de difusión científica del Conjunto Arqueológico Nº 6, 2008, pp. 181-204
8. أحمد بن محمد المقي التلمساني، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1988.
9. محمد رضوان الداية، الحدائق والجنان من أشعار أهل الأندلس وديوان بني فرج شعراء جيان، جمع وترتيب وشرح، نادي التراث، أبو ظبي، 2003.
10. محمد حمام (الدكتور)، المنيات بالأندلس، مجلة التاريخ العربي، عدد 17، 2001، ص 7 – 40.
11. إقبال حسن أحمد الراوي (الدكتور)، منيات (منى) الأندلس، مجلة التراث العلمي العربي، العدد الرابع، 2011، ص 133 – 159.
تغريد
اكتب تعليقك