ليالي الأنس في الأندلس «عرس شوارع قرطبة»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 13:14:15

د. أنور محمود زناتي

جامعة عين شمس- مصر

اشتهر أهل الأندلس بعشقهم للغناء والطرب؛ فبعدما استقر لهم الحكم بالأندلس مالوا إلى المرح والترف، ومجدوا الشعر والشعراء، واحتفوا بأهل الغناء والموسيقى، وأغدقوا عليهم الهبات. كما لعبت الجواري دورًا بارزًا في حياة الترف تلك وتفننوا في عن الغناء والرّقص. ونتيجة لذلك أصبح للجواري في الأندلس شأن عظيم ومنزلة عليا لم تشغلها الحرائر وقتها، ووصل بهم الأمر إلى تدخلهن في الأمور السياسية والإدارية بالبلاد، وما لبث بعضهن أن صرن أمهات أولاد للأمراء والخلفاء، وأنجبن بعض الخلفاء اللذين خلفوا أعمالاً جسامًا في تاريخ الأندلس.

وكن يحفظن نوادر الأحاديث وفرائد اللغة وأمالي المجالس وشارد الأشعار ثم إنهن برعن في إظهار مفاتنهن، والفخر بما لديهن لكي تكون الجارية الأولى لدى الخلفاء، فضلاً عن توفير بهجة الروح ومنبه النفس لهم، كما أن طبيعة الجواري أن يقبل عليهن الشباب والشيوخ. وقد استقبلت (دار المدنيات) إضافة إلى الجواري الواردات من المشرق العربي أفواجًا من العرب وغير العرب من الأندلس وغير الأندلس. وكان الأغنياء في الأندلس يختارون القيان الآسرات بجمالهن العقول والقلوب، ويتفاخرن بهن، ويبرزن براعتهن في الغناء، وكن يخترن من الشعر ما كان وزنه سهل التلحين والترجيع ، وبالتالي يؤثر في النفوس ويحفظه العامة والخواص، ومن ثم غدت القيان شيئًا مذكورًا في قصور بعض الأمراء وكبار رجال الدولة.

وكان معظم القيان في الأندلس يغنين للتطريب، وللغزل؛ مما أثر ذلك في النفوس، وكان يصاحب الغناء الشراب، الذي غدا من مستلزمات مجالس الغناء.

وكانت تقام الأفراح والليالي الملاح في الأندلس ونذكر منها عرس أقيم في أكبر شوارع  قُرطبة كان النكوري يتوسطه بآلته، وكان فيه المُغني يزمر ويُغني: بقول أحمد بن كليب النحوي:

     أســلــمـنــي  فـــي هـــــواه     أســـلـــم   هـــذا  الـرشـا

     غـــــزال   لـــه مُـــــقـــلــة        يُـصـيـب   بـهــا من   يشا

     وشــى   بـيـنـنا حـــاســــد       ســيُــسـألُ عـــمــا وشى

     ولو شاء  على  أن  يرتشي     على الوصل روحي ارتشى

وكان النخاسون والمغنون في الأندلس يبتاعون الجواري اللاتي يتوسمون فيهن الذكاء وهن صغار السن فيثقفونها ويعلمـونها الأشعار والغناء ويحفظونها القرآن والأحاديث النبوية، ويعلمونها فنون الأدب والنحــو والعروض أو فنًّا من فنون المساجلة الشعرية ثم يبيعونها بخمسة أضعاف ثمن شرائها، فكانت أغلب شاعرات ومغنيات الأندلس قد تعلمن على هذه الصورة. مما زاد إقبال الناس عليهن أينما حلوا وذهبوا.

وقد ألف المجتمع الأندلسي وجود الكثير من الجواري في البيوت وعلى مستويات اجتماعية مختلفة حتى أصبح الاقتران بالجارية شيئًا غير معيب من وجهة نظر أعيان المجتمع الأندلسي، واشتهر منهن علية وحمدونة، وعلم وقمر وفضل، وعجفاء وأُنْس القلوب، وغاية المنى في ألمريّة، والعبّاديّة جارية المعتمد بن عبّاد في إشبيلية، وهند جارية عبدالله بن مسلمة في شاطبة وأخريات إسبانيات الأصل هن الأكثر عددًّا. ومن هؤلاء قلم، وهي جارية إسبانية الأصل من سبي البشكنس، أرسلت إلى المشرق حيث صقلت موهبتها ولقنت أصول الغناء العربي، ثم عادت إلى قرطبة لتلتحق بدار المدنيات. ومن هؤلاء الروميات أيضًا الشفاء، وهي أم ولد لعبدالرحمن الأوسط، ومنفعة التي غنت بحضرة عبدالرحمن الأوسط أيضًا فاستجـاد غناءها، وتلميذات زرياب الأثيرات متعة ومؤامرة، وفلة، وغزلان، وطـروب أم ولده عبدالله، وضرتها فجر، ومصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن تهليل، وهي التي خاطب ابن عبد ربه صاحبها مستأذنًا صاحبها في سماعها:

يا من يضن بصوت الطائر الغرد

                              ما كنت  أحسب هذا  الضن من أحد

لو  أن  أسماع  أهل الأرض قاطبة

                             أصغت إلى الصوت لم بنقص ولم  يزد

وبعد هؤلاء ظهر جيل جد من المغنيات اللواتي انتشرن في الـحـواضر الأندلسية يعلمن الغناء، وخاصة في إشبيلية التي طما منها بحر زاخر عـلى حد تعبير ابن خلدون.

وفيهن طرب جارية الأمير المنذر بن عبدالرحمن الأوسط الذي قال فيها:

ليس يفيد السرور والــطرب      إن لم تقابل لواحظي طرب

وفيهن أيضًا جيجان جارية عبدالله، وعتبة جارية ولادة، وهند جارية عبدالله بن سلمة الشاطبي، وهي التي خاطبها محمد بن يحيى بن ينق يومًا فقال:

يا هند  هل  لك  في  زيارة  فتية

                           نبذوا المحارم غير شرب السلسل

سمعوا البلابل قد شدت فتذكروا

                          نغـمات  عـودك  في  الثقيل  الأول

لقد كان للثّقافة الموسوعيّة الّتي حظيت بها الجواري أبلغ الأثر في استقدامهنّ لتعليم أبناء الأمراء والخلفاء والملوك وأكابر رجال الدّولة وذوي اليسار، ولم تنقل المصادر صورة أكثر احترامًا وإجلالاً وتقديرًا للجارية أكثر منها معلّمة، كما كنّ يحصلن على مكافآت سخيّة من مستخدميهنّ، وكلّما ازداد علم الجارية وحفظها زاد الطّلب عليها وعلا شأنها بين الخاصّة والعامّة، وقد أشار ابن حزم في الطّوق إلى العديد من القصص حول ذلك، ولا سيّما أنّه هو نفسه تتلمذ علي أيدي الجواري، فنهل من علمهنّ الغزير، لكنّه في الوقت ذاته اطّلع على الكثير من أسرارهنّ ومكائدهنّ ممّا حدا به إلى الاعتراف بأنّه ممن يسيؤون الظنّ بالمرأة الغناء.

 

أهم المصادر والمراجع:

- الحميدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، 1966م.

- عبدالعزيز بن عبدالجليل: الموسيقى الأندلسية العربية - مظهر من مظاهر التسامح في المجتمع الأندلسي.

- أنور محمود زناتي: أندلسيات، دراسات متفرقة في الفن والأدب واللغة والتاريخ، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2013م.


عدد القراء: 7406

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-