لغة الضَّاد ومَدىَ تأثيرِهَا في اللّغة الإسبانيّةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 03:39:46

د. محمّد محمّد خطّابي

مدريد - (إسبانيا)

ما زالت تترى وتتوالى الدّراسات، وتتعدّد وتتنوّع النقاشات، وتُطرح التساؤلات، والتخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة، والابتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة، وطاقاتها الكبرى مستشهدًا بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأوًا بعيدًا، كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات، والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني العربيّة حقًّا من هذا النقص؟ وهل تعيش نوعًا من العزلة لدرجة أنّها في حاجة الى حماية ودفاع ومناقشات من هذا القبيل؟ الواقع أنّ اللغة العربية في العمق ليست في حاجة الى ارتداء ذرع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة المتخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل، والقرائن قديمًا وحديثًا أنّ هذه اللغة كانت وما تزال لغة حيّة نابضة، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المتشكّكين من نعوت، وعيوب، كانت قد أثارتها في الأصل زمرة من المستشرقين في منتصف القرن المنصرم، حيث اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم ، وما كانت لتعدّ مشاكل أو نواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض من ذلك إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة، وبثّ الشكوك فيما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدًا أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين إحلال محلّها لغةَ المستعمِر الدخيل، والتاريخ شاهد على الشأو البعيد الذي أدركته هذه اللغة حيث كان لها الغلبة وبالتالي تأثير كبير في إحدى اللغات العالمية الحية  الواسعة الانتشار التي تتباهى اليوم بهذا الإنجاز وهي اللغة الإسبانية:

الضّاد وتأثيرها في لغة سيرفانتيس

كان للغة الضّاد بالفعل تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنبًا إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوّة وجزالة وفحولة وخصوبة هذه اللغة التى ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعة مرنة سلسة متفتّحة متسامحة، ينبوع جنان تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما.

تعيش اللغة الإسبانية في الوقت الحاضر تألقًا، وازدهارًا، وقبولاً، وانتشارًا واسعًا في مختلف ربوع المعمور، ووعيًا من الإسبان بما أدركته لغتهم من سموٍّ، ورفعةٍ، و"أوج" حيث يحلو لهم عند الحديث عن انتشار هذه اللغة والإشعاع الذي أصبحت تعرفه ثقافتهم استعمال هذه الكلمة العربية بالذات وهي (الأوج)، والتي تُنطق عندهم (Auge)"  أَوْخيِ" حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة في اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم (خِبْرَلْطَارْ)، وكلمة جَبَليّ  يُنطق (خبليّ)، وهو "الخنزير البرّي الذي يعيش في الجبل"، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى (أَلْخَامَا)، والجَرَّة غدت (خَارّا)، وهو الدنّ أو إناء الفخار، ونهر "وادي الحجارة"، الذي تحوّل إلى (غْوَادِيلاَخَارَا) ...إلخ."، إنهم يبذلون جهودًا مضنية، ويرصدون إمكانيات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كلّ ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها، وأصحابها، وأبنائها، وأحفادها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، أو نجله العاهل الإسباني الحالي فيليبي دي بوربون، حيث يحرصان على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية، أو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة عند انضمام عضو جديد إليها أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها، وتصرف الدولة الاسبانية أموالاً طائلة، ومبالغَ باهظة في سبيل نشر لغة سيرفانتيس وثقافتها والتّعريف بتاريخها، وبآدابها، و فنونها، وتراثها.

الفراهيدي يعانق نيبريخا!

ويهدف التنسيق بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الاسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان بغاية توحيدها ومحاربة الدّخيل لجعل حدّ "للغزو اللغوي "الأجنبي، أعدّت أكاديمية  اللغة الاسبانية  بالتعاون مع جميع أكاديميات اللغة الاسبانية الأخرى الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية والتي يبلغ عددها 21 أكاديمية لهذه الغاية معجمًا أسبانيًا فريدًا في بابه وهو: "معجم الشكوك الموحّد" بمعنى أنّ أيّ متحدّث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الاسبانية  الذي قد يخامره شكّ أو ريبة حول أيّ استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته في هذا المعجم.

والإسبان واعون بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في مختلف البلدان وهم يعلمون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر اللغات الحيّة تأثيرًا وانتشارًا في العالم أجمع في هذا القرن وما بعده. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها – حسب التوقعات المستقبلية – ما ينيف على 100 مليون خلال العقدين القادمين. وتعرف اللغة الاسبانية تقدّمًا مهمًّا في البلدان العربية وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والباحثين، وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة للجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوبًا نظرًا لعوامل تاريخية وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان  بحكم الجيرة والجغرافية والتاريخ. ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الاسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّدفة، بل يرجع لعدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية).كما أنّ "الأوج" الذي تعرفه اللغة الاسبانية في العالم حقق للثقافة الاسبانية انتشارًا في مختلف أنحاء المعمور وحضورًا مهمًّا في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر، والتأليف، و المسرح، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والأدب وأخيرًا في السّينما . .

"نيبريخا" وهو أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية أي إنه يعتبر  بمثابة الفراهيدي ومعجمه "العيْن" في لغة الضّاد، يقول في مقدّمة معجمه مخاطبًا الملكة الكاثوليكية إزابيلا: "اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية"، يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى" أنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، والجذور، والحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الاسباني في أبعد الآفاق" (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الإسباني في ذلك الإبّان).

يستحيل فهم تاريخ إسبانيا دون معرفة اللغة العربية

يؤكّد الدارسون أنه لا يمكن الحديث عن "أوج" اللغة الاسبانية وتراثها وغناها وانتشارها دون التطرّق إلى الينابيع التي تستمدّ منها أصولها هذه اللغة، فعلى الرّغم من جذرها وأثلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته لغة الضّاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم عشرات  الآلاف عام 1609 وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقًا للحقّ وللتاريخ وحفاظًا للأمانة العلمية.

يؤكّد جميع الباحثين والمؤرّخين والمثقفين إسبانًا كانوا أم غير إسبان هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك حيث أكّد الرّوائيان الإسبانيان خوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس وسواهم أنّه "يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهمًا واستيعابًا حقيقيين دون معرفة اللغة العربية". وهكذا يؤكّد "غالا" بالحرف في هذا السياق: "أن اللغة بالنسبة له أساسية، بل إنها هوَسه وقدَره، وهو يعمل محاطًا بالعديد من القواميس لأنّ اللغة الإسبانية في نظره هي لغتان أو فرعان اثنان، فرع ينحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية، لدرجة تبعث القشعريرة في الجسم"، ويشير غويتيسولو في نفس الاتجاه: "إنه يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها دون معرفة اللغة العربية، إذ كلّ ما يتداول حول هذا التاريخ وصلنا مُترجَمًا، والترجمة هي نوع من الخيانة كما يقول المثل الفرنسي" .الحاجة إذن ماسّة إلى ضرورة القيام بدراسة علمية، تاريخية، تحليلية معمّقة لهذه البديهة في الجامعات، والأكاديميات، والمعاهد العليا التي لها صلة بهذا الموضوع، فضلاً عن مختلف المؤتمرات، والندوات، والتظاهرات التي تُنظّم بين الوقت والآخر حول اللغة العربية، وحول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك.

الكاتب الاسباني الراحل  "كاميلو خوسّيه سِيلا "الحائز على جائزة نوبل في  الآداب، فاته - ذات مرّة- وهو يُحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة إلى هذه الحقيقة البدهية، وإبراز فضل اللغة العربية على الاسبانية، وهو الذي كان يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته ورواياته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنوانًا عربيًا واضحًا وهي روايته المعروفة  "رحلة إلى القارية"، والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية، إلاّ أنّ هذا الكاتب سرعان ما عاد واعترف خلال ندوة دولية أخرى أنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهمية وانتشارًا حيث قال بالحرف الواحد: "نحن الإسبان وسكان أمريكا اللاتينية نعرف جيّدًا أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية."

الضّاد ولغة سيرفانتيس .. تعايشٌ متناغم

وحسبنا أن نشير في هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائمًا بين  اللغة العربية واللغة الإسبانية خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص في الأندلس، حيث تعايشت هاتان اللغتان جنبًا إلى جنب، وللغتنا الجميلة تأثير بليغ في لغة سيرفانتيس كما هو معروف، وبحكم هذه المعايشة يشير المستشرق الإسباني القرطبي الدكتور "أنطونيو مانويل رودريغيس رامُوس" يشير في إحدى تخريجاته الباهرة حول موضوع الكلمات الاسبانية ذوات الأصول العربية: "إن اللسان الإسباني مطبوع بالتأثير العربي بشكل مُبهر" ويسُوق بعض الكلمات والمصطلحات العربية التي استقرّت في لغة سيرفانتيس والتي ما زالت تستعمل إلى اليوم في مختلف المجالات  مثل: كلمات Jaram التي لا يقول المعجم الاسباني عنها أيّ شيء وأنها من جذر مجهول وهي في الواقع من أصل عربي وهو (حرام) وjarana  تعني (فرح لبس) أو Farahlibs (وهو اللباس الذي ترتديه عادة راقصات الفلامينكو )، ويقول المستشرق الاسباني أنّ Feria، تنحدر من الفرح وMarfario هو الفرح غير المكتمل، ويضيف هذه الكلمات كلها يتيمة في المعجم الاسباني، وكلمة " الفلامينكو" نفسها هي الأكثر يتمًا في هذا المعجم وهي تنحدر من كلمة (فلاّح منكوب) وهي من العربية الموريسكية، ويضيف الباحث الاسباني أن بني طينته أصبحوا كمن أصيب بمرض الزهايمر اللعين فهم ينظرون إلى المرآة ولكنهم لا يعرفون أنفسَهم، إنهم حتى ولو حاولوا بتر أطراف منا فلن يكون في مقدورهم محو تاريخنا وذاكرتنا وحضارتنا، بل لقد بلغ بهم الأمر أن رحّلوا وهجّروا عنوة ًوقسرًا وقهرًا العديد من الموريسكيين، كما أنهم أضرموا النيرانَ في كتبنا (وحادثة باب الرملة) بغرناطة أشهر من نار على علم، حيث أضرم الكاردينال سيسنيروس النيران في الآلاف المؤلفة من الكتب والمخطوطات العربية في هذه الساحة التي ما زالت موجودة الى يومنا هذا، وهذه جريمة لا تغتفر .

ذاكرة الموريسكيين والدكتور رامُوس

تجدر الإشارة أن هذا المستشرق الإسباني القرطبي الدكتور "أنطونيو مانويل رودريغيس رامُوس"  الذي تربطني به صداقة متينة كان قد شارك معنا منذ سنتيتن في المؤتمر الدولي حول الموريسكيين الذي نظمته بالرباط وأشرفتْ عليه "مؤسّسة ذاكرة الموريسكيين" الذي يرأسها ويشرف عليها الدكتور محمد نجيب لوباريس. ولقد عملت لسنوات عديدة (عشر سنوات) قبل التحاقي بالسلك الدبلوماسي المغربي خبيرًا بمكتب تنسيق التعريب في العالم العربي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالرباط (أليكسو أو يونيسكو العرب)، وكنت أشرف على تحرير المجلّة المتخصصة الكبرى الرصينة التي كانت تصدر عن هذا المكتب الدولي والتي ما زالت تصدر إلى يومنا هذا وهي "اللسان العربي" كما كنت مشرفًا على أقسام ثابتة فيها ونشرتُ بها الكثير من المقالات حول الأندلس وتاريخها الزاخر، وكنا في المكتب كثيرًا ما نتوصّل باستفسارات من الطلاب وبعض المستشرقين والمستعربين والدارسين الإسبان يسألوننا عن أصل وأثل العديد من المصطلحات الإسبانية التي تنحدر من اللغة العربية واستقرّت في لغة سيرفانتيس.. وإن العديد من التعابير والمصطلحات والمسمّيات التي وردت في هذا العرض القيّم استقرّت وما زالت مبثوثة في اللغة الإسبانية وهي من أصل عربي أندلسي، ومن الكلمات التي لصقت ولزمت ذاكرتي كلمة كنت أقرأها عندما أمرّ بجانب مدينة Jaen... نسبة إلى القاضي جيّان.. وكان مكتوبًا على اللوحة كلمة IZNALOZ . لم أستطع فكّ لغز هذه الكلمة إلاّ عندما قرأت كتاب السفير المغربي ابن عثمان المكناسي (الإكسير في فكاك الأسير" حيث شرح لي أن هذه الكلمة تعني " حِصْن اللوز" وبعد ذلك أصبح يُكتب في المعاجم الإسبانية ما يلي: (Iznalloz del árabe hisn al-lauz o 'castillo del almendro) وكانت مفاجأتي أكبر عندما اكتشفت أنه في هذا المكان تكثر فعلاً أشجار اللوز..!

أمريكو كاسترو وتأثير لغة الضاد في الإسبانية

خلال التواجد العربي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص في الأندلس، تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنبًا إلى جنب، بل لقد كان لهما تأثير بليغ في لغة سيرفانتيس، وبحكم هذه المعايشة  هناك العديد من الكلمات العربيّة والأمازيغيّة التي استقرّت فيها، يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، والبناء، كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل  Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصر Alcázar، القبّةAlcoba ، السّطح Azoteaأو السقف (وهي بالتوالي تُنطقُ في الإسبانية: ألكَاسَرْ، ألْكُوبَا، أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe، وألبِرْكَة Alberca (وهي تُنطق في الإسبانية: (أسِيكْيَا، ألْخِيبِي، ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّر Azúcar، الأرز Arroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa، التّرمُس Altramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas وهي تُنطق في الإسبانية بالتوالي: أسوُكار، أرّوث، نارانخا، الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس). وبماذا تزدان بساتيننا، أو تُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín، والزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا، بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها كلّها دخلت واستقرّت في هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها، والكتب والتأليف والمجلدات، والأسفار، والمخطوطات، والوثائق، والمظانّ تحفل بها بدون انقطاع إلى اليوم سواء في إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات في مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد.

وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي استقرّت بدورها في اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير)، واستعملها كولومبوس في يومياته، بصيغة الجمع Azagayas (الزغايات) وهي موجودة، ومُدرجة في معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية، ويشير المُستشرق الهولاندي (رَيِنْهَارْت دُوزِي: Reinhart Dozy) أنّ كلمة (آشْ) تُجمع بـ"أشّاون" وتعني القرون ومنها اسم المدينة المغربية  ذات الطابع المويسكي (الشّاون)، ويؤكّد صاحب "الإحاطة في أخبار غرناطة " لسان الدين ابنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد في شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسمًا أمازيغيًا هو نهر "وادي آش" أيّ وادي القرن، وهو في الإسبانية "Guadix، ومدينة Teruel الإسبانية مقتبسة من اسم مدينة "تِرْوَال" المغربية بالقرب من مدينة وزّان (وسط المغرب)، ويرجع اسم مدينة Albarracín الإسبانية للقبيلة البربرية "بني رزين" (القرن الثالث عشر)، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدر من القرية الأمازيغية بني رزين، ومنها Gomera من "غمارة" وهي عند الإسبان اسم جزيرة في الأرخبيل الكناري و velezمن اسم "بادس" وهو(اسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ "قوس قزح" وبني بوفراح ونواحيها بإقليم مدينة الحسيمة).

كريستوفر كولومبوس والعربيّة

ومن أطرف ما يمكن أن يحكىَ في مجال التأثير (اللغوي) العربي في المجتمع الإسباني، هو أنّه حتى كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل  كلمات عربية وأمازيغية في يومياته ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار بل في المسمّيات اليومية العادية، ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يومياته بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر1492 حيث يقول: "وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثمّ قدموا في اتّجاه المركب بواسطة (المعدّيات) في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس (ألميدياس)، (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه الآنف الذكر، وهي زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة  مدينتي سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، ثم يقول: "واستقدموا معهم لفائف من ( القطن)، (وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس" ألغُودُون" كما تنطق اليوم في الإسبانية)، وكانوا يحملون (الزغّايات)، وجاءت هذه الكلمة في يوميات كولومبوس باسم  "أزاغاياس" وهي كلمة أمازيغية  سبقت الإشارة إليها أعلاه تعني اليوم عند الإسبان الحرْبة القاطعة التي تثبت في الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني)، ويضيف: كما استقدموا معهم  طيور(الباباغايوس) "جمع الببّغاء وهو طائر يُطلق على الذّكر والأنثى، من خصائصه أنّه يُحاكي كلامَ الناس"، وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدًّا من هذه اليوميات الكلمات العربية والأمازيغية التالية: (المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء)، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقبًا عربيًا وهو "أمير البحر" وينطق في الإسبانية مُحرّفًا بعض الشيء  (ألميرانتي)، وما زال هذا اللقب يُستعمل في الإسبانيّة إلى اليوم.

المستشرقون ولغة الضّاد

يقول المستشرق الفرنسي" لوي ماسّنيون" في كتابه ( فلسفة اللغة العربية): "لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائمًا لغة علم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التي طبعتها على امتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والاختصار.. إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة". إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول: "للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى، والأُوّام، والهُيام ، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان "هائمٌ" هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات"، ويضيف ماسّينيون:"نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطرًا كاملاً وهو "إنه يكاد أن يموت من العطش" ولقد أصبح "الهيام" (آخر مراحل العطش وأشدّها) كنايةً عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوىَ، والجوىَ، والوله، والصّبابة.

 ويقول ارنست رينان: "من أغرب المُـدهـشـات أن تـنـبـت تلك اللغة القومية، وتصل إلـى درجة الـكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحّل.. فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحُسن نظام مبانيها". ويرى "بروكلمان" أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع انتشارًا تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى "إدوارد فان ديك": أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها واستيعاب آدابها" ويقول المستشرق الهولاندي "رينهارت دوزي" (صاحب معجم الملابس الشهير): "إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يُعيروا اهتمامًا يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها." ويؤكّد "يوهان فك": "أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة في التاريخ". ويشير "جان بيريك: "أنّ العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل". ويرى "جورج سارتون": "أنّ العربية أصبحت في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين". وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابَها بلغة الضاد يضيق المجال لسردها في هذا المقال.


عدد القراء: 6851

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة إدريس اعفارة من المغرب
    بتاريخ 2019-07-10 12:29:45

    شكرا للدكتور محمد الخطابي على الموضوع الشيق الذي يجعلنا نفتخر بالأثر الطيب الذي تركته اللغة العربية وشقيقتها الأمازيغية في اللسان الإسپاني ،فهذا موضوع كان ـ إلى عهد قريب ـ من المسكوت عنه في إسپانيا ،ولا يتناوله إلا المتخصصون في حلقات دراساتهم ، فقد حاول الإسپان منذ حروب الاسترداد محو الأثر العربي والتستر على ما بقي منه في حضارتهم ، ولم يسترجع الإسپان ذاكرتهم، ويتخلصوا ـ كما قال المتشرق راموس ـ من الزهايمر الذي لزمهم قرونا إلى أن عادت الديقراطية إلى إسپانيا ،وسمح للناس بحرية التعبير ،فظهر حنين الأنلسيين إلى ماضيهم العربي المشرق ، وأعيد الاعتبار للعلماء والمفكرين الأندلسيين، وأقيمت لهم تماثيل ، وسميت باسمهم شوارع ومؤسسات ؛ وبعد أن كان المهتمون بالأصل العربي للكلمات الإسپانية كانوا لا يتجاوز عددها عندهم أربعة آلاف كلمة ، صرح أحد أعضاء الأكاديمية الملكية للغة الإسپانية أن عددها يصل إلى عشرة آلاف كلمة . ويبدو أن أستاذنا فديريكو كوريينتي إي كوردوبا المعروف في العالم العربي بمعجمه المزدوج إسپاني ـ عربي ، تحاشى الوقوف عند الكلمات ذات الأصل العربي ، واكتفى بشرحها معجميا ، ولعله ادخر هذه المادة لكتابه حول الكلمات العربي في شبه جزيرة إيبيريا في العهد الرومانثي . بقي أن أضيف اسم جبال البرانس للكلمات ذات الأصل الأمازيغي ، فاسمها مأخوذ من اسم قبيلة البرانس المغربية التي استوطنت منطقة جبلية في الأندلس .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-