المعنى ومنهج التحليل المعاصر فتجنشتاين أنموذجًاالباب: مقالات الكتاب
د. سامي محمود إبراهيم رئيس قسم الفلسفة- كلية الآداب جامعة الموصل – العراق |
إن من ابرز ملامح الفلسفة المعاصرة إنها فلسفة تحليلية، حيث إن وظيفة الفلسفة هي التحليل.
هذه الوظيفة تمثلت بإعطاء اللغة والبحث عن المعنى الدور الفعال كمنهج يسعى إلى تحليل النصوص والقضايا الفلسفية.
فالتحليل اللغوي عند فتجنشتاين يعني استخلاص وتفتيت القضايا الخالية من المعنى.
لذلك فالفلسفة عنده هي البحث عن المعنى بواسطة اللغة.
فهو يقول: ليس هناك مشكلات فلسفية، إنما هناك سوء فهم للغة.
لقد هيمنت فكرة المعنى إذن على فلسفة فتجنشتاين باعتبارها وسيلة لحل جميع المشاكل الفلسفية السابقة.
كيف لا وهو صاحب القول الشهير "حدود فلسفتي حدود لغتي".
فسبب تصديه للغة ليس إلا من أجل حسم المسائل الفلسفية بصياغة معنى مناسب لها.
إن أهم ما تميزت به الثقافة الفلسفية الغربية في القرن العشرين وإلى اليوم هو الاهتمام المتزايد باللغة ومعناها، فهذه الفلسفة في مجملها تدور حول اللغة ومعانيها خاصة عند مور ورسل وفتجنشتاين، إلا أن الاهتمام باللغة ومعانيها لم يكن قاصرًا على الاتجاه التحليلي، بل إن الاهتمام بمشكلة اللغة كان يمثل قاسمًا مشتركًا بين العديد من الفلسفات المختلفة كالوجودية والظاهراتية وغيرها، ولا يخفى علينا ما في اهتمامات هايدجر الوجودي نحو اللغة، ولا لاهتمام ميرلبونتي وهوسرل في معالجاتهما للغة باعتبارها مشكلاً من مشاكل الفلسفة.
لكن وظيفة الفلسفة عند فتجنشتاين ليست التفسير بل تحليل اللغة من خلال تحليل القضايا المركبة إلى قضايا بسيطة بهدف التجلية والفهم.
وفي ذلك يقول "إن هدف الفلسفة هو التوضيح المنطقي للفكر، فهي ليست نسقًا عقائديًا، بل فاعلية، كما أن الفلسفة لا تنتج قضايا فلسفية، بل وظيفتها الأساسية توضيح تلك القضايا".
وهناك طريقة مهمة لدراسة المعنى وضعها فتجنشتاين. تلك الطريقة التي تهتم بالبنية الصورية للغة والعلاقة بين الجمل والعبارات.
فالمشكلات الفلسفية برأيه ناتجة عن سوء استخدام اللغة.
بهذا المعنى نجد أن اللغة الفلسفية عنده تعتبر الأداة أساسية في الممارسة التحليلية، فأي نقاش حول الطريقة الفلسفية يوصل مباشرة إلى العلاقة بين الفلسفة واللغة.
فاللغة وعاء الفكر والإنسان يفكر من خلال اللغة ويعبر عن أفكاره بألفاظ وكلمات.
والتحليلية سمة أساسية من سمات التفكير الفلسفي نجدها عند بارمنيدس وأفلاطون وأرسطو ولايبنتز وغيرهم، لكنها اكتسبت أهمية خاصة من قبل فلاسفة القرن العشرين وخاصة فتجنشتاين.
فالتحليل الفلسفي عنده يهتم بتحليل الواقع بالاستعانة بالمنطق واللغة ليصل إلى مكوناته الأساسية.
فقد مارس فتجنشتاين التحليل اللغوي من خلال ما يسمي بلعبة اللغة حيث تتغير معاني ومفردات اللغة بتغير السياق فتختلف بذلك لغة الأطباء عن لغة المهندسين.
كما تختلف الألعاب في قوانينها بسبب استخدامنا الفعلي للغة، حيث تستخدم الفاظ تعد بمثابة قواعد لهذه اللعبة أو تلك.
إن التحليل عند فتجنشتاين في "رسالة منطقية فلسفية" كان هدفًا إلى بناء لغة صورية تقوم على أساس الرمز بدل المعاني والألفاظ ولكنه في مرحلته الأخرى والتي تجسدت في كتابه "أبحاث فلسفية" اتجه إلى تحليل الفاظ اللغة العادية.
لقد قامت مهمة التحليلية عند فتجنشتاين بطرح فهم جديد للفلسفة يقوم على ان الفلسفة لم تعد تعنى بتفسير المعارف والحقائق بل أصبحت تقوم على تحليل المعارف بهدف إيضاحها وتحديد الزائف من الصحيح.
وهذا اعتراف بالدور الحيوي الذي تلعبه اللغة في الفلسفة، حيث ان حل المشكلات الفلسفية لا يمر إلا عبر فحص منطق التعبيرات العادية التي تستعمل في المناقشات الفلسفية، لتنتقل الفلسفة من مجال الموضوعات والأشياء إلى مجال الألفاظ والمعاني.
هذا الفهم من قبل فتجنشتاين يعني أن تحليل اللغة والأفكار يهدف إلى الوضوح وإزالة والغموض.
فقد حاول في كتابي الرسالة المنطقية والأبحاث الفلسفية أن يبين أهمية الفلسفة في كشف المعاني والمدلولات اللغوية التي نفهم بها العالم من خلال التحليل الفلسفي لقضايا اللغة.
وهنا توصل فتجنشتاين الى فهم جديد للحياة والعالم يقوم على اللغة..
لهذا فإن الفلسفة في دورها التحليلي ستعمل على توضيح صورة الفهم البشري للعالم.
والفلسفة بهذا المعنى تدعو العقل التحليلي إلى حل المشكلات من خلال فكر واضح وصريح. ومن خلال ذلك يكون دور الفلسفة ليس البحث في المعنى وإنما القضاء على الحيرة والارتباك الملتبس في المعنى، وهو الارتباك اللفظي الذي طالما تعرض له الفلاسفة التقليديون في معالجتهم للعديد من المشكلات اللفظية الميتافيزيقية.
ومهما يكن، فإن معالجة موضوع اللغة من زاوية فلسفية سيمكن الإنسان من إحداث مقاربة متفردة لفهم نفسه وواقعه، إذ ان علاقة الإنسان بوجوده لغوية، كما أن اللغة هي أساس الوعي، والوعي بالوجود هو نشاط لغوي ليس إلا.
وبقدر ما تكون القضايا الفلسفية رسما للواقع الخارجي بقدر ما تكون صادقة.
إلى هذا الحد انتقلنا من مشكلة ماذا نعرف إلى مشكلة ما الذي نعرف? او كيف نعرف؟
يرى فتجنشتاين إن المشكلات الفلسفية التقليدية لم تقم على تحليل العبارات اللغوية الفلسفية تحليلاً دقيقًا، وهذا هو السبب في ظهور مشاكل تتعلق باللغة والفهم.
لهذا يقدم فتجنشتاين منهج جديد قائم على أساس التحليل المنطقي للغة. فالفلسفة عنده مجرد طريقة في التحليل والتوضيح المنطقي للأفكار، ومهمة الفلسفة تقتصر على تحليل معارفنا بغية الوصول إلى الوضوح, والتفرقة بين الأفكار التي لها معنى والأفكار التي تكون خالية من المعنى.
خاصة أن اللغة عند فتجنشتاين هي الفكر, والفكر هو اللغة, فوجود أحدهما متعلق بالآخر ذلك أن اللغة عنده هي الوسيلة الحسية التي نعبر بواسطتها عن أفكارنا.
وفي المقابل نجد أن الفكر ينقل ويفهم ويعبر عنه بواسطة اللغة.
فنحن محكومون في أفكارنا وأفعالنا باللغة التي نعرفها.
هذا الموقف قائم على تحليل فتجنشتاين للغة الفلسفية وردها إلى قضايا مركبة تتحلل بدورها إلى قضايا بسيطة.
بهذا الموقف أبعد فتجنشتاين أي مبرر لقيام معظم الأنساق المعرفية والمذاهب الفلسفية التي كانت تفسر الطبيعة والحياة بنظرة أحادية مبنية على أساس شمولي.
ويرى فتجنشتاين إن الألفاظ الكلية "الإنسان مثلاً" كثيرًا ما تسبب لبسًا لأن الفلاسفة لم يميزوا بينها وبين الأسماء التي تدل على أشياء موجودة بالفعل، لا بل اعتبروا أن الكليات تشير إلى موجودات في الواقع الخارجي. ففي هذا التصور نجد أن وظيفة اللغة هي وظيفة تصويرية تقريرية تتجه إلى العالم الخارجي وتحاول رسمه والتعبير عنه.
والعبارات التي لا تعبر عن الواقع الخارجي أو تشير إليه هي عبارات لا معنى لها.
وبناء عليه فإن العبارات ذات المعنى, يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة.
فلم يجد فتجنشتاين أي مبرر لكثير من القضايا التي تناولتها الفلسفة فمعظمها كتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة فقط بل هي خالية من المعنى.
هذا الموقف الحاد موجه بالأساس إلى موضوعات ومسائل الميتافيزيقا, بحجة أنها قضايا بلا معنى ولا تشير إلى الواقع.
لكن فتجنشتاين كان يعلم أن موقفه هذا مجرد حديث ميتافيزيقي لا يمثل المعنى الحقيقي الذي يرجوه عن مشكلات الفلسفة والواقع.
لهذا السبب نجد أن فتجنشتاين يقرر في النهاية إلى أن لكل لفظ من ألفاظ اللغة معاني مختلفة تتبدل بحسب السياق أو الاستخدام. خصوصًا أن هناك بعض الكلمات لا يتحدد معناها بواسطة الاستخدام, فيصبح المعنى عنده نوعًا من الكشف والإلهام.
لذلك لا يمكن الإفصاح عن التجربة الفلسفية من خلال عنصر الفهم بعيدًا عن ثوب اللغة، ولا مجال لوجود الموقف الفلسفي دون تشكيل الخطاب المعلن عن الحضور.
بل إن النشاط الفلسفي في معظم أجزائه قائم على رغبة ملحة للإقناع عن طرق بسط المفاهيم، ومن ثمة فإن حضور اللغة يعني الوجود بكل أبعاده.
كل ذلك مرده اللغة بحجة إنها الوسيلة الوحيدة التي نتعرف من خلالها على الأشياء.
فالعالم في نظره سيبقى مغلقًا غامضًا ما لم نعمد إلى توضيحه من خلال اللغة.
ما تقدم يكشف لنا صعوبة وغموض كتابه "رسالة منطقية فلسفية" هذا الكتاب الذي بلغ من الغموض حدًّا جعلنا لا نفرق فيه بين المعنى وغيره أو بين الكشف والاستخدام.
لقد بدأ فتجنشتاين كتابه لا بتحليل اللغة بل بتحليل العالم لأن العالم منطقيًا أسبق من اللغة التي هي رسم وتصوير لوقائع العالم، وقرر فيه أن صدق قضايا اللغة يتوقف على قدرتها في كشف العالم.
ذلك لأن مشكلات الفلسفة تنبع برأيه من سوء فهمنا لمنطق اللغة.
وبالتالي الفهم الصحيح لمنطق اللغة يفتح الطريق لحل العديد من المشكلات الفلسفية.
وينتهي فتجنشتاين إلى أن القضايا المطروحة في كتابه ليس لها معنى ولكنها تحقق النفع والفائدة لأنها تجعلنا نرى العالم بطريقة صحيحة وذلك بعد تجاوزها، فهي مجرد لوحات تعليمية نقرؤها ونفهمها ثم نحذفها. خاصة ان هذا الكتاب أثر فيما بعد في تيارات فكرية عديدة أهمها الوضعية المنطقية مما يعني أن قضاياها ليست مجرد لغو فارغ من المعنى.
فالكتاب هو حديث عن العالم وتحليله إلى لغة وتحليل اللغة إلى قضايا.
وبالتالي فإذا أردنا تطبيق ذلك على الكتاب نفسه باعتباره حديث فلسفي ميتافيزيقي، سنصل إلى أن قضاياه بلا معنى لأنه ليس هناك ما يقابلها في الوجود الخارجي فتصبح لغوا أو فرضيات ميتافيزيقية.
لقد تأكد لنا من طرح فتجنشتاين أن الفيلسوف مثل المنطقي حين يريد التأكد من قضية معينة فإنه يحيل صدقها أو كذبها من خلال مطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع.
هذا التحليل عند فتجنشتاين في نظريته التصويرية للغة يمكن التعبير عنه بقولنا "القلم موجود فوق الطاولة" فإننا نكون هنا قد عينا وجود القلم فوق الطاولة وجودًا فعليًا, مما يعني هذا إننا أحدثنا تطابقًا بين وجود القلم الفعلي والعبارة الدالة على هذا الوجود.
أي أن هذه القضية ليست سوى نتيجة للواقعة الخبرية متطابقة مع العبارة الدالة عليها. وبهذا المعنى, يمكننا أن نعبر عن التطابق بين القضية التي تقال وبين الواقع الخارجي.
لهذا من يتأمل كتاب فتجنشتاين سيجد تمييزًا دقيقًا بين ثلاثة أنواع من القضايا:
1 - القضايا التي لها معنى.
2 - القضايا الخالية من المعنى.
3 - القضايا المجردة.
فالأول يخص العلم, والثاني يخص المنطق, والثالث يخص الفلسفة.
كما أن فتجنشتاين كان مهتمًا بإظهار أن قضايا المنطق الصوري لا تفيد معلومات عن العالم ولكنها قادرة وبطريقة مهمة على أن تفسر القضايا التي تفيد معلومات عن العالم.
فهي لا تثبت وقائع وإنما تصحح سوء استخدامنا للوقائع.
لقد شجع هذا فتجنشتاين على اعتـبار تحليل المعاني ليس على أنه تحليل مفاهيم مركبة إلى المفاهيم البسيطة المكونة لها بقدر كونه تحليل القضايا المركبة إلى عناصرها البسيطة أي إلى القضايا الذرية أو الخالية من الروابط.
وانطلاقًا من هذه الفكرة قام فتجنشتاين بتحليل لبنية اللغة ولعلاقتها بالحقيقة فتبين له أن الحقيقة هي مجموع ما يحصل وليس مجموع الأشياء القائمة في العالم على وجه الحقيقة.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- المعنى ومنهج التحليل المعاصر فتجنشتاين أنموذجًا
- صورة الشرق بين سلطة المعرفة والاستشراق
- العقلانية الكانتية وتطبيقاتها جماليًا: دراسة في فلسفة "كانت" الجمالية
- إشكالـية العـقـل والإنسـان في فـكـر ابن بـاجـة
- من جماليات الوجود الإسلامي إلى مأزق أخلاقيات الفنون الغربية
- الفلسفة بمتعة الكينونة وقصدية الحياة
اكتب تعليقك