المكان المُـغـايِـر في منظور ميشال فوكوالباب: مقالات الكتاب
أ.د. سيدي محمَّد بن مالك المركز الجامعي مغنيَّة - الجزائر |
يعتقد ميشال فوكو، في نصّه "أفضيَّة أخرى"(1)، أنّ العصر الذي نعيش فيه هو عصر الفضاء بامتياز. وهذا لا يعني أنّ الإنسان، في العصور التي خلَت، لم يرتبط بالمكان، ولم يصْبُ إلى تمثُّله وإدراكه؛ فقد انصرفت نظرة النّاس الواقعية، في القرون الوسطى، إلى تقديس المكان تارةً وتدنيسه تارةً أخرى، والذود عنه حيناً وتركه عُرْضَةً للخطر حينًا آخر، كما انصرفت نظرتهم الكونيَّة إلى المُقابَلة بين المكان السّماوي والمكان الأرضي. وقد ظلّت هذه النّظرة التّصنيفية للمكان، إلى ثنائيات فضائية مُتعارِضة، قائمةً إلى يومنا هذا، على الرّغم من أنّ مُحاوَلة استيعاب تلك التّقابُلات لم تكن، في أغلب الأحيان، شعوريَّة؛ فقد مضيْنا نُميِّز، دون تأمُّلٍ، وربّما نُفاضِل، من غير قصدٍ، بين الفضاء الطّبيعي والفضاء الثّقافي، وفضاء الحياة الخاصّة والفضاء الاجتماعي، وفضاء العمل وفضاء التّسلية.
وسواء أكان تصنيفُ المكان ذو البعد الثّنائي اعتباطيًا أم مُتبصَّرًا، فإنّ الإنسان المُعاصِر أصبح مُنشغِلاً بالفضاء أكثر، لارتباط حياته اليومية، في حلّها وترحالها، بمواقِع emplacements مُختلفة أنْشأتها المدَنِيَّة الحديثة، وأحْدثها التّطوُّر العلمي والتكنولوجي، وأوْجدتها القوّة والتّسلُّط، نظيرَ المقاهي والميادين وأماكن الاستراحة والمستشفيات والسّجون ودُور الحضانة والمسارح وقاعات السينما ودُور العرْض ومواقف الحافلات والمطارات ومحطّات القطار والقطار نفسه. وقد تبدّى هذا الانشغال في عناية النّاس، عامّةً، بالمكان، واهتمام المتخصِّص بعلمه وجماليّته ودلالته. هذه الدّلالة التي لاحت لغاستون باشلار والفينومينولوجيين من جهةٍ، وميشال فوكو من جهةٍ أخرى، في شكْل قيمٍ ذاتية ومُتقابِلة ينضَح بها المكان، صيَّرته مُمْتلئًا وغيرَ منسجمٍ معًا. غير أنّ الذي أهمّ ميشال فوكو هو اشتغال تلك القيم في فضاء الخارج، وليس فضاء الدّاخل الذي احتفى به غاستون باشلار، مثل ما تُمثِّله أفضيَّةُ البيت والقبْو والسّقيفة والدُّرْج والصّندوق والخزانة والعشّ والصَّدَفَة والزّاوية والدّائرة(2).
وتتكشَّف القيم التي تعمُر الفضاء، في منظور ميشال فوكو، من خلال وجود الإنسان الذي يمنح المواقِع حيويةً وحياةً ومعنًى، ذلك أنّ الفضاء الذي ينتفي فيه حضور البشر، بغضّ الطّرْف عن طبيعة ذلك الحضور إنْ كان ثقافيًا (المسرح) أو علميًا (الجامعة) أو اجتماعيًا (البيت) أو اقتصاديًا (المُؤسَّسة) أو تجاريًا (السّوق) أو سياسيًا (دار البلدية) أو دينيًا (المسجد) أو ترفيهيًا (السيرك)، هو مُجرَّد خلفية ساكِنة ومكان بلا روح.
1 – المكان المثالي والمكان المُغايِر:
من بين الأماكن التي شغلت ميشال فوكو، واسْتمالتْه بغرابتها وكيفية اشتغالها، تلك التي لها علاقة مُضادة مع الأماكن المُتجانِسة homotopies les؛ علاقة قوامها إبطال الحضور السويّ، أو الذي ينبغي أنْ يكون، للإنسان، وقلْب أو تعطيل كلّ وشيجة مُعتدِلة تربطه بالمكان. وتنقسم هذه الأماكن المُضادة إلى نوعيْن اثنيْن؛ أماكن مثالية utopies، وأماكن مُغايِرة hétérotopies؛ فأمّا الأماكن المثالية فهي ضربٌ من المواقِع الخياليَّة، التي لا كينونةَ لها، سوى في أذهان مَنْ يتصوَّرون أو يتوهَّمون أو ينشُدون أو يؤمنون بوجودها. وأمّا الأماكن المُغايِرة فهي مواقِع حقيقيَّة، كثيرًا ما تكون مُؤقَّتةً، وغالبًا ما تكون مرفوضة من المجتمع أو السّلطة، يلوذ بها الإنسان مُضطرًّا (المصحّة العقلية) أو راضيًا (المكتبة) أو مارًّا (المطعم) أو مُسافِرًا (الفندق) أو ثاويًا (المقبرة). ويزعم ميشال فوكو أنّ بين المكان المثالي والمكان المُغايِر تداخُلاً، يجد تعبيرًا له في المرآة.
يقول ميشال فوكو واصِفًا المرآة: "إنّ المرآة، على أيّ حالٍ، مكانٌ مثاليٌّ، لأنّها مكانٌ من غير مكانٍ. في المرآة، أرى نفسي حيث لا أوجد، في فضاء غير حقيقيّ ينفتح افتراضيًا خلف السّطح، أنا هناك، حيث لا أوجد، نوعٌ من الظلّ الذي يمنحني إمكانًا للظّهور خاصًّا بي، يسعفني في أنْ أنظر إلى نفسي حيث أكون غائبًا – المكان المثاليّ للمرآة. ولكنّ المرآة هي، أيضًا، مكانٌ مُغايِرٌ، لأنّها توجد حقيقةً، ولأنّه يوجد، في الموضِع الذي أشغله، نوعٌ من الأثر المُرتدّ؛ فانطلاقًا من المرآة، أكتشف غيابي في الموضِع الذي أنا فيه، مادام أنّني أرى نفسي هناك. انطلاقًا من هذه النّظرة التي، على هذا النّحو، تُؤخَذ عنّي، من عمق هذا الفضاء الافتراضي الذي يوجد في الجانب الآخر من المرآة، أعود إلى نفسي وأشرَع في توجيهِ عينيَّ نحوي وإعادة تشكيل نفسي حيث أنا؛ تشتغل المرآة، بوصفها مكانًا مُغايِرًا بهذا المعنى الذي يجعل هذا الموضِع الذي أشغله في الوقت الذي أنظر فيه إلى نفسي في المرآة، في آنٍ، حقيقةً بالتّأكيد، في ارتباطها بالفضاء كلّه الذي يُحيط بها، ووهمًا بلا شكٍّ، بما أنّها مُضطرَّة، من أجل أنْ تكون مُدْرَكة، لأنْ تمرّ عبر هذا الوضع الافتراضيّ الذي يوجد هناك"(3).
2 – مبادئ تحديد المكان المُغايِر:
إنّ ما يبدو مكانًا مُغايِرًا لا يعترف به المجتمع أو السّلطة هو، في الواقع، مكانٌ مُتجانِس، يشعر فيه الإنسان بالدّعة والأمان والانعتاق؛ فهو الفضاء الذي يمضي فيه بعضًا من وقته وحياته، بعيدًا عن واجبات البيت والتزامات العمل، باعتبار فضاء البيت وفضاء العمل أكثرَ الأفضيَّة استغراقًا لوقته وجهده وتفكيره، وأشدّها تقييداً لحريّته واختلافه. من أجل ذلك، عَدَّ ميشال فوكو المكان المُغايِر أو المكان الآخر شكلاً من أشكال رفْض الفضاء الذي نمتثِل فيه للآداب العامّة وخطاب السّلطة، وراح يقترح وصْفًا لهذا الضّرب من ضروب المكان، يُمكِن أن يُسمّى علم المكان المُغايِر hétérotopologie، يُتوَخّى، من خلاله، "قراءة" المبادئ التي تسمح بتحديد المكان الآخر. ونستطيع أن نُؤوِّل هذه المبادئ التي استنبطها ميشال فوكو على الشّكل الآتي:
أ – مبدأ الثّبات والتغيُّر: لا تخلو أيُّ ثقافة في العالَم من أماكن مُغايِرة. ولكنْ، لا يوجد شكلٌ واحدٌ للمكان المُغايِر يُمكِن أن يكون مُشترَكًا بين الثّقافات جميعها. وعليه، نستطيع تقسيم هذه الأماكن إلى صنفيْن اثنيْن؛ أماكن الأزمة، وأماكن الانحراف. من أماكن الأزمة، في المجتمعات البدائيَّة، المكان المُحرَّم، الخاصّ بالأشخاص الذين يعيشون ضيْقًا عارضًا وشدّةً زائلةً، نظيرَ المكان المُخصَّص لكبار السنّ، والنّساء في حالة ولادة. ومن أماكن الأزمة، في المجتمع المُعاصِر، تلك التي تفتقر إلى علامة جغرافيَّة يُستدَلّ بها، من قبيل القطار أو الفندق، وهما مكانان يرتبطان بالتّقليد المُتوارَث إلى غاية منتصف القرن العشرين، وهو "شهر العسل".
وقد بدأت أماكن الأزمة تختفي، شيئًا فشيئًا، لتقوم مقامَها أماكن الانحراف المُخصَّصة لأولئك الذين لا يحترمون نظام المجتمع المُعاصِر وقوانينه، نظيرَ دور الرّعاية، والمصحّات العقلية، والسّجون، ودور العجَزة التي تجمع بين مكان الأزمة ومكان الانحراف، من حيث إنّ الشّيخوخة أزمة وانحراف في الآن نفسِه، ذلك أنّ النّشاط الذي نمارسه في أوقات الفراغ هو القاعدة، وأنّ البطالة هي زيْغٌ عن تلك القاعدة.
ب – مبدأ النّقْل والتّحوُّل: لقد كانت للمقبرة وظيفة مُعيَّنة داخل المجتمع الغربيّ إلى غاية القرن الثّامن عشر، ثمّ اتّخذت لها وظيفة أخرى في المجتمع نفسِه بدايةً من القرن التّاسع عشر. وقد ارتبط تحوُّل وظيفة هذا المكان المُغايِر، حتمًا، بنقْله من موقِعٍ إلى موقعٍ آخر، ذلك أنّ المقبرة كانت تحيل، حين أُنْشِئت بشكلها الجماعيّ في قلْب المدينة بجانب الكنيسة، إلى قدسيَّة الرّوح وخلودها ونُشورها في مُقابِل فناء الجسد وتحلُّله، غير أنّها أضحت تومئ، بعد نقْل المقبرة من مركز المدينة إلى حوافّها في ظلّ الحضارة المُعاصِرة ذات النّزوع الإلحادي والتي أصبحت تلتفت إلى الجسد – الجثة في صورته الفرديَّة، إلى القلق الذي غدا يُساوِر المجتمع البرجوازي مِنْ أنّ الموت مرضٌ قد يُفضي هو نفسه إلى الموت إذا تمّ دفن الموتى في المقابر المُحاذيَة للمنازل والكنائس.
ج – مبدأ الرّصْف والرّمز: قد يتضمَّن المكان المُغايِر أفضية غير مُتجانِسة عديدة. ونموذجه الأكثر شيوعًا ودلالةً هو الحديقة التي تستطيع، بوصفها مكانًا فعليًّا ومُقدَّسًا عند الفُرْس، أنْ تُجاوِرَ، من خلال الإيحاء، بين أماكن افتراضيَّة، هي الجهات الأربع للعالَم، مُمثَّلةً في الشّرق والغرب والشّمال والجنوب، بل إنّ مركز الحديقة، الذي تُجسِّده الفسقيَّة ونافورة الماء، هو أكثرُ قداسةً من الحديقة نفسها، باعتبار أنّه يرمز إلى مركز العالَم. وإذا كانت الحديقة مكانًا مُغايِرًا قارًّا يُماثِل العالَم، فإنّ السّجّاد مكان مُغايِر مُتحرِّكٌ يُماثِل الحديقة. ومن ثمّ، فإنّ العلاقة بين الحديقة والعالَم منْ جهة، والعلاقة بين السّجّاد والحديقة منْ جهة أخرى، هي بمثابة العلاقة بين عالَم صغيرٍ مُتحقِّقٍ وعالَمٍ كبيرٍ افتراضيٍ؛ فالحديقة صورة مُصغَّرة وشامِلة عن العالَم، بينما السّجّاد صورة مُصغَّرة وشامِلة عن الحديقة.
د – مبدأ الزّمن المُغايِر: تتشابَك بعض الأماكن المُغايِرة مع الزّمن، حين "يجد النّاس أنفسَهم في قطيعة تامّة مع الزّمن التّقليدي"(4)، وفي وصْلة مع زمن آخر يتّسم بالتّنافُر والتّبايُن، كأنْ ينفصلَ الإنسان عن الحياة – الزّمن ويتّصل بالموت – اللّازمن، بحيث لا يُمكِن أنْ يتمّ هذا الانتقال من الزّمن المُتجانِس homochronie إلى الزّمن المُغايِر hétérochronie إلّا بالارتحال من المكان المُتجانِس الذي يحمل قيَمَ الطّمأنينة والألْفة والدّفء (البيت مثلاً) إلى المكان الآخر الذي يحمل قيمًا مُغايِرةً، تتمثّل في الخوف والوحشة والرّعشة التي تُجسِّدها المقبرة. وقد ميَّز ميشال فوكو، في مسألة هذا التّداخُل القائم بين المكان المُغايِر والزّمن المُغايِر في ما يُمكِن أنْ نسمِّيه الزمكان(5) المُغايِر hétérochronotopie، بين زمكانيْن مُغايريْن اثنيْن، هما الزّمكان الأبديّ والزّمكان العابِر. يتجلّى الزّمكان الأبديّ، الذي ينهض على تجميع الزّمن غير المُنتَهي في المكان، في كلٍّ من المتْحَف والمكتبة؛ ففي هذيْن المكانيْن، اللّذيْن يُعَدّان من ابتكار الثّقافة الغربيَّة في القرن التّاسع عشر، يتمّ تكديس "الأزمنة جميعِها، والعصور كلِّها، والأشكال جميعِها، والأذواق كلِّها"(6). بينما تمثّل المعارِض الشعبيَّة les foires التي تُنظَّم في أطراف المدينة من حينٍ إلى آخر، والقرى التي تُخصَّص لقضاء العطلة، نظيرَ القرى البولينيزية les villages polynésiens، الزّمكان العابِر المُتضمِّن لقيَم البهجة والسّرور والفرَح. إنّ الزّمكان الأبديّ موقِع مُنغلق وثابت على الرّغم من انفتاحه على الماضي غير المُحدَّد، والزّمكان العابِر موقِع منفتح ومتحرِّك (باعتبار الحركة التي تمور فيه) على الرّغم من انفتاحه المُؤقَّت على الحاضر.
هـ – مبدأ الانغلاق والانفتاح: قد يُكرَه الإنسان على الدّخول إلى بعض الأماكن المُغايِرة، مثل الثّكنة والسّجن، وقد يخضع لجملةٍ من الطّقوس والحركات التّطهيريَّة التي تسمح له بوُلوج بعضها الآخر. تلك هي الأماكن التي تتّصف بالانغلاق، وتتطلَّب ترخيصًا مِنْ لدن القائمين عليها. ولكنْ، قد يكون ارتيادُ بعض الأماكن بدافع دينيٍ – صحيٍ، مثل الحمّامات عند المُسلمين، أو بدافع صحيٍ فقط، من قبيل الحمّامات الإسكندنافية les saunas scandinaves. وفي مقابِل هذه الأماكن المنغلقة، توجد أماكن مُغايِرة تتميَّز بالانفتاح، من حيث إنّ مَنْ يقصدها، لا يكون، بالضّرورة، ضيفاً، بل عابرَ سبيل، يجوز له أنْ يبيتَ ليلةً في غرفة لا تُفضي إلى مجلس العائلة، مثل تلك الغُرَف التي اشتهرت بها المَزارِع الكُبرى بالبرازيل، أو يُمكِنه أن يُقيم ليلةً في غرفة بفندق، مثل غُرَف الفنادق الأمريكية الموجودة في الطّريق العامّ les motels.
و – مبدأ الإيهام والتّعويض: تضطلع بعض الأماكن المُغايِرة بوظيفتيْن اثنتيْن بالنّظر إلى مجموع الأماكن التي يُمكِن أن تحتضِن الحياة اليومية للإنسان. تتمحور الوظيفة الأولى حول إنشاء موقِع يُوهِم بالتّآلُف والتّناغُم، مثل بيت الدّعارة الذي كان، إلى وقتٍ قريبٍ، مكانًا يختلف إليه النّاس من الطّبقات والشّرائح جميعها، بشكل يومئ إلى انعدام التّراتُب والتّفاوُت بينهم. ولكنّ هذا المكان الوهميّ – المُوهِم يُعرّي، في الواقع، وهميَّةَ الفضاء الحقيقي نفسه، تلك التي تتمثّل في إظْهار التّنظيم والإحْكام من خلال توزيع النّاس في المواقِع المختلفة، وإضْمار الفوضى والاضطراب النّابعيْن منْ التّمييز بينهم، بناءً على ذلك التّوزيع، على أساس طبقي أو فئَوي أو عرقي أو ديني أو ثقافي أو أيديولوجي.
ويمثّل بيت الدّعارة، بهذا التّصوُّر الذي يحيل إلى ثنائية الظّاهر والكائن؛ ظاهر يُعْرِب عن تجانُس المجتمع وانسجامه، وكائن يفضَح نفاقه ورياءه وانقسامه، المكان المثالي الذي يُعبِّر عن مثالية المجتمع، ليس في توازُنه وكَماله، بل في اختلاله ونقصانه؛ فهذا الضّرب من الأماكن؛ أيْ المكان المثالي، قد يعكس، في منظور ميشال فوكو، مُجتمعًا كَامِلاً، وهو ما يبدو من خلال تصنيف المجتمع المُعاصِر تصنيفًا طوبوغرافيًا (الظّاهر)، كما قد يعكس مُجتمعًا ناقِصًا، وهو ما يشهد عليه تصنيف المجتمع تصنيفًا سوسيولوجيًا (الكائن). ولهذا، شكّلت المجتمعات الطُّهْرية التي أنْشأها الإنجليز، في القرن السّابع عشر، في مُستعمَراتهم بأمريكا، والمجتمعات اليسوعية، ذات الأسلوب المعماري الفريد والدّال، التي أُسِّسَت في مُستعمَرات أمريكا الجنوبية، نوعاً من الاستعاضة (وهنا، تتجلّى وظيفة المكان المُغايِر الثّانية والمُناقِضة للأولى) عن الفردوس المفقود؛ أيْ المكان الحقيقي المُوهِم بالكَمال، بتلك الأماكن التي يكتنفها، ظاهريًا وفعليًا، الانتظام والتّلاحُم والوِحدة.
خلاصة:
تتميَّز "قراءة" ميشال فوكو لتجليّات الفضاء المُغايِر أو الآخر، الذي يتوسَّط الفضاء المثالي والفضاء المُتجانِس (يريد ميشال فوكو بالفضاء الكلّ؛ أيْ مجموع الأماكن الثّاوية فيه، تارةً، ويريد به الجزء؛ أيْ المكان le lieu أو الموضِع la place أو الموقِع، تارةً أخرى)، بسِمَتها البنيوية، من حيث تحليلُ العلاقات التي ينسجها الإنسان مع المكان، ومُحاوَلة إدراكها وتحديدها، عن طريق المُقابَلة بين المواقِع في شكل ثنائيات ضديَّة، ابتغاء تمثُّل الفضاء واستيعاب معانيه. ولا تخلو هذه "القراءة" من بعد فينومينولوجي يركَن إلى التّأمُّل والتّأويل، ويظهر في تصنيف الأماكن تأسيسًا على رؤية ذاتية للقيَم التي يمنحها النّاس للمواقِع ويصطلحون عليها. ولا أدلَّ على ذلك مِنْ أنّ بعض تلك المواقِع، التي صنّفها ميشال فوكو، يُمكِن أنْ ينتسب، وفق مبادئ تحديد المكان المُغايِر، إلى أكثر من صنفٍ واحدٍ؛ فالمقبرة موقِع مُتحوِّل وقابِل للنّقْل وهي زمكان مُغايِر أيضاً، وبيت الدّعارة مكان مُوهِم ومكان الانحراف في الوقت ذاته، فضلاً عن أنّ بعض المواقِع يتّصف بالانغلاق (أماكن الأزمة، وأماكن الانحراف، والمتحف، والمكتبة، وبيت الدّعارة الذي يُحيل مُقابِله، في اللّغة الفرنسيَّة، وهو maison close la، إلى الانغلاق)، بينما يتّصف بعضها الآخر بالانفتاح (المعارِض الشعبيَّة، والقرى البولينيزية، والمُستعمَرات)، في حين يضطرب بعض المواقِع بين الانغلاق والانفتاح (المقبرة، والحديقة)، كما تضطلع الأماكن جميعُها بوظيفة معيَّنة.
الهوامش:
(1)«Des espaces autres» . وهو نصٌّ نُشِر في كتاب "أقوال وكتابات". ولأهميَّته، جرى تداوُله، كثيرًا، بين الباحثين الغربيّين، ونشرُه في مواقع مُختلفة في الإنترنت، وفي صيغ مُصوَّرة عديدة. وللاستزادة، يُمكِن الرّجوع إلى النّسخة الآتية:
Michel Foucault: «Des espaces autres», in «Dits et écrits (1954-1988), Tome II, 1976-1988», Gallimard, collection « Quarto », Paris, 2001.
كما تُرجِم هذا النّص، الذي قُدِّم في شكل محاضَرة إذاعيَّة صوتيَّة تختلف، اختلافًا هيّنًا، عن الصيغة المكتوبة، إلى اللّغة العربيَّة، إلى جانب محاضَرة إذاعيَّة صوتيَّة أخرى موسومة "الجسد الطّوباوي"، من قِبَل محمَّد العرابي. يُنظَر: ميشال فوكو: "الجسد الطّوباوي، أماكن أخرى"، ترجمة: محمَّد العرابي، منشورات الانتهاكات، د. ط، د. ت. ورابط الكتاب على الإنترنت هو: http://www.bookleaks.com/files/fhrst4/441.pdf
(2) GASTON BACHELARD : «La poétique de l´espace », puf, paris, troisième édition, 1961.
(3) "أفضيَّة أخرى"، مصدر سابق.
(4) المصدر نفسه.
(5) اقترح ميخائيل باختين، في مُقارَبته للنّص الرّوائي، مصطلح الزّمكان chronotopie، للإشارة إلى عدم القدرة على الفصْل بين الزّمن والمكان في علاقتهما بالخواطِر والأيديولوجيات ورؤى العالَم المُعبَّر عنها في الرّواية؛ فالزّمكان هو البؤرة المُجرَّدة والمُجسِّدة لذلك كلِّه. يُنظَر:
Mikhail Bakhtine: «Esthétique et théorie du roman», Gallimard, Paris, 1978, p 391.
(6) "أفضيَّة أخرى"، مصدر سابق.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- تمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّات
- المكان المُـغـايِـر في منظور ميشال فوكو
- سرديّات أمْ محكيّات قراءةٌ في عتَبتيْن نقديَّتيْن روائيَّتيْن عربيَّتيْن
- السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة
- السّرديات غير الطّبيعية
- السّرديات المتعالية على الميديا
- المحكيّ والمحكيّ النّفسي
- السّرديات الطّبيعية
- ألبير كامو وكرة القدم!
اكتب تعليقك