تمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّاتالباب: مقالات الكتاب
أ.د. سيدي محمَّد بن مالك المركز الجامعي مغنيَّة - الجزائر |
يُعَدُّ مصطلح المحكيّ récit من المصطلحات المُلتبِسة التي أشْكل على علماء السّرد الغربيين تحديد مفهومها؛ فقد أشار جيرار جينيت، في دراسته لـ"خطاب المحكيّ"1، إلى أنّ تعريف هذا المصطلح يتضمن ثلاثة تصوُّرات مختلفة، هي الحكاية والخطاب والسّرد، ذلك أنّ المحكيَّ قد يعني جملة الوقائع والأخبار، وقد يدلّ على الكلام الذي تُصاغ به تلك الوقائع والأخبار، وقد يحيل إلى تلفُّظ ذلك الكلام الذي به تتحقّق الحكاية. وممّا لا ريب فيه أنّ هذه التصوّرات الثلاثة، على الرّغم من تبايُنها الظّاهر، هي مُركِّبات المحكيّ ومُشكِّلاته؛ فقد انتبه جينيت إلى أنّ ثمّة علاقة حثيثة تربط بين هذه العناصر جميعًا، بحيث لا يُمكن تحليل الخطاب أو الكلام أو الملفوظ أو الدّال أو النّص، الذي اهتمّ عالمِ السّرد بمُقارَبته، دون الإلماح إلى الحكاية والسّرد.
والمحكيّ، بهذا التّعريف التّوفيقي الذي يخلص إليه جينيت، ينطبق، في رأينا، على النصوص الأدبيّة كلّها؛ قديمها وحديثها، شفهيّها ومكتوبها، شعبيّها ورسميّها؛ فالمحكيّ أعمّ من السّرد والشّعر والدراما وأشمل؛ فهو يحتويها جميعًا. إنّه ليس جنسًا ولا نوعًا ولا شكلاً ولا نمطًا أدبيًا. إنّه وسْمٌ لكلّ نصٍّ يتّصف بالسرديّة narrativité، وإن كان وصفيًا أو تمثيليًا، أو نصًّا غير أدبيٍّ، نظيرَ الفيلم والكتابة الصحفية والإشهار والقانون...؛ فالمحكي، الذي يتألّف من الحكاية histoire والخطابdiscours والسّرد narration، تصوُّرٌ جامعٌ لكلّ ما هو مرويّ، سواء أكان فطريًا وشعبيًا تستهجنه المُؤسَّسة الرّسمية وتُنكِره، أم فصيحًا ونخبويًا تستملحه تلك المُؤسَّسة وتُجيزُه. بهذا الشّكل، يُمكِن الحديث عن المحكيّ العجائبي récit fantastique والمحكيّ الأسطوري récit mythique، كما يُمكِن الحديث عن المحكيّ القصصي (نسبةً إلى القصّة nouvelle) والمحكيّ الروائي والمحكيّ الشّعريrécit poétique والمحكيّ المسرحي والمحكيّ المُصوَّر récit pictural والمحكيّ القانونيrécit juridique...
وتأسيسًا على ما سبق، سنحاول تعريف تصوُّرات مصطلح محكيّ لدى الغربيّين، وتحديد مُقابِلاته في اللّغة العربيَّة، وتقاطُعاته مع مصطلحات أخرى يثيرها الابتكار في اللّغة – المصدر (اللّغة الفرنسيَّة تحديدًا، باعتبار أنّ السرديّات البنيوية أو الكلاسيكية علمٌ فرانكفونيٌ بامتياز) والنّقل إلى اللّغة – الهدف (اللّغة العربيَّة).
1 – تمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّات الغربيّة:
على الرّغم من التّذبذب الذي يثيره مصطلح المحكيّ، من حيث تعدُّدُ تصوُّراته، الدالّة على الحكاية تارة أولى، وعلى الخطاب تارة ثانية، وعلى السّرد تارة ثالثة، إلّا أنّ علماء السّرد الغربيّين يُجمِعون على أنّ المحكيّ هو الكلام الذي يُهيمِن عليه القصّ، سواء أكان هذا الكلام شفهيًّا مثل الحكاية، أم مكتوبًا نظيرَ القصّة، وسواء أكان نثريًا من قبيل الرّواية، أم شعريًا نحو الملحمة. لذلك، نُلفيهم يُطلقون اسم المحكيّ على كلّ خطابٍ يُنشِئ به المُؤلِّف و/أو يسرد به الرّاوي الأحداث والوقائع المُتخيَّلة، بغضّ النّظر عن الجنس الأدبيّ أو غير الأدبيّ الذي ينتمي إليه ذلك الخطاب؛ فقد عنْوَن جينيت مُقارَبته، التي يدرس فيها نوعًا سرديًا مُحدَّدًا هو الرواية مُمَثَّلة في نصّ "بحثًا عن الزّمن المفقود" لمارسيل بروست، بـ "خطاب المحكيّ"، وعَدَّ أندريه نيال خرافات جون دو لا فونتين المنظومة شعرًا محكيّات، بل إنّ رولان بارت قد اعتبر "أعمال الرّسل"، وهو نصٌّ إنجيليٌّ، محكيًا، ومضى يُحلِّله تحليلاً نصياً مثل أيّ محكيٍّ أدبيٍّ.
وباستثناء تقسيم جينيت للمحكيّ إلى ثلاث طبقات، وهي الحكاية والخطاب والسّرد، بعد أنْ استغنى، في مقاله "حدود المحكيّ"2، بالتّمييز الشّعري الذي وضعه، من جهة، أفلاطون بين الحكْي diègèsis (قد يتغيَّر وسْم الحرف الصّائت (e) من (è) إلى (é)؛ فيأخذ المصطلح شكلاً صوتيًا آخر، ويكتسب، من ثمّ، صيغة نطقيّة مُغايِرة، هي diégésis، وقد يعرف المصطلح تحوُّلاً في بنيتيْه الصّوتية والصّرفية؛ فيصبح diégèse) والمحاكاة mimèsis، ومن جهة أخرى، أرسطو بين الحكْي والتّمثيل représentation اللّذيْن ينضويان، معًا، إلى المحاكاة، والتّمييز اللّسانياتي الذي ارتضاه إميل بنفنست بين المحكيّ والخطاب اللّذيْن يدنو تصوُّرُهما من تصوُّرات المصطلحات التي اعتمدها أرسطو وأفلاطون، وأيضًا، تقسيم بارت للمحكيّ إلى ثلاثة مستويات، وهي الوظائف والأعمال والسّرد. باستثناء ذلك، يُؤثِر علماء السّرد، عامّةً، النّظر إلى المحكيّ على أنّه حكايةٌ وخطابٌ فقط، أسوةً بالشّكلانيّين الرّوس الذين يرون أنّ المحكيّ يتضمَّن الأحداث التي تُؤلِّف المضمون السّردي، والكلام الذي يحبك ذلك المضمون وينسج أخباره ويُنظِّم تفاصيله؛ فقد انصرف تزفيتان تودوروف إلى تبنّي التّقسيم الشّكلاني القائم على ثنائية حكاية/خطاب، على الرّغم من أنّه يُشير، أثناء وصفه للخطاب، إلى مُكوِّنات السّرد التي تتمثّل في مظاهر المحكيّ وصيغه، وذلك قبل أن يفرد، في كتابه "الأدب والدّلالة"3، حيِّزًا خاصًّا لمُعالَجة المحكيّ باعتباره تلفُّظًا؛ فيُغيِّر شكليْ مصطلحيْ المظهر والصّيغة بِدالَّيْن آخريْن هما الرّؤية وسجل الكلام.
يقول عالِم السّرد عن التّقسيم المُزدوج للمحكيّ: "على المستوى الأكثر عمومية، يمتلك العمل الأدبيّ مظهريْن: هو حكاية وخطاب في آن واحد؛ فهو حكاية من حيث إنّه يذكّر بواقع ما، بأحداث تكون قد وقعت، بشخصيات تمتزج، من وجهة النّظر هذه، بأولئك في الحياة الواقعية. هذه الحكاية نفسُها يمكن أن تُنقَل لنا بطرق أخرى، كالفيلم. يمكن أن ندركها، مثلاً، بواسطة سرد شفهيّ لشاهد، دون أن تكون مُجسَّدةً في كتاب. ولكنّ العمل هو، في الوقت نفسِه، خطاب: يوجد راوٍ يُجْري الحكاية، وأمامه قارئ يُدرِكها. في هذا المستوى، ليست الأحداث المنقولة هي الّتي تهمّ، بل الكيفية الّتي من خلالها يعرّفنا بها الرّاوي"4.
كما يكشف ألجيرداس جوليان غريماس عن وجود مستوييْن اثنيْن قابِليْن للوصف السيميائي؛ "مستوى ظاهر للسّرد، حيث تكون مختلف تجليّاته خاضعة للمُتطلَّبات الخاصّة للمواد اللّسانية التي تظهر من خلالها، ومستوى محايث، يُشكِّل نوعًا من الجذع البِنَوي المُشترَك، تكون فيه السّردية مُحدَّدة ومُنظَّمة سلفًا قبل تجلّيها. يتميّز المستوى السيميوطيقي المُشترَك، إذًا، عن المستوى اللّساني، ويُعَدُّ، منطقيًا، سابقًا عليه، أيًّا كانت اللّغة المُنتقاة للتجلّي"5. ويومئ تقسيم غريماس للمحكيّ إلى بنية سطحيَّة وصريحة وأخرى عميقة وضِمنيَّة إلى أنّ اللّغة، شفهيَّة أكانت أم مكتوبة، ليست عاملاً رئيسًا في تشكيل المحكيّ؛ فقد تكون تلك اللّغة خطابًا تصويريًا (السينما) أو أيقونيًا (الرّسم) أو إيمائيًا (المسرح) أو إيقاعيًا (الموسيقى). ومن ثمّ، لا يدلّ مفهوم المحكيّ على الخطاب التّخييلي حصرًا، إنّما يستوعِب تصوُّرُه أشكالَ التّعبير جميعَها، شرْط أن تتوفَّر تلك الأشكال التّعبيرية على قدْرٍ من السرديَّة التي تقتضي حضور خطاب يُحكِم سَيْرورتَها ويضبط حركتها ويحِيك تغيُّراتها، ويستدعي، بدوره، مُتلفِّظاً يُنتِجه ويتواصَل بشأنه مع المتلقّي.
إنّ السرديّة باعتبارها وضعياتٍ ومآلاتٍ، والخطاب أو النّص، والتّلفُّظ بوصفه شرْط التّداوُلية، أركانٌ مُؤسِّسةٌ للمحكيّ الذي يسبق كلّ تصنيفٍ أجناسيٍّ وتنميطٍ موضوعاتيٍّ؛ فإذا كانت السرديّات البنيوية أو الكلاسيكية المُنغلِقة على النّسق قد حقَّقت "مجدها" من خلال اعتنائها بالمحكيّات الأدبيَّة وغير الأدبيَّة، مثل الحكاية والأسطورة والرّواية والنّص الديني والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي والخطاب الإشهاري، فإنّ السرديّات ما بعد البنيوية أو ما بعد الكلاسيكية المُنفتِحة على السّياق قد بدأت "تنتشر انطلاقًا من متْنٍ غزيرٍ ومتنوّعٍ: المحكيات العظيمة المأثورة، بالتأكيد، ولكن، كذلك، نصوص أقلّ مشروعية أو أكثر مخاتَلة، وأكثر هدمًا، ومحكيات غير تخييلية وغير أدبية، ومحكيات شفهية "فطرية" أو عفوية، ومحكيات فيلمية، ولكن، أيضًا، مسرحية، ومُصوَّرة، وموسيقية، ناهيك عن ميادين أقلّ سردية (كيْ لا نقول غير سردية)، من قبيل القانون، والاقتصاد السياسي، أو الطب"6.
2 – تمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّات العربيّة:
ينبغي التأكيد، ابتداءً، على أنّ السرديّات العربيّة، في شقّها التّنظيري، صورةٌ مُطابِقةٌ للسرديّات الغربيّة، حيث لم يعمل المُشتغِلون العرب بالسّرد، علماء ونقّاد، سوى على نقْل مبادئ السرديّات ونظرياتها المختلفة وترجمة المصطلحات السرديَّة المُؤسِّسة لكلّ منهجٍ علميٍّ يدرس المحكيّ. وإذا كان لا يجوز لنا أنْ نعيبَ أولئك العلماء والنقّاد جهودَهم في تعريف القارئ العربيّ بكلّ ما يتّصل بالسرديّات من أصول وقواعد ومفاهيم وتصوُّرات وأدوات إجرائية وطرائق تحليل الخطابات الأدبيَّة وغير الأدبيَّة، وأنْ نبخَس مُحاوَلاتهم توظيفَ علم المحكيّ، كما تمثَّله علماء السّرد الغربيُّون، في مُقارَبة المُدوَّنات السرديَّة العربيَّة، فإنّه ينبغي لنا، في الوقت عينه، أنْ لا نضرب صفْحًا عن الإشكالات التي خلّفتْها ترجماتهم للمصطلح السّردي؛ إذ اتّصف نقْلهم لهذا الضّرب من المصطلحات بالفوضى التي كان سببها "التّحمّس لفكر الآخر تارة أولى، والفردية في ترجمة المصطلح تارة ثانية، وإغفال مبادئ التّرجمة تارة ثالثة، والجهل بأسُس المواضَعة الاصطلاحية تارة رابعة، والتماس الرّيادة في نقل المصطلح الأجنبيّ تارة خامسة،..."7 .
لقد اعترى مصطلح المحكيّ، مثلاً، الاضطراب، أثناء ترجمته من قِبَلِ بعض علماء السّرد ونقّاده العرب. صحيح أنّ مثل هذا الاضطراب موجودٌ في السرديّات الغربيّة نفسها، حيث يتداخَل مفهوم مصطلح المحكيّ في اللّغة – المصدر؛ أيْ اللّغة الفرنسيّة، مع تصوُّرات ثلاثة مصطلحات أخرى، هي الحكاية والخطاب والسّرد (وفْق المفهوم السرداني narratologique الحديث) أو الحكْي (وفْق التّصوُّر الشّعري الأفلاطوني والأرسطي)، إلّا أنّ جينيت قد استطاع أنْ يحُدَّ المصطلح، مُمَيِّزًا إيّاه عن المصطلحات الأخرى التي تُعَدُّ عناصرَ تدخل في تشكيله، وذلك في قوله: "إنّ دراستنا، كما يشير إلى ذلك عنوانها، أو يكاد، تنصب، أساسًا، على المحكيّ بمعناه الأكثر شيُوعًا؛ أي على الخطاب السّردي، الّذي يبدو في الأدب، وخصوصًا في الحالة الّتي تهمّنا، نصًّا سرديًّا. لكنّ تحليل الخطاب السّردي، كما أفهمه، يستلزم باستمرار، كما سنرى، دراسة العلاقات، وأعني: من جهة، بين هذا الخطاب والأحداث الّتي يرويها (المحكيّ بمعناه 2)، ومن جهة أخرى، بين هذا الخطابِ نفسِه والفعلِ الّذي يُنتِجه، حقيقةً (هوميروس) أو تخييليًا (أوليس): المحكيّ بمعناه 3. علينا، إذاً، منذ الآن، كيْ نتلافى كلّ خلطٍ وكلّ ارتباكٍ في اللّغة، أن نُحدِّد بمصطلحات أحادية المعنى كلّاً من هذه المظاهر الثّلاثة للواقع السّرديّ. وأقترح، دون إلحاح على الأسباب البديهيّة، من جهةٍ أخرى، في انتقاء المصطلحات، أن أسمّي حكايةً المدلولَ أو المحتوى السّرديَّ (حتّى وإن أبْدى هذا المحتوى، في هذه الحالة، شُحّاً في الكثافة الدرامية أو المضمون الحدثي)، ومحكيًّا، بحصْر المعنى، الدّالَ، والملفوظَ، والخطابَ، أو النّصَ السّرديَّ نفسَه، وسردًا الفعلَ السّرديَّ المُنتِجَ، وبالتّوسُّع، مجموع الوضْع الحقيقي أو التّخييلي الّذي يحدث فيه"8.
وقد يجد القارئ لَبْسًا بين مصطلح المحكيّ، الذي يفترض أنّه يضمّ الحكاية والخطاب والسّرد معًا، والمصطلح ذاته وهو يدلّ، في هذا التّعريف، على الخطاب. غير أنّ هذا اللَّبْس سيتلاشى، حين يَعِي القارئ أنّ جينيت إنّما يستعمل المحكيَّ مُكافِئًا للخطاب، فلِأنّه مُتداوَلٌ ورائجٌ بهذا المفهوم بين جمهور المُهتمِّين بالسّرد من جهة، ولأنّ الخطاب هو جوهر المحكيّ، من حيث إنّه الباعثُ على تجلّي الحكاية والسّرد من جهة أخرى. ولا أدلّ على ذلك من أنّ عالِم السّرد يُعنْوِن دراسته بـ "خطاب المحكيّ"، إشارةً إلى أنّ الخطاب هو محور تحليله النّصي، مع إقْراره، في الآن ذاته، بأنّ وصْف هذا الخطاب لا يُمكِن أن يُنْجَز إلّا إذا تمّ وصْلُه بالسرديّة والتّلفُّظ. وهو ما يعني، في الأخير، أنّ الخطاب السّردي غير المُقيَّد بالكتابة وُجوبًا، أو النّص السّردي المُوثَق بها، هو جزءٌ، وإنْ كان ذا شأن، لا يتجزّأ من المحكيّ الذي ينهض، بوصفه كلّاً وبصرْف النّظر عن انتسابه إلى جنسٍ أدبيٍّ أو غير أدبيٍّ، على الحكاية والخطاب والسّرد.
أمّا في السرديّات العربيّة، فقد شهِد مصطلح récit تملمُلاً تجسَّد في مُعادَلة المصطلح الأجنبيّ بستة مصطلحات، هي محكي وحكْي وحكاية وسرد ومسرود وقصّة؛ فقد قابَل بعض علماء السّرد ونقّاده، في نقْلهم لمقال بارت الموسوم "مدخل إلى التّحليل البنيوي للمحكيّات"، المصطلح في اللّغة – المصدر بمصطلحٍ واحدٍ في اللّغة – الهدف، حيث ترجم كلٌّ من حسن بحراوي وبشير القمري وعبدالحميد عقار المصطلح إلى سرد، وترجمه منذر عياشي إلى قصّة، وترجمه عدنان محمود محمّد إلى مسرود. في حين، اضطرب أنطوان أبو زيد، في نقْله، بين سرد وحكاية، وغسان السيّد بين محكيّ وحكاية9. بينما قابَل سعيد يقطين مصطلح récit بمصطلح حكْي الذي ترجم به، أيضًا، مصطلح histoire، على الرّغم من الاختلاف البيِّن بين تصوُّريْ المصطلحيْن؛ إذ يتضمَّن المحكيّ، كما أسْلفنا القول، الحكاية بوصفها، هنا، مُكوِّنًا من مُكوِّنات المحكيّ الثّلاثة، لأنّها قد تدلّ على ذلك النّوع السّردي الذي يشمل أشكالاً سرديَّة ثانويَّة، نظيرَ حكاية الجنيات conte de fées وحكاية الحيوان conte d,animaux، والذي يُقابِل مصطلح conte في اللّغة – المصدر10.
ويثير كلّ مصطلحٍ من المصطلحات الستة التي رَضِيَها علماء السّرد ونقّاده العرب لَبْسًا على صعيديْ الشّكل والمفهوم معًا؛ فعلى صعيد الشّكل، يُراد لهذه المصطلحات السرديّة العربيّة، أو أغلبها، أن تحيل على أكثر من مفهومٍ سرديٍّ واحدٍ في اللّغة الفرنسية. وهو ما يُصَيِّر هذا الضّرب من المصطلحات مُشترَكًا سرديًّا مصطلحيًّا، ومثاله: (حكْي = récit – histoire)، و(حكاية = récit – histoire – conte)، و(سرد = récit – narration)، و(مسرود = récit – narré)، و(قصّة = récit – histoire – nouvelle). كما يُراد لبعض هذه المصطلحات السرديّة العربيّة نفسها أن تعبِّر، على صعيد المفهوم، عن شكلٍ سرديٍّ واحدٍ في اللّغة الفرنسية. وهو ما يجعل هذا الضّرب من المصطلحات مُشترَكًا سرديًّا تصوُريًّا، ومثاله: (محكيّ – مسرود =récit )، و(حكْي – سرد = narration)، و(حكاية – قصّة = histoire)، فضْلاً عن المصطلحات الستة الدالّة، كلّها، على مصطلح récit 11.
وأمام هذا الارتباك المصطلحيّ الشكليّ والمفهوميّ الذي تبعث عليه ترجمة مصطلح récit من اللّغة – المصدر إلى اللّغة – الهدف، نطرَح هذه المُعادِلات للنّقاش على جمهور المُشتغلين بالسّرد والمُهتمّين به:
محكي = récit.
حكْي = diègèsis أو diégésis أو diégèse.
حكاية = histoire (وقد يُكافِئ المصطلح السردي العربيّ، كذلك، مصطلح conte في اللّغة الفرنسية).
سرد = narration (وقد تدلّ مصطلحات حكْي وقصّ ورواية على المصطلح الأجنبيّ، مع أنّ المصطلح الأخير قد شاع، في النّقد العربيّ، بوصفه مُعادِلاً لمصطلح roman).
مسرود = narré (وقد يدلّ مصطلح مرويّ على المصطلح الأجنبيّ أيضًا).
قصّة = nouvelle.
وفي حين، يتّسم تمثُّل علماء السّرد ونقّاده العرب لمصطلح récit، من حيث السّعيُ إلى تحديدِ شكلِ المصطلح وصيغته، بعدم القدرة على مُعادَلته بمصطلحٍ واحدٍ في اللّغة العربيّة، ممّا يفضي إلى تعدُّد المُقابِلات وتضارُبها وإحالتها إلى تصوُّرات مختلفة، يُعَدُّ بعضها، في الأصل، قسمًا من أقسام المحكيّ (وهو المصطلح الذي نقترحه مُكافِئاً للمصطلح الأجنبيّ، كما أوْمأنا من قبلُ)، مثل الحكاية والسّرد والحكْي، وكذلك المسرود إذا نظرنا إليه على أنّه ما يسرده أو يرويه السّارد أو الرّاوي narrateur للمسرود له أو المرويّ له narrataire؛ أي الحكاية الدالّة على المحتوى السّردي، ويُعَدُّ بعضها الآخر تجليًّا خطابيًا أو لغويًا للمحكي، نظيرَ القصّة، يتميّز تمثُّل أولئك العلماء والنقّاد للمصطلح ذاته، من حيث محاولةُ الإحاطة بمفهومه، بعدم القدرة على تقديم تعريفٍ يَحُدُّه، سوى تكرار تعريف جينيت له، حيث يجنح معظم المُشتغلين العرب بالسّرد إلى إعادة ما خلَص إليه عالِم السّرد الغربيّ من بيانِ ماهيةِ المصطلح. مثال ذلك ما ورد في "معجم مصطلحات نقْد الرّواية" للطيف زيتوني، حيث نقرأ: "نطلق كلمة قصّة، عمومًا، على سردِ وقائع ماضية، متماسكٍ من حيث المضمون، ومؤثّرٍ من حيث طريقة العرض الفنيّة. والقصّة نظامٌ سرديٌّ مُؤلَّفٌ من ثلاثة مستويات: الحكاية وهي الحدث، وفعل السّرد وهو عمل الرّاوي، والخطاب وهو كلام الرّاوي. يستطيع الخطاب، وحده، أن يكشف لنا الحكاية وفعل السّرد معًا، لأن لا وجود للحكاية في غياب فعل السّرد الذي يرويها، ولا وجود لفعل السّرد من دون الخطاب الذي يُجسِّده. والعكس صحيح" 12.
وكذلك، ما جاء في تعريف محمّد الخبو للمصطلح، وهو تعريفٌ ينصرف فيه عالِم السّرد العربيّ، هو الآخر، إلى ترجمة récit إلى قصّة، واعتماد تصوُّر جينيت، حيث يقول: "ولمصطلح "قصّة" ثلاثة مفاهيم تداوَلها مُنظِّرو القصص، هي: القصّة ملفوظٌ قصصيٌّ بمعنى الخطاب القصصي، يكون شفويًا أو مكتوبًا، وينقل حدثًا أو سلسلة من الأحداث. القصّة تكون بمعنى الحكاية التي تتمثّل في المضمون القصصي الذي قوامه الأحداث واقعيّة كانت أو مُتخيَّلة. القصّة فعلٌ للقصّ في حدّ ذاته، أو ما يُسمّى، أيضًا، سردًا. ولئن اختلفت مفاهيم القصّة في هذه التّعريفات، فإنّها، في نهاية الأمر، مُلتئِمة في مفهومٍ أوسع ينتظِمها؛ فهي تُقال أو تُكتَب لتُخبِرَ عن الأحداث الجارية في الحكاية، وهي كلامٌ حاملٌ للمضمون القصصي، وهي، أيضًا، مجالٌ تظهر فيه علامات تحيل على فعل القصّ أو السّرد الذي يُنجِزها" 13.
خلاصة:
لقد سمح لنا هذا الوصف لتمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّات الغربيّة والعربيّة بالتّعرُّف إلى صناعة المصطلح السّردي في اللّغة – المصدر واللّغة – الهدف؛ فبينما تتحلّى تلك الصّناعة، في اللّغة الأولى، بالإبداع والإنشاء، تتّصف، في اللّغة الثانية، بالاستقبال والنّقْل، على الرّغم من أنّ صناعة المصطلح السّردي، مثل أيّ صناعةٍ مصطلحيَّةٍ، اشتغالٌ كوْنيٌ تنصهر فيه جهود العلماء والباحثين والمترجمين في العالَم كلّه. ومع ذلك، يغلُب على السرديّات النظريّة العربيّة، التي تقوم، أساسًا، على ترجمة مُنجَزات الآخر في ميدان علم السّرد أو علم المحكيّ كما يُسمِّيه تودوروف، وعلى العكس من السرديّات الغربيّة التي تشكو بعض الاضطراب في وضْع تصوُّرات المصطلح السّردي ومفاهيمه، الارتباك بل الفوضى في صياغة الأشكال والدّوال المُعبِّرة عن تلك التصوُّرات والمفاهيم. وهو ما قد يُعْجِز الباحثَ العربيَّ عن تمثُّل المصطلحات السرديّة وإدراكها وتوظيفها في تحليل الخطابات الأدبيّة وغير الأدبيّة العربيّة.
الهوامش:
1 - هذه الدّراسة مُتضمَّنةٌ في كتابه الموسوم "صُوَر III".
2 - Gérard Genette: «Frontières du récit», in «L’Analyse structurale du récit», Communications 8, Seuil, Paris, 1981, p 158.
3 - Tzvetan Todorov: «Littérature et signification», Larousse, Paris, 1967, p 79.
4 - Tzvetan Todorov: «Les catégories du récit littéraire», in «L’Analyse structurale du récit», Communications 8, Seuil, Paris, 1981, p 132.
5 - Algirdas Julien Greimas: «Du Sens; Essais Sémiotiques», Seuil, Paris, 1970, p 158.
وقد استأنسنا، في نقْل هذه الفقرة، بالترجمة الآتية: أ. ج. غريماس: "سيميائيات السّرد"، ترجمة وتقديم: عبد المجيد نوسي، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضاء، بيروت، ط. 1، 2018، ص 102، 103.
6 - Gerald Prince: «Narratologie Classique Et Narratologie Post – Classique», In «Vox – Poetica». http://www.vox-poetica.org/t/articles/prince.html
7 - سيدي محمَّد بن مالك: "السّرد والمصطلح؛ عشر قراءات في المصطلح السّردي وترجمته"، دار ميم للنشر، الجزائر، ط. 1، 2015، ص 109.
8 - Gérard Genette: «Figures III», Seuil, Paris, 1972, p 72.
وقد استأنسنا، في نقْل هذه الفقرة، بالترجمة الآتية: جيرار جينيت: "خطاب الحكاية؛ بحثٌ في المنهج"، ترجمة: محمّد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط. 2، 1997، ص 38، 39.
9 - يُنظَر: سيدي محمَّد بن مالك: "النّموذج البنيوي للمحكيّ في منظور رولان بارت؛ الرّوافد، والمصطلح، والتّرجمة"، في "أهواء بارت ومغامرات البارتية"، كتابٌ جماعيٌ، إشراف وتحرير: محمَّد بكاي، منشورات ضفاف، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، دار الأمان، الرباط، كلمة للنشر والتوزيع، تونس، ط. 1، 2017، ص 180.
10 - يُنظَر: سيدي محمَّد بن مالك: "السّرد والمصطلح؛ عشر قراءات في المصطلح السّردي وترجمته"، مرجع سابق، ص 102.
11 - يُنظَر: سيدي محمَّد بن مالك: "المُشترَك السّردي في السرديّات الغربيّة والعربيّة"، في "السرديات والتّرجمة العربية"، كتابٌ جماعيٌ، تنسيق: سيدي محمَّد بن مالك، تقديم: عبد الحميد بورايو، دار ميم للنشر، الجزائر، ط. 1، 2017، ص 97.
12 - لطيف زيتوني: "معجم مصطلحات نقْد الرّواية؛ عربي – إنكليزي – فرنسي"، مكتبة لبنان ناشرون، دار النّهار للنّشر، بيروت، ط. 1، 2002، ص 133.
13 - محمّد القاضي وآخرون: "معجم السرديّات"، الرابطة الدولية للنّاشرين المستقلّين، (تونس، لبنان، الجزائر، مصر، المغرب)، ط. 1، 2010، ص 333.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- تمثُّلات مصطلح المحكيّ في السرديّات
- المكان المُـغـايِـر في منظور ميشال فوكو
- سرديّات أمْ محكيّات قراءةٌ في عتَبتيْن نقديَّتيْن روائيَّتيْن عربيَّتيْن
- السّرديات ما بعد الكلاسيكيَّة
- السّرديات غير الطّبيعية
- السّرديات المتعالية على الميديا
- المحكيّ والمحكيّ النّفسي
- السّرديات الطّبيعية
- ألبير كامو وكرة القدم!
اكتب تعليقك