السّرديات الطّبيعيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 22:31:50

أ.د. سيدي محمَّد بن مالك

المركز الجامعي مغنيَّة - الجزائر

تأليف النّص الأصلي بالإنجليزيّة: مونيكا فلودرنيك 

ترجمة النّص إلى الفرنسيّة: رافاييل باروني

ترجمة النّص إلى العربيّة: سيدي مُحمَّد بن مالك

في «نحو سرديّات طبيعيّة»، تقترح مونيكا فلودرنيك (1996) مُقارَبةً للمحكيّات مبنيّةً على معايير عرفانيّة، ومن ثمّ، «طبيعيّة»، ابتغاء تطوير النّماذج السّردانية الكلاسيكيّة (البنيويّة) – جينيت (1972)، وستانزال (1984)، وشاتمان (1978)، وبال (1985)، وريمون - كينان (1983) – لبحث التّخييل ما بعد الحداثي الذي لم يُعْنَ به، بالتّفصيل، من قِبَلِ نظريّة المحكي التّقليدي. وتهدف مُقارَبة المحكيّات المبيَّنة في «نحو سرديّات طبيعيّة»، في الوقت نفسه، إلى إبراز عدم وجود قطيعة بين التّخييل والمحكيّات التّحاوُرية – المسمّاة، أيضًا، «طبيعيّة» من لدن برات (1977) استنادًا إلى أعمال لابوف (1972) – وهو ما يسمح بتحليل التّطوُّر التّعاقُبي لمحكيّات القرون الوسطى إلى يوم النّاس هذا، من خلال التّركيز، خاصّة، على الكيفيّة التي اتّخذت بها النّصوص الإنجليزيّة العاميّة في أواخر القرون الوسطى وبدايات العصر الحديث بنيات سرديّة تحاوُريّة وعدّلتها تدريجيًا. 

يتّصل مصطلح «طبيعي»، في عنوان هذه الدّراسة، بثلاثة مجالات استخدام، وهو مستقلّ، بشكل صريح، عن التّصوُّر المعياري (طبيعي ضدّ غير طبيعي). أوّلًا، تربط فلودرنيك المصطلح بالسّرد الطّبيعي، وهي تسمية تشير إلى المحكيّات التّحاوُرية التي تنشأ بشكل طبيعي. يتعلّق الأمر بحكايات تنشأ شفويًا، وتتمحور حول التّجارب التي عاشها الرّاوي (أو شخص آخر، في المحكيّات التي ترِد بضمير الغائب، والتي توصَف بأنّها «غير مباشرة»(1)، تلك التي تُعَدُّ جديرةً بالحكي (Tellable)، ومُتضمَّنة في حوار متواصل، حيث تقدِّم الحكاية، في أثنائه، إسهامًا مهمًّا للمحكي، ممّا يمنحه قيمة (A point في الإنجليزيّة). وتواصِل فلودرنيك، مستحدثةً التّصوُّر الأساس لتمثيل التّجربة بناءً على دينامية القدرة على الحكي (Tellability)، وعلى القيمة، وتعرّفه بوصفه خاصيّة رئيسة للسّردية. في نموذجها للسّرديات الطّبيعية، يشكّل السّرد الطّبيعي؛ أيْ التّحاوُري، نمطًا أوّليًا للسّرد ينطبق، كذلك، على المحكيّات التّخييلية، المكتوبة والأدبيّة، وإنْ كان بطريقة أكثر تعقيدًا وتوسيعًا أو تعديلًا.

ينبع المصدر الثّاني لمصطلح «طبيعي» من اللّسانيات العرفانيّة، واللّسانيات الطّبيعية لوولفغانغ دريسلر (1989) على وجه الخصوص – يُنظَر في الفرنسيّة (كيلاني ودريسلر، 2005) –؛ ففي هذه المقارَبة اللّسانية، يُنظَر إلى الاتّجاه اللّغوي، الذي يعتمد معايير مُفترَضة (في علم التّركيب، وعلم الصّرف، وعلم الأصوات الوظيفي،...)، بوصفه «طبيعيًا»، بالنّظر إلى كونه الخيار الأكثر شيوعًا بين المتكلِّمين؛ إذ إنّ العلاقات التّماثُلية، نظيرَ اختيار تسلسل محكيّات الأحداث وفق التّرتيب الذي نشأت به تلك الأحداث (Veni, Vidi, Vici)(2)، هي أمثلة عن الاختيارات «الطّبيعية». إنّ الخاصيّة الطّبيعية، مثلما يستخدمها علماء اللّسان – يُنظَر بولينغر (1977: x) – مرتبطة بالسّياق المعرفي لنظريّة الأنماط الأولى ونظريّات التّجسيد (Embodiment) – خلاصات المؤلَّف الأساس لجورج لاكوف «النّساء، والنّار، وأشياء خطيرة» (1987) –. إنّ التّجسيد يشكّل عنصرًا مركزيًا في السّرديات الطّبيعية.

ينبع المصدر الثّالث لمصطلح «طبيعي» من إضفاء البعد الطّبيعي، وهو تصوُّر استخدمه جوناثان كولر (1975: 134 – 60) لوصف عمليّة تبسيط التّبايُنات في المحكيّات من قِبَلِ القارئ. [...]. تزعم السّرديات الطّبيعية أنّ القرّاء الذين يصادفون بنيات نصيّة غير سرديّة (من قبيل الفهارس، ونماذج الأسئلة والأجوبة، والأوصاف التي لها أولويّة على المحكيّ) يضفون بعدًا طبيعيًا على هذه الظّواهر مثل المحكيّات، من خلال فرض سياق سردي، أو، كيْ نستخدم مصطلحات فلودرنيك، من خلال تسريد المادة النّصية التي ليست سرديّةً في حدّ ذاتها. ومن ثمّ، فإنّ نموذجَ سؤال – جواب لحكاية (Ithaque) في أوليس لجويس مُسرَّد، عمومًا، من لدن القرّاء، حينما يحدِّدون ما هي الأعمال (الصّغرى) التي اضطلع بها بلوم وستيفان في مطبخ منزل بلوم.

إنّ أطروحة التّسريد هي أصل الخلاف الجوهري مع مدرسة السّرديات غير الطّبيعية (Unnatural narratology، المستوحاة من السّـرديـات الطّبيعية)(3). حسب يان ألبر وبريان ريشاردسون، فإنّ السّرديات الطّبيعية، وإنْ كانت تركِّز على ظاهرة إضفاء البعد الطّبيعي، إلّا أنّها غير قادرة على أن تراعيَ، بشكلٍ كافٍ، التّجارب الحاسمة فيما يتّصل بالسّرد، لأنّها تصبو إلى اختزال المحكيّات التّجريبية إلى سياقات محاكاتيّة. كذلك، فهما يتبنيّان وجهة نظر أندرو غيبسون (1996)، الذي يؤيِّد نشوء شكل ما بعد حداثي للنّظرية السّردية. حسب فلودرنيك، فإنّ نظريّة التّسريد، مثلما تمّ بسطُها في «نحو سرديّات طبيعيّة»، تتأسّس على اختيارات محاكاتيّة لغالبيّة القرّاء. ومع ذلك، يمكن إدراج السّياق العرفاني، الذي يحيل إلى الكتابة التّخييلية الواصفة، في السّرديات الطّبيعية، لمراعاة العناية التي يوليها بعض (وهم قليلون؟) القرّاء للنّماذج السّردية غير الممكنة طبيعيًا أو العجيبة وغير المتوقَّعة بشكل ساخر(4).

يمكن تلخيص المبادئ الرّئيسة للسّرديات الطّبيعية كما يلي:

1 – لا تتكوّن السّردية، بصورة رئيسة، من الحبكة أو فعل الحكي، ولا من تضافُرهما (مثلما يقترح ستانزال، وجينيت، وشاتمان، وآخرون)، ولكنْ من تمثيل التّجربة؛ أيْ من العلاقة الدّينامية بين القدرة على الحكي والقيمة. إنّ هذه الأطروحة، التي تهمِّش الحبكة وتركِّز على تمثيل النّفس، قد أثارت جدلًا كبيرًا، غير أنّ تعريفاتِ السّردية الحديثةَ جدًّا لفرنار وولف وماري – لور رايان، التي تركِّز على الوهْم الجمالي (وولف 1993، و2013) وإنشاء العوالِم التّخييلية (وولف 2003، ورايان 2006، وهرمان 2009، وهرمان وآخرون 2012)، كانت أكثر ميلًا لتقبُّل تصوُّر تمثيل التّجربة.

2 – يركَن السّرد إلى معايير عرفانيّة تسعِف الرّواة ومستمعيهم في فهم العالَم (سواء أكان واقعيًا أم تخييليًا) على صعيد السّياقات أو النّصوص. إنّ هذا المستوى الأوّل من الفهم يطابق مستوى المحاكاة I عند ريكور (1983). 

3 – تتداخل، أثناء عمليّة قراءة المحكيّات أو تلقّيها، ثلاثة مستويات أخرى مبنيّة على معايير عرفانيّة. هناك، أوّلًا، المستوى الثّاني من الوضعيّات السّردية، الذي يبرز مختلف أشكال الولوج إلى العالَم التّخييلي – هنا، تميّز فلودرنيك بين: الحكي، والقيام بالتّجربة، والإدراك، والتّأمُّل (فلودرنيك 1996: 50) –. يتعلّق الأمر بمختلف أشكال تكوين الوعي: بواسطة صيغة السّرد (الحكي)، وبواسطة وعي الشّخصية (القيام بالتّجربة)، وبواسطة وعي الشّاهد (الإدراك)، وبواسطة السّرد التّأمُّلي الذّاتي (التّأمُّل). المستوى الثّالث هو مستوى التّوقُّعات المرتبطة بالجنس، مثل سياق الرّواية التّربوية أو رواية الحب القروسطيّة. ختامًا، يتكوّن المستوى الرّابع من التّسريد؛ أيْ من التّحويل العرفاني للنّص إلى محكي، لاسيّما إذا كانت البنية السّطحية لذلك النّص لا تستعصي على هذه العمليّة بشكل خاصّ.

تنشأ السّردية من التّفاعُل بين الذّات التي تشكّل أساس المحكي، الذي يتكوّن من تمثيل التّجربة الإنسانيّة، وبين عمليّة التّوسُّط أو التّسريد التي تضطلع بها هذه الذّات عبر مصفاة الوعي، باللّجوء إلى تصنيف أجناسيّ وسياقات نظيرَ القيام بالتّجربة أو الإدراك؛ فتكون السّردية حصيلة هذه العمليّة، حيث يمكن تحليلها بوصفها تمثيلًا توسُّطيًا للتّجربة.

في هذا النّموذج، يؤدّي التّجسيد دورًا مركزيًا، لأنّ المعرفة الإنسانيّة تتأسّس على بعدنا الجسدي وتموقعه في بيئة ما. لقد شكّل هذا المظهر موضوع اهتمام خاصّ من لدن علماء السّرد العرفانيّين، مثل كارين كيكونان وماركو كاراتشولو (كاراتشولو 2014، و2016، و2020، وكاراتشولو وكيكونان 2014، و2021، وكيكونان 2019). إنّ سياقيْ القيام بالتّجربة والإدراك مرتبطان بنماذج السّرد التّحاوُري (المحكيّات الشّخصية ومحكيّات الشّهود). لمزيدٍ من الشّرح، يُنظَر فلودرنيك (2018، و2010).

لا تكتفي السّرديات الطّبيعية باقتراح نظريّة للمحكي تؤلِّف، إلى حدٍّ ما، بين نموذج ستانزال والأفكار المستخلَصة من العلوم العرفانيّة وتحليل الخطاب. إنّها تبيِّن، أيضًا، كيفيّة تحليل المحكيّات التي تنزاح عن معايير الواقعيّة، سواء من خلال استخدام ضمائر غريبة لتعيين الشّخصيات (مثل أنتم أو نحن)، وحكي الأفعال بصيغ زمنيّة غير مألوفة (مثل الاستقبال، أو المحكيّات بصيغة الشّرط أو الحال)، أو بالاستناد إلى استراتيجيات سرديّة تخييليّة واصفة، وكتابة مبهَمة، أو تلاعُب بالألفاظ. إنّ مُناقَشة هذه النّصوص تُظهِر أنّ نماذج التّسريد المحاكاتي يسهُل تطبيقها على أغلب تلك النّصوص، لكنْ ليس كلّها. سيقول ممثِّلو السّرديات غير الطّبيعية أنّه من خلال التّركيز على التّسريد، سيتمّ طمْس أهميّة التّجريب السّردي أو تهميشه. ومع ذلك، إذا افترضنا وجود قرّاء بإمكانهم تقدير تقويض المعايير والسّياقات المألوفة، فإنّه يمكننا إدراج جنسٍ يحيل إلى هذه النّصوص والعوالِم السّردية التّجريبية وغير الطّبيعية التي تستجيب لتلك الأذواق، دون اشتراط التّخلي عن النّظرية الأساس بوصفها نموذجًا يصلُح لتحليل أنماط المحكيّات جميعها.

ختامًا، في الفصول 2 إلى 5 من «نحو سرديّات طبيعيّة»، تقترح فلودرنيك، أيضًا، تحليلًا تعاقُبيًا للمحكيّات الأدبيّة المكتوبة باللّغة الإنجليزيّة؛ أوّلًا، باستحداث نموذج للسّرد التّحاوُري مستمَدٍّ من أعمال لابوف، ثمّ بإظهار أنّ هذا النّموذج يمكن العثور عليه في المحكيّات العاميّة الإنجليزيّة في أواخر القرون الوسطى والنّصوص الحديثة الأولى. بعد ذلك، تقدِّم فلودرنيك أطروحة تتمثّل في أنّ هذا النّموذج المترسِّب يتفكّك، شيئًا فشيئًا، بتأثيرٍ من نماذج السّرد المكتوب الإيطاليّة والفرنسيّة واللّاتينية، ويتطوّر، تدريجيًا، نحو النّماذج النّمطية للرّواية. تقود فلودرنيك، حاليًا، مشروعًا موسومًا السّرديات التّعاقُبية، يهدف إلى تقديم أفضل تضمين سياقي وتحليل نصّي أكثر عمقًا لتعزيز هذه الأطروحة. في غضون ذلك، اكتسب البعد التّعاقُبي أهميّة في السّرديات المعاصِرة (فون كونتزن 2014).

ابتغاء نقد نموذج السّرديات الطّبيعية وتقييمه، يمكن الاطّلاع على العدد الخاصّ لمجلّة (Partial Answers) الصّادر في 2018، والمخصَّص للذّكرى السّنوية العشرين لـ «نحو سرديّات طبيعيّة». يتضمّن هذا العدد، الذي حرّره جون بير (2018)، مقالات جوناثان كولر، ودان شن، وبرايان ماكهيل، وكارين كيكونان، وجوناس غريثلين، وسواهم.

المصدر:

Monika Fludernik (traduit de l’anglais par Raphaël Baroni), « Narratologie naturelle / Natural Narratology », Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 11 janvier 2022, URL:

https://wp.unil.ch/narratologie/2022/01/narratologie-naturelle-natural-narratology/

الهوامش:

(1)  En anglais, dans le domaine de l’analyse des récits conversationnels, on qualifie ces récits de vicarious.

(2)  تعبير لاتيني يعني «أتيت، رأيت، انتصرت» [المترجِم]   

(3) Pour une introduction à la narratologie non naturelle, voir (Alber et al. 2010 ; 2013a ; 2013b; Alber & Heinze 2011 ; Alber 2016 ; Richardson 2006 ; 2015 ; 2018). La narratologie non naturelle a été discutée de manière assez controversée – comparer Petterson (2012), Klauk (2013), von Contzen (2017) – et elle a fait l’objet d’un échange entre Fludernik (2010 ; 2012) et Alber et al. (2012).

(4) En anglais, le mot unnatural (c’est-à-dire anormal, contre-nature) a des connotations d’écart vis-à-vis d’une norme; le terme non-natural, par contre, ne les a pas. C’est pour cette raison que Fludernik préfère l’usage du second terme.


عدد القراء: 2025

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-