روبرت لويل شاعر أتقن صنعته!الباب: مقالات الكتاب
رضا إبراهيم محمود مصر |
في جو من المناخ الفكري والفني، نشأ الشاعر الأمريكي (1917 – 1977م)، فهو ينحدر من أرقي الأسر في مدينة بوسطن بولاية (نيوانجلاند) الأمريكية، وهي أسرة خرج منها نفرُ من رجال الدولة والمحاربين والشعراء والمفكرين، ومنهم على سبيل المثال جيمس راسل لويل أستاذ الشعر في جامعة هارفارد، والشاعرة إيمي لويل، التي تُعد رائدة المدرسة التصويرية في الشعر الحديث، ما ساعد روبرت الابن على تشرب روح الأدب والشعر منذ نعومة أظافره.
موهبة وخروج عن التقاليد
كما تمتع روبرت لويل بموهبة فذة، وحيوية شديدة، قلما كان لها مثيل عند أقرانه من الشعراء، وعاش حياة مليئة بالإنجازات الكبيرة، وكان لويل قد تلقي تعليمه بالمدرسة الثانوية بـ(سان مارك)، أبرز المدارس وقتها في ماساتشوستس، وفي نفس المدرسة التقي وتأثر كثيرًا بالشاعر ريتشارد إبرهارت، الذي كان يقوم بالتدريس في المدرسة، عندها قرر لويل أن يصبح شاعرًا، وفيها أيضًا تعرف على فرانك باركر، وقررا أن يصبحا صديقان للأبد، وباركر هذا يُعد أيضًا فنان، ولكن فنانًا من نوع خاص، حيث قام فيما بعد بإنشاء المطبوعات، التي استخدمها لويل على أغلفة معظم مؤلفاته، لكن موهبة لويل الأصلية، تعود لفترة دراسته بجامعة هارفارد وكلية كينيون، حيث ظهرت عليه معالم التفكير الثوري الجامح، وبالرغم من تأثره بالمناخ الأسري، لكنه أبدى رفضه التام لكل المحاولات، الهادفة للتأثير على فكره الخاص، بخروجه عن تقاليد الأسرة بعد دخوله المذهب الكاثوليكي اليوناني في عام 1940م، وذلك راجع إلى عناده وصلابته، وثقته الكبيرة بنفسه.
وكان لويل علي يقين تام، بأن الأرستقراطية الحق هي (أرستقراطية الفكر)، بخلاف الأرستقراطية الاجتماعية التقليدية، التي لا فضل لأحد فيها، كونها أتت عن طريق الإرث لا أكثر، ولأن تلك الأرستقراطية التي ينادي ويتغنى بها أصحابها من الأسر، بعيدة كل البعد عن أية معاناة وجدانية أو فكرية، مؤكدًا في ذات الوقت على أن الاعتزاز الدائم بتلك الأصول والأجداد، سرعان ما يؤدي بالمرء لحالة من الكسل، والوهن الفكري وضيق الأفق والجمود التام، وفي الحرب العالمية الثانية، مكث لويل عدة أشهر بالسجن الفيدرالي في دانبري، لرفضه الخدمة بالجيش الأمريكي، وفي رسالة وجهها إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في السابع من سبتمبر عام 1943م، قال لويل فيها (عزيزي السيد الرئيس: أشعر بالأسف الشديد، لأنني يجب أن أرفض الفرصة، التي قدمتها لي الحكومة في السادس من أغسطس عام 1943م للخدمة في القوات المسلحة)، لكنه عاد وأكد على أنه واتته فكرة الاشتراك في الحرب، وذلك بعد الهجوم الياباني علي مرفأ (بيرل هاربور) الأمريكي الواقع بالمحيط الهادئ، وعندما اقتربت نهاية الحرب العالمية الثانية، وقرأ الشروط الأمريكية لاستسلام دول المحور، أكد على أنه يخشي أن تؤدي تلك الشروط إلي حدوث تدمير ألمانيا واليابان بشكل دائم.
قصائده برموز ودلالات وإيحاءات
في عام 1944م تمكن لويل من الانتهاء من ديوانه الأول الذي أسماه بـ(أرض التضاد)، وبعد عامين فقط انتهي من ديوانه الثاني (قلعة اللورد ويري)، ليثبت مكانته البارزة في مجال الشعر الأمريكي المعاصر، وديوان أرض التضاد كان يحتوي على اثنين وأربعون قصيدة من الشعر الغنائي، الذي جمع في أكنافه كمية كبيرة من الدلالات والصور والإيحاءات المتعددة، بجانب امتلاكه مرونة كبيرة في تشكيل القصيدة، من خلال خصائص المضمون الذي يتفاعل هو والتشكيل، وفي تعليقها على أسلوب لويل أكدت الباحثة الأمريكية هيلين فيندلر، بعد حضورها إحدى دورات لويل الشعرية على أن أفضل جوانب أسلوب لويل غير الرسمية، أنه يتحدث عن حياة قدامى الشعراء، وكأنهم كانوا أصدقاء أو معارف له، وبشكل غير مباشر، قام لويل بتحويل كل شاعر إلى نسخة من نفسه، وذكر قصصًا كما لو كانوا آخر الأخبار، كما ذكر الناقد راندل جاريل في مجمل دراسته عن الشاعر روبرت لويل، بأن الصراع في العديد من قصائده، يدور بين كلا المادة والروح.
أو بين القيد والانطلاق، وفي أغلب الأحيان ينتهي بتحرير المرؤ، كما أن الموت بقصائده، يأتي باعتباره تحررًا من دنيا الحاجة والخوف والمرض، مضيفًا بأنه على الرغم من قصائد لويل التي تزخر دومًا بوافر من الرموز والدلالات والإيحاءات الغير مباشرة، لكنه من اليسير ملاحظة المعاني، الكامن وراءها حالة استيعاب الخط الفكري الرئيسي، والمتمثل في صراع المادة والروح، أي أن كل تلك الأدوات الفنية جاءت مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالعمود الفقري للقصائد، والتي تقوم بدور التنويعات الجانبية الصادرة عنه، ومن أهم تلك التنويعات، أن العالم عبارة عن كتلة من الفوضى الجامحة التي يحتمل أن تُهذب، وأن تخضع لنظام دقيق يُوضع لمصلحة كافة البشر، بينما العقل الإنساني هو ذلك العامل الوحيد، الذي يمكن أن يُحيل تلك الفوضى إلي نظام، ويمكنه أيضًا أن يجعل الصراع عبارة عن تناغم، ذلك لأن لويل كان يعتقد أن العقيدة، هي أسمي أنواع النُظم، التي يمكن لكل البشر استيعابها، وأن يبدوا قناعتهم بها من تلقاء أنفسهم، دون أدنى تأثيرات.
فلسفته الخاصة واتجاهاته الفكرية
جاء فكر لويل، ليميل إلى التاريخ، أكثر من تأثره بالمنهج العلمي بكافة قوانينه المادية الصارمة، وذلك ناتج عن أن عقله أدبي وتقليدي، إلي حد أنه يصعُب عليه التخلص أبدًا من آثار الماضي، كونه لا ينظر إلى الواقع المعاصر نظرة علمية موضوعية، ولكنه يراه في ضوء الماضي، ما يعني أن العصور الأنفة نفسها باتت في تحول إلي واقع، عايشه لويل بكل كيانه في قصائده الشعرية، فيمكن أن نري فيها (روما القديمة)، كما نري فيها أيضًا العصور المتأخرة، وكذلك نري فيها إنشاء ولاية نيوانجلاند، وكل ذلك عبارة عن ظاهرة من النادر جدًا، أن توجد بين الشعراء المعاصرين، وذلك راجع إلي أنهم دومًا ما ينظرون للماضي من واقع حاضرهم، بخلاف العكس الذي عمل لويل عليه، من خلال فلسفة خاصة ومعينة، بدت مقصودة في نفس الأمر، باعتقاده أنه في دنيا الروح، لا تظهر أية فروقات بين الماضي والحاضر والمستقبل.
كونها دنيا لا تعترف في الأساس بذلك العنصر المتغير، ألا وهو (الزمن)، في حين أن الشعراء، والذين لا يرون أبعد من المظاهر المادية، يظنون أن الحياة هي مجرد اطرادًا زمنيًا من الماضي إلى المستقبل وهكذا يبدو الأمر، لكن لويل اعتبرها نظرة مفرغة من آثارها، لأنها قد تفرغ الإنسان من إنسانيته، كونها وضعت روحه تحت أنياب ضغوط المادة الشرسة والغير مستقرة، وفي منتصف الخمسينيات وضحت اتجاهات لويل الفكرية والفنية، التي اشتهر بها وبالأخص في ديوانه الرابع الموسوم بـ(من أجل الاتحاد الذي مات) وكذلك ديوانه (بالقرب من المحيط)، هذا ولم يقتصر نشاطه علي تأليف الشعر الخاص به، ولكنه أبدى شغفه الشديد بنقل تراث الشعراء الأجانب بجانب الشعر الأمريكي، وهو ما فعله من قبل في قصيدته المعروفة (النُعاس فوق الإلياذة)، حيث قلد فيها الشاعر فيرجيل، ومن قبل إصداره ترجمة خاصة به عن مسرحية راسين فيدرا.
مهارة وأفكار ورؤي
بمضي سنوات قليلة أصبح لويل من أشهر الشعراء الأمريكيين المعروفين، وتميزت قصائده بالموضوعية الشديدة، وبالأخص في ديوانه الثالث المسمى (طواحين كارفانوز)، الذي خرج إلى النور عام 1951م، علمًا بأنه قد استمد عنوانه من أطول قصائده التي تدور حول حلم يقظة، لإحدى الأرامل حيث تتنبأ فيه بسقوط واندثار بناية قديمة من بنايات مدينة نيوإنجلاند، وقد ركزت تلك القصيدة على أمرين أو رمزين أساسيين، ألا وهما الأرملة والبناية، واللذان يوحيان بدلالات كثيرة وتنوع لزم استيعابها، وبخلاف ذلك تفقد القصيدة كل معانيها، كما أن الأمر لم يقتصر على استخدام الرموز فحسب، لكن لويل دأب التركيز على استخدام المونولوج الدرامي، الذي يبتعد كليًا بالقصيدة، علي اعتبارها صورة وصفية من الخارج، وبذلك وصل لويل إلى مرتبة عالية من المهارة، في استخدام ذلك المونولوج في قصائده التي تميزت بالقصر، ما يعني أنه شاعرًا دراميًا من رأسه إلى أخمص قدميه، جاعلاً قصائده مسرحًا، أبطاله الأحداث والبشر والأفعال والمواقف والأحاسيس والأحاديث أينما طرأت على الناس، دون أية افتعالات.
وحتى في حالة قيامه أحيانًا باللجوء إلى نوعًا من التعميمات والمطلقات، فذلك الأمر كان راجعًا إلى الحتميات، التي يقوم البناء الدرامي للقصيدة نفسها بفرضها عليه، لكنه لم يقدم تلك الأفكار المطلقة في حد ذاتها، وإنما قام بالتركيز على تجسيد عالم متكامل يتحرك داخله الأفراد، ومن حركاتهم تظهر بجلاء أوجه التشابه وملامح التناقض فيما بينهم، وهو ما يؤدي بهم إلى مناقشة الأفكار والرؤي المطلقة، التي تجئ في الحوار، دون اقحام لها من قبل الشاعر على القصيدة، ولم يكن لويل رافضًا استخدام التعميمات أو المطلقات فقط، وإنما تجنب أيضًا إقحام ذاته، كي لا تفقد قصائده الشعرية موضوعاتها، مؤكدًا على أنه حالة مقابلة ضمير المتكلم لزم أن يكون ذلك الضمير ملاصقًا لإحدى الشخصيات التي تتحدث داخل القصيدة، سواءً كان ذلك الحديث مع نفسها، أو مع أيًا من الشخصيات الأخرى، فنجد استخدامه أسلوب المونولوج الدرامي في ديوانه الرابع في نهاية الخمسينيات، حيث بلور سيرته الذاتية كأنها تسلسلاً من ذكريات الطفولة والشباب، واستخدم في نفس القصيدة الشعر الحر، وخصص جزءً كتبه بالنثر، ليكشف فيه عن المجتمع من خلال الأنماط التي عرفها في أسرته.
قدرات خصبة – وصنعة متقنة
في مجمل السطور السابقة، استعرضنا تاريخ الشاعر روبرت لويل وخلفيته الأدبية والثقافية، والتي كان لها بالغ الأثر علي زيادة أفقه الشعري، ليشمل ضمير الأمة الأمريكية دون استثناء، وميله إلى التركيز على التحليل النفسي، وتيار الشعور واللاشعور عند الشخصيات، وذلك بأسلوب ذكي جدًا، واستطاع لويل أن يستوحي قصائد قديمة وحولها ببراعة إلى أعمال فنية قائمة بذاته، وابتعد عن التقليد الساذج، ما يعني أن معظم قصائده المستوحاة، فرضت على القارئ خلفية ثقافية عريضة، باعتبار أن ذلك يُعد شرطًا مسبقًا لفهم شعره، وقال النقُاد عنه أن شعره أقرب إلى الشعر الإنجليزي التقليدي، نظرًا لوعيه التام للقدرات الخصبة التي تملكها لغة الشعر وبالأخص الاستعارة والصوت والحركة، وكان يظن أن التجديد في مجال الشعر، يجب أن يأتي من تلقاء نفسه من غير أن يدركه الشاعر بشكل تام، أما إذا قصد إليه الشاعر عمدًا، فهو بذلك يقع في خطأ الافتعال، ولأن الأشكال التقليدية، أو التي هي أقرب إلى التقليدية صالحة للمضمون المعالج، فلا ريب أبدًا على الشاعر أن يقوم باستخدامها.
وهو استخدام يعني في المقام الأول التجديد الدائم والمستمر لها، وعلى الرغم من ذلك، لم يبتعد لويل عن العصرية في شعره، الذي بدأ مشكلاً لتوليفة دسمة من المعاصرة والتقليدية، ورغم ما قيل عن مليء قصائده بالطابع التقليدي، الذي من السهل على القارئ أن يشعر به، إلا أن قصائده لم تكن من القصائد السهلة أو المباشرة، لما تحمله من ثقل نوعي، ووافر الأبعاد ومزيد من الأعماق والرموز، التي ألزمت القارئ تملك خلفية تاريخية رحبة علي وجه الخصوص، ومن خلال تلك الخلفية يمكن للقارئ استيعاب وتذوق قصائد لويل الشعرية، ويمكنه أيضًا أن يفهم ذلك التدفق الهادئ من الأحاسيس والأفكار، مثلما هو الحال بقصيدته حوار عند الصخرة السوداء، وهي من ديوان قلعة اللورد ويري، التي قال فيها:
في تـلك الحفرة الـعميقة المملؤة بالرماد
تصرخ العظام طالبةً دم الحوت الأبيض
حـيث الـدود السميـن يسري حول أذنـيه
ينـطـلـق سـهـم المـوت صـوب الـهـيـكل
يـرعـد كـهــزيـم طــلـقـات الــمــدفـع
يـقطع حـبـل الحـياة المـتسلـقة كالـحـيـة
ومن الملاحظ أنها فقرة بدت عسيرة الفهم أو الاستيعاب على القارئ التقليدي، لعدم استطاعته إدراك الدلالات التي تكمن وراء الرماد والحوت الأبيض والدود والهيكل والحياة، التي ظهر تسلقها مثل الحية!، لكن القارئ المثقف يجد أنها عملاً ذو صبغة ومعني، لها شكل ومضمون، ما يدل على أن لويل كان شاعرًا مالكًا لكل أسرار وخبايا النجاح، وأنه شاعرًا مرموقًا أتقن صنعته إلى حد كبير.
تغريد
اكتب تعليقك