المستبد الفنان! ملاحظات في الشكل والمضمونالباب: مقالات الكتاب
رضا إبراهيم محمود مصر |
لم يكتفِ المستبدين والطغاة، عبر مر التاريخ الإنساني، بالسطو على الحريات وكبت الأفكار وقصف الأقلام، وزج أي معارض ومن أولهم الأدباء والكُتَّاب، إلى غياهب المعتقلات والسجون، أو إعدامهم إذا اقتضى الأمر ذلك، إرضاءً منهم لأهوائهم وشهواتهم، وخشيتهم على زوال ملكهم وسلطانهم، وإنما تعد الأمر أكثر من ذلك، فنجد قيام بعضهم بالتمثيل والغناء، ومنهم من كَتب الأدب والشعر والرواية، ومنهم من عشق الرسم التشكيلي، وهو ما يعتقده البعض، أنه إكمالاً للشهرة والسطوة والمكانة، وهناك نفرُ من علماء النفس وخبراء الاجتماع، أكدوا على أن ذلك، هو أخر أعراض ما يُعرف بمرض "جنون العظمة".
ودومًا ما يعمد المستبدين إلى منع إقامة أية اجتماعات أو أية اتفاقات لأغراض ثقافية أو أدبية، مع حظرهم لبعض المناهج التعليمية، وجعل الإعلام لونًا من ألوان الدعاية لهم، ولشعور المستبدين بالخطر الشديد، من أصحاب الأقلام الحرة، عمدوا إلى شراء ما يمكن شراءه منهم، كما أكد علماء النفس والاجتماع أيضًا، على أن الشخصية البارانوية المحملة بسمات سيكوباتية ونرجسية، عاش فيها صاحبها في أغلب الأحيان طفولة مضطربة، اتسمت بسوء العلاقة بينه وبين أبويه أحدهما أو كلاهما، ومنهم من نشأ على احتقار العواطف والمشاعر، وبغضه للتسامح، وهو ما يُعد نوعًا من الضعف في الشخصية، عند ذلك تصبح القيم السائدة في فكره، هي القوة والتفوق والتملك والانفراد بكافة الأمور، مع البحث عن تحقيق "اللذات" أيًّا كانت طرائقها، دون احترام أية قيم أو قوانين أو حتى أعراف، سواءً بُنيت على آلام الآخرين أو دون ذلك.
"نيرون" يحرق ويغني الأشعار !
على حسب ما قدمه الكاتب الهولندي (بول دامن)، في كتابه "قصائد دكتاتوريين"، والذي ذكر فيه أن نيرون "37 – 68م"عُرف عنه حبه للشعر، وأنه كان دومًا، يقوم بتمويل أعمال نفرُ من الشعراء والكُتاب في زمانه، وكان يقيم مجالس خاصة مع الشعراء، أولاها اهتماما كبيرًا وكان يقيم أيضًا مسابقات شعرية، يمنح فيها الفائزين جوائز مادية سخية، كما أضاف دامن، بضياع الكثير مما كتبه نيرون، ولم يتبقى من شعره سوى سبعة أسطر فقط، واستدل دامن على ذلك بذكره أن الحمَّامات التي كانت تعرفها مدينة روما في عهد المستبد نيرون، توفرت على الصور والكتب وحلقات الشعر، وبأن آخر كلماته التي كانت تدُل على مدى حسرته، قد تلخصت في قوله "أي فنان سيضيع معي"، ومن خلال كلماته، يتضح أنه يقصد نفسه أولاً، كونه فنانًا كبيرًا، سيختفي أقرانه من الفنانين باختفائه!، وبجانب هذا فهناك شواهد تاريخية، تؤكد أن نيرون عندما فشل في حملاته العسكرية والسياسية، واتته فكرة سيطرت على كل جوارحه، بأنه بارع في الغناء والتمثيل.
وكثيرًا ما كان يخرج إلى اليونان، يطوف مدنها ليحصد الجوائز، والتي كان من الصعب للغاية، على أية لجنة تحكيم أن تنتقده، أو أن يجعلوا أحدًا يشاركه تلك الجوائز، وفي أية مجالات قد تخص الغناء والتمثيل، وعندما كان يعود إلى روما، كان يدخلها دخول القادة الفاتحين المنتصرين!، وهو سائر وسط جموع من الممثلين والعازفين والمغنيين، يحملون الجوائز والأوسمة التي حصدها، ويُذكر أن نيرون قام بحرق روما، في أكبر جريمة تاريخية على الإطلاق وقتها وذلك في عام 64م، وفي حريق استمر أسبوعًا كاملاً، التهمت فيه النيران، نحو عشرة أحياء كاملة، من مجموع أحيائها الأربعة عشر، بعد أن داعبته مخيلته، أن يُعيد بناء المدينة (التعسة) من جديد، وفي وقت نشوب الحريق في كل الأمكنة، وتصاعد السنة النيران وصراخ الضحايا، كان نيرون يجلس بدم بارد في أعلى برج، ينظر إلى الحريق وهو يحمل في يده آلة الطرب!، يقوم بترديد أغاني وأشعار هوميروس، والتي كانت يصف فيها حريق طروادة.
حول كُرّاس "ستالين" وشروحاته
من أكثر الشخصيات التي دار حولها جدلاً واسعًا عبر التاريخ، كان جوزيف ستالين "1878 – 1953م"، فقد اعتبره البعض بطلاً مغوارًا، حقق أعظم انتصاراته على النازية وأزاحها من الوجود، ثم عاود تحقيق انتصاراته أمام العالم الرأسمالي والذي كانت تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، لكن على النقيض تمامًا، ظهر من يؤكد على مدى بطش واستبداد ستالين، ذلك الماركسي عدو القوميات اللدود، وفي مقال ظهر على صفحات جريدة "برافدا" السوفيتية الناطقة باسم الحكومة في الرابع عشر من أغسطس 1951م جاء فيه "الأدب والفن في روسيا، يجب أن يقتديا بمبادئ الحزب الشيوعي، الذي هو عماد العهد السوفيتي، والحزب الشيوعي لم يبخل بالجهد، في إفهام الكُتَّاب والفنانين بأن فكرة الفن للفن، لا تتماشي مع المصلحة الجوهرية للنظام الشيوعي والعهد السوفيتي، الذي حققت لروسيا هذه المكانة وهذه الرفعة".
ولفتت الجريدة النظر، إلى ضرورة تثقيف المسؤولين، عن اختيار الكُتب أو المقالات في بيوت النشر الروسية، وترقية أذواقهم في الفن، وذلك ضمن إطار الإيديولوجية السوفيتية، وذكرت الصحيفة في تعرضها إلى مجلة "الفن" الروسية، لتؤكد على أن بعض من محرري نفس المجلة، قد تنقصهم الثقافة الصادقة والذوق الفني الرفيع، وحول علاقة ستالين بالأدب أو بالأحرى بالكتابة، فهو قام في بداية عام 1951م بنشر دراسة دقيقة في كراس موسوم بـ"الماركسية ومسألة اللغات"، والتي بحسب ما أورده، عالج فيها علاقة اللغة بالأيديولوجية السوفيتية، وذلك من وجهة النظر الماركسية، مؤكدًا علي ذلك بقوله "إن الفهم الصادق لقوانين التطور في لغات الشعوب أمرًا له أهمية خاصة، لتحقيق الاشتراكية الكاملة"، كما قام ستالين بشرح تلك القوانين، بالإشارة إلى ضرورة إيجاد ظروف وملابسات معينة، تُسهم في تعجيل نمو لغة موحدة، في دولة كبيرة مثل الاتحاد السوفيتي، لكي تضم عشرات اللغات واللهجات والثقافات المتباينة.
شارحًا في كتاباته، ما حققته الأيدولوجية السوفيتية المحلية، في القطاعات الروسية المتباينة، من فرص أدت إلي نمو لهجاتها ولغاته الوطنية، وهي تسير على مبادئ ماركس ولينين، ويمكن أيضًا لمس ما أراده ستالين من وراء ذلك أيضًا، ألا وهو دعوة كُتَّاب وشعراء وفنانين الوطن السوفيتي، إلى جعل تصويرهم للحياة، أكثر من ناحية التعبير عن الواقع، لضمان مرونة اللغة الروسية وواقعيتها، لكي تحقق السيادة والتفوق بين كل لغات العالم، ولا يخفى على المتابع للأحداث ما عمله ستالين، تجاه الأديب الروسي الكبير أندريه بلاتونوف "1899 – 1951"، حيث غابت جزءً كبيرًا من أعماله عن النور، ومُنعت من النشر، تنفيذًا لأوامر صارمة من الزعيم ستالين، الذي كثيرًا ما أبدى غضبه، وانتقد بشدة أعمال بلاتونوف، وبالأخص عمله الروائي المسمى "للتخزين".
آراء "الرسام" أودولف هتلر
تشكلت شخصية الزعيم النازي أودولف هتلر "1889 – 1945م" منذ طفولته، نتيجة لعدة عوامل أهمها، تعلقه الشديد بأمه، ومدى سخطه على أبيه نظرًا لسُخريته الدائمة منه، ولسوء معاملته له، وعلى حسب أراء علماء النفس، ممن أكدوا على أن هتلر كان يرى في الإبادة والحرق والتدمير أنها أعمال لازمة، لتطهير العالم من الآثام والنواقص، مدفوعة بنوايا طيبة!، كما كان هتلر من أشد المعجبين بآراء الفيلسوف الألماني الكبير (نيتشه) كونه كان يمجد القوة، ويعتبرها الوسيلة الوحيدة للبقاء، وكثيرًا ما عشق هتلر معمار مدينة "فيينا" مسقط رأسه، ورسم معمارها في لوحات زيتية، وقد أنتج الفنان هتلر نحو ألفي لوحة زيتية، جسد فيها الطبيعة ببساطة، كما شغف هتلر بفنون "الموسيقي والأوبرا"، وفي مقابلة من إحدى مقابلاته الصحفية أكد قائلاً: «لقد أصبحتُ سياسيًا ضد رغبتي، لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لما اخترت الدخول إلى معترك السياسة، ولكنت فنانًا أو فيلسوفًا»، وفي بداية شبابه اتسمت حياة هتلر بالفقر الشديد، كما قضى أيام طويلة، وهو ينام على أرصفة الشوارع وعلى مفترق الطرق، أو أسفل الكباري.
كما حصل في مرتين متتاليتين، على نتيجة "غير مُرضي"، عقب تقدمه للالتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة فيما بين عامي "1907 – 1908م"، لأنه على حسب آراء لجنة التحكيم، لم يكن مناسبًا في مجال الرسم، وأن إحساسه الفني وذوقه لم يكن مستنيرًا، وما لبث أن نصحه الأساتذة بالتوجه نحو دراسة الفن المعماري، لكن شغفه بالفنون والموسيقي استمر يزداد باطراد، بجانب شغفه بفن العمارة والجرافيك، ومع ظهور توجه هتلر نحو الفن ظهر أيضًا وقوفه ضد توجهات العالم، في مجال الفنون التشكيلية عامةً، التي بدت مزدهرة وقتها، مثل التكعيبية والسريالية والانطباعية والتعبيرية والحداثة، حيث أبدى هتلر رأيه حولها بقوله "إن جميع تلك المدارس والاتجاهات الحديثة، تُفسد الذوق العام وتُشوه المثالية، وأن الفن الحديث، في حالة صراع مع قيم الجمال الخالدة والمُثل النبيلة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تراجع الحضارات".
الأديب "بريجينيف" وأحلام القياصرة !
من العجيب للغاية، أن ليونيد برجنيف "1906 – 1982م" زعيم الحزب الشيوعي السوفيتي السابق، قد حصل على جائزة لينين في الأدب عام 1979م، بعد كتابته ثلاث أعمال هي (الأرض البكر – الأرض الصغيرة – الانبعاث)، وذلك كان تزامنًا مع مطاردة أجهزة الأمن السوفيتية الكاتب الروسي الكبير سولجينستين "1918 – 2008م" خارج البلاد، وأعلام جميع عملاءها أنه مطلوب حيًا أو ميتًا، وما لبث أن أجبرت كل مؤسسات ووزرات، وأحزاب ومدارس الدولة السوفيتية وقتها على الاحتفاظ بكتُب برجنيف الزعيم الأديب القيمة، وسرعان ما هب نفرُ من النُقَّاد للاجتماع لمناقشة إبداعات الرفيق بشكل جدّي، وإبراز معانيها الأدبية، وكل مصطلحاتها النقدية وجوانبها الجمالية، تبعه تقديم وافر من القراءات النقدية لتلك الأعمال، والمعلوم تاريخيًا أنه خلال قيادة برجنيف للدولة السوفيتية، جرى استخدام "الطب النفسي" بهدف إضعاف وإخضاع وإبعاد أي معارضين سياسيين من المجتمع السوفيتي، بعد أن أعربوا صراحة في مرات، عن عدم اتفاقهم مع العقيدة الرسمية للدولة السوفيتية، أو مبادئ الحزب الشيوعي الحاكم.
كما تزايدت أعمال البطش، التي قام بها رجال الجيش، وعملاء جهاز المخابرات السوفيتية، أو ما عرف وقتها بلجنة أمن الدولة (كي جي بي)، وقد دخل برجنيف التاريخ من أسوأ أبوابه، عندما أعطى الأمر لقواته المسلحة بغزو دولة أفغانستان المجاورة، وذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين، بأنه كان المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفيتية، وبالعودة إلى أعمال برجنيف الأدبية، فقد أكد دكتور أحمد الخميسي عليها بقوله: «وبهذا تجاوز برجنيف أحلام القياصرة، التي انحصرت في شراء قلم الشاعر، إلى دمج الشعر والمقصلة في بُنيان واحد، لكن التاريخ الذي لا يرحم، أحال بإيجاز كل تلك الأعمال الأدبية، إلى مجرد نكتة، كتلك النكات التي انتشرت في روسيا، حين أعطى برجنيف لنفسه جائزة الأدب عن كُتب لم يكتُبها!، وجاء في إحدى أشهر تلك النكات، أن برجنيف استدعى رئيس الوزراء السوفيتي، وسأله عن رأيه في كتابه الأخير "الأرض البكر"، فقال له رئيس الوزراء كتابُ عظيم يا رفيق، فنظر إليه برجنيف متسائلاً، إذن يستحق القراءة ؟!».
تغريد
اكتب تعليقك