نساء أرهقّنَ أدباء!الباب: مقالات الكتاب
رضا إبراهيم محمود مصر |
في حياة معظم الرجال، ظهرن نساء، ممن كان لهن دورًا كبيرًا في تغيير مسار حياتهم، وأيًا كان شكل أو سريرة ذلك التغيير، فأن الأمر في حياة الرجال العاديين، قد يمر دومًا مرار الكرام، ولكن الأمر بالنسبة إلي الأدباء من الرجال، كان يختلف تمامًا دون غيرهم من الرجال، فمن الأدباء من عجز علي إنشاء علاقات ثابتة مع النساء، ومنهم من مثلت حياتهم معهن، أو علاقاتهم بهن، أكبر الاضطرابات والإشكالات، والتي وصلت إلي حد المعاناة والإرهاق الشديد.
(أوفيد) غرام ونفي وروائع!
من خلال ما كُتب عنه عرف أن الأديب والشاعر اليوناني بيبلوس أرفيديوس الشهير بأوفيد (43 ق م – 17م) بأنه رجل رقيق وأنيق، أشقر الشعر، أزرق العينين، وسيم اللافتة، إلى الدرجة التي جعلت كثيرًا من النساء يتهافتن عليه، لكن أوفيد لم يشعر بالحب سوى تجاه فتاة معينة وقع في غرامها، وهي (أرلان) ابنة الإمبراطور الروماني أوغسطس، ما سبب عداوة دائمة فيما بينه وبين الإمبراطور، وفي إحدى أسفاره إلى مصر، مكث أوفيد في مدينة الإسكندرية لتقلي العلم من مكتبتها الشهيرة ومن مثقفيها، وعقب عودته عاش مع أرلان فترة دون اقتران، وفكرت أرلان في أكبر استفادة يمكن أن تحققها من وراء ذلك، فذهبت إلي أبيها الإمبراطور تشكو إليه بقولها (أوفيد قد جعلني أمًا دون رغبة مني)، وكان رد أوغسطس بأنه لا يوجد حد لفساد هذا الفتى الأحمق، ووصفه بأنه يُعد نقطة سوداء في رداء الإمبراطورية النقي، بعدها أصدر قرارًا أجبر أوفيد بموجبه على الزواج من أرلان في غضون أسبوع وإلا سيحرقه حيًا، وتزوجها بالفعل فترة ثم سرعان ما طلَّقها، ولكن سيرة أوفيد مع عائلة الإمبراطور لم تنتهي عند ذلك الحد، حيث وقع في شباك حفيدة أوغسطس، وكانت تُدعى جوليا، وهي فتاة كانت لعوب متعددة النزوات، وكثيرًا ما غض جدها بصره على تصرفاتها، وبتشجيع منها عشقها أوفيد أيضًا، فاستغلت جوليا ذلك، وفكرت أيضًا في الاستفادة من موقفها هذا مع أوفيد بقدر الإمكان.
ولكي تتخلص من حياة الحياة المقيدة التي فرضها عليها جدها الإمبراطور، أشارت عليه بتعيين أوفيد أمينًا لمكتبة الإسكندرية، لأنه شغوفًا بالكتب، وقراءته الكثيرة ستحسن أسلوبه في الرواية والشعر، كي ينتج ما ترضي عنه الإمبراطورية من أعمال روائية، لكن أوغسطس كان على علم تام بنوايا جوليا ومراوغتها، وبأنها تريد من وراء ذلك ابتعادهما عن نظره، حيث بادرها بسؤاله المفاجئ بقوله «صارحيني يا جوليا، هل عبث أوفيد الخبيث بك كما عبث بأرلان ؟!»، لكنها وبنبرة صوتية تدل على مكر شديد قالت له «أترفض يا جدي، أن يكون حفيدك شاعرًا مثل أبيك ؟»، فلعنها أوغسطس وهددها بحرقه، وقال لها إنك ستكونين سببًا في ضياعه، وأمر بنفي أوفيد من الإمبراطورية إلي بلاد البرابرة في الشمال الشرقي، بينما أمر بنفي جوليا إلى مدينة الإسكندرية، وفي منفاها بالإسكندرية نسيت جوليا أوفيد إلى الأبد، وعاشت حياة اتسمت بالمجنون والابتذال الشديدين، وهو ما دفع أوفيد إلى أن يضمن بعض من أعماله، العديد من إشارات التهتك للإمبراطورية الرومانية، وجعل من الأساطير القديمة، واعتماده عليها برواياته مضامين يحاكي فيها واقعه المعيشي، وكتب في منفاه أروع أعماله الأدبية، وفي عز مجده وفي لحظة تأمل وإلهام وأثناء جلوسه على شواطئ الإسكندرية، توقف قلب الأديب أوفيد المرهق عن النبض كليًا، وعندما أرسل أصدقائه وقراءه رسالة إلى أوغسطس، بأن يسمح بدفن أوفيد في مدينة روما، كان جوابه بأنه يرفض ذلك، لأنه لا يريد أن يجعل من هذا المبتذل أسطورة، يتحاكى بها الجميع.
(ديكنز) حب ضائع وشهرة!
في بداية مشواره الأدبي، تعرف الأديب والروائي الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز (1812 – 1870م) علي فتاة جميلة وثرية تدعي (ماريا بندل)، وفي يوم من الأيام وعقب خروجهما من المسرح، فاجأته الفتاة بأنه قد يجئ يومًا تدعوه فيه إلى منزلها، لمقابلة أبيها والتحدث إليه، لكنها أشارت إلى ملابسه الرثة قائلةً له: «عليك أولاً أن ترتدي ثيابًا غير هذه، أليس لديك بدلة غيرها ؟!»، ومن ثم حرص ديكنز على أناقته وعلى تلميع حذائه دومًا، وبالرغم من قيام ماريا بالابتسام له ابتسامة عريضة، على ذلك التغير الواقع على هندامه، لكنها لم تدعوه يومًا إلى منزلها أو إلى مقصورتها التي كانت محجوزة دومًا باسمها في مسرح الكلاسيكيات، وكثيرًا ما كان ديكنز يعبر عن ما يجيش به صدره من حب وأشجان تجاه ماريا، لصديق مقرب له يدعي (بوب ماجن) وعن الأخير فهو قد حذره منها مرارًا وتكرارًا قائلاً له ذات مرة (ابتعد عنها يا تشارلز، فهذا النمط من النساء لا يهتم بأمثالك)، لكن ديكنز لم يبدي أي اهتمام لنصيحة صديقه فاجن، وفي أحدى مقابلاته معها دس ديكنز لها رسالة في يدها، كان كتب فيها كل ما يريده، وبعد أيام وعقب قراءتها الرسالة، أكدت له بأنه شخص رقيق، ولم تكن تعرف أن قلبه يُكَن كل ذلك الحب لفتاة مثلي، نظرًا لسمعتها في أوساط المجتمع بأنها فتاة عابثة، مؤكدة له علي مدي تقديرها لعاطفته.
ثم ضحكت عابثة لتقول له، من يدري.. القلوب كما يقول "شكسبير" طيور نازفة، فاعتقد أن ماريا تكن له عاطفة صادقة، مثل عاطفته تمامًا، وذات ليلة ذهب ديكنز إلى منزل الثري الكبير السيد بندل والد ماريا، عاقدًا العزم والنية على أن يطلب يدها، لكن الرجل صدمه بقوله: «إنك أيها السيد، قد أخطأت تفسير معاملة ابنتي ماريا لك، إنها قد تسمح لك بمحادثتها في المسرح، لكن ذلك ينتهي عند باب المسرح، مع السلامة أيها السيد»، وعند محاولة الحبيب معرفة رأيها قال له السيد بندل: «إن ابنتي قادرة على أن تسخر من القديسيين، وليس منك فقط !، أنصحك وأنت في أول شبابك أن تنسي ماريا، وأن تبحث عن زوجة تناسب ظروفك، أيها الشاب إنني أنقل إليك رأيها، إنها ترفض حتى أن تراك في طريقها أمام ذلك المسرح، فأخرج حتى لا أضطر إلى أن أجعل الخدم يخرجونك من هذا البيت»، وبعد شعوره بالإهانة والمهانة عند مغادرته المنزل، وضياع أمله في الزواج من ماريا، أخذ ديكنز يصحو من الأوهام التي غرق فيها، إلى أن تمالك قواه وجلس أمام منضدته الصغيرة، ليكتب قصته الشهيرة (دوريت الصغيرة) التي كانت بداية الطريق إلى شهرته، ليأخذ اسمه يلمع في سماء الأدب، ويغدو بعد شكسبير من أشهر الأدباء الإنجليز.
(تولستوي) وحنقه من القفص الذهبي!
كثيراً ما اشتكي أديب روسيا الكبير ليو تولستوي (1828 – 1910م) من محاولات زوجته، التي لا تكل أبدًا ولا تهدأ في التجسس عليه ومعرفة كل أسراره، وذلك بالرغم من حب كلاهما للآخر، وتأكيدًا علي ذلك يقول تولستوي: «وأغرب ما في حبيبتي صوفيا أنها بعد أن انتهت من تفتيش أدراج مكتبي، كانت تتسلل على أطراف أصابعها، خشية أن توقظني، ثم تفتح برفق ذلك الباب المؤدي إلي مخدعي، بينما أنا أصطنع النوم، لتقول لي بهمس: هل أنت مستيقظ يا ليو؟!، أتريد شيئًا يا عزيزي؟!، ولم أرد عليها حتى لا أحرجها بعلمي بفعلتها»، ومن واقع دفتر يوميات تولستوي وجد ما كتبه حيث يقول: «شيئان هما إكسير حياتي .. حبي للتعبير عن أفكاري بالكتابة الروائية، وحبي لزوجتي الحبيبة صوفيا أندريفنا»، ولكنه في ذات الوقت كثيرًا ما عبر عن حالة الجمود، التي كانت يشعر بها في حياته.
وأنه بدأ يشعر بأن حياته قد توقفت فجأة، مع عدم رغبته في شيء، وأن الحياة نفسها وهم، وأنه بلغ الحافة التي لم يجد بعدها إلا الموت، وفي صفحة أخرى من دفتر أحواله اليومية كتب تولستوي يقول: «لم أعد أحتمل محاولات صوفيا الدائبة للتجسس علي كل خطرات فكري، وبات إحساسي بضرورة الفرار إلى المجهول يتزايد، إلى الحد الذي يدفعني لهذا القرار في الغد، سوف أرحل، أجل يجب أن أرحل، أعرف أن صوفيا ستتألم كثيرًا، لكنني أنا أتألم كذلك، ربما أكثر مما تتألم هي ويجب ألا يعلم بمشروعي هذا إلا ابنتي ساشا، إنها لا تعارضني لأنها الوحيدة التي تدرك ما وصل إليه حنقي من هذا القفص الذهبي، الذي سجنتني فيه أمها المحبوبة إلى قلبي!».
وفي صباح اليوم التالي وأثناء تناولهما الإفطار، صاحت فيه صوفيا بلهجة شبه آمرة بضرورة شرب كل ما بالقدح من عصير الأعشاب المهدئة لمعدته، على حسب تعليمات الأطباء، عندها توقف تولستوي عن الأكل، ونظر إليها وقال بأنه أدري بحالته من الأطباء، وأنهم يقولون إن الداء في معدتي، لكن كلامهم كله هراء، الداء هو في ذلك الضعف، الذي أحالني حطامًا مهدمًا، حتى أصبحت غير قادر على إصلاح باب قديم، وفي إحدى مشاداته الكلامية معها قال لها صراحةً، بأن العلة ليست في معدته، إنها هنا في القلب، فلم يعد هذا العضو العجيب يُدير أمور جسده ببراعته القديمة، وبعدها بأيام ترك لها رسالة كتب فيها قراره هذا، وأسباب عدم احتماله الحياة معها، كما وصفها في خطابه هذا، بأنها باتت أشبه بسجَّانات العصور الوسطى!، وأنه يرجو منها عدم القيام بالبحث عن مكانه الذي سيذهب إليه، وفي حالة عودته إلى بيته مرة أخري، فإن ذلك لن يفيد أحدًا منا، بل سيزيد من تعاستنا جميعًا، وأي شيء لن يغير عزمي على الرحيل.
توفيق الحكيم حب وتخوف!
من الصعب جدًا، إنهاء الحديث عن الأثر السلبي لبعض النساء في حياة الأدباء، دون ذكر حالة أكثر إيضاحًا في عالمنا العربي، وهو توفيق الحكيم (1898 – 1987م) الملقب بـ (عدو المرأة)، الذي طالما أظهر عداوته للمرأة وكرهه لها في معظم أعماله الأدبية، ولكن الكاتبة صوفي عبدالله ترى في كتاب (حواء وأربعة عمالقة) أنه عدو للمرأة باعتباره رجل شرقي، وحبيب للمرأة باعتباره عاشق للجمال، وقد ذكر الحكيم حبه الأول والحقيقي، والذي سجل وقائعه بالتمام والكمال في رواية (عودة الروح) بين الفتي (محسن) وجارته الحسناء (سنية) ابنة الدكتور (حلمي) التي كانت تكبره بعامين، وشاهدها أثناء إقامته مع أعمامه بالمنزل رقم (35) شارع سلامة في حي البغالة بالسيدة زينب، ووصفها ذات مرة بذات العيون السمراء والأهداب الطويلة، وأنها تحتفظ بنظراتها وتحفظها بين أهدابها، كما يُحفظ السيف في الغمد، وقد عاش الحكيم أو محسن بطل الرواية، قصة حب مع سنية مليئة بالهناء تارةً، والشك واللوعة والقلق تارةً أخرى، فكان يشك في حبها ويشكو إلى اثنين من أعمامه، ولكن ما لبث أن جاءت الصدمة الكبيرة، عندما اكتشف أنها أحبت جارها، ذلك الشاب الثري المدعو مصطفى».
لكن ذلك الحب ألهمه الأدب والشعر، فكتب لها مجموعة من الرسائل والأشعار، قدمها إليها يوم الوداع الأخير، وهو يوم اعتبره أصعب أيام حياته قاطبةً، نظرًا لفياضة الدموع التي انهمرت أمام سنية، التي لم تعبأ به أبدًا، بعد أن انشغلت عنه بفتى أحلامها، وقد جعل الحكيم قصته مع الفتاة سنية في روايته عودة الروح، على غرار (إيزيس) وهي الأسطورة الفرعونية القديمة، التي جمعت أشلاء زوجها (إيزوريس) التي تبعثرت في كل مكان، كما أبدى الحكيم في مرات عديدة، تخوفه الشديد من حكم المرأة للعالم، وهو على ذلك يقول: «المرأة الجديدة تحيرني، إنها فاقت كل الحدود فهي تحكم العالم اليوم، ولا ندري سيأخذنا حكمها إلى أين؟، فإذا نظرنا إلى خريطة العالم، فإننا سنرى المرأة تحكم معظم البقاع الحيوية، فإنجلترا وهي دولة عريقة عظيمة تحكمها امرأتان، والهند لثاني مرة يُعاد فيها انتخاب أنديرا غاندي رئيسة للوزراء، وملكة الدانمارك امرأة ورئيسة الحكومة في سيريلانكا امرأة، وأيضًا في البرتغال ويوغسلافيا، وفي مصر وزيرة، وعضو في البرلمان ورئيسة مجلس إدارة، ورئيسة لأخطر جهاز إعلامي: الإذاعة والتليفزيون».
تغريد
اكتب تعليقك