قطار الشرق السريع محطات أدبية ورحلات إمبريالية!الباب: مقالات الكتاب
رضا إبراهيم محمود مصر |
في عام 1883م، تم إنشاء (قطار الشرق السريع)، وقد خُصص لنقل مريدي السفر لمسافات طويلة، وعلى الرغم من أن ذلك القطار، كان في بداية الأمر، مجرد خدمة سكك حديدية دولية تقليدية، إلا أنه مع مرور الزمن بات مرادفًا للإلهاب والإثارة، ونظرًا لفخامته وما به من وسائل للراحة، كان نفرُ من الكُتاب والمؤلفين، يفضلون السفر به، حيث حمل القطار أفكارًا أدبية، وحمل أيضًا أفرادًا، كانوا عملاء ومروجي سياسات خاصة، في شكل رحلات كانت لأهداف توسعية ودوافع إمبريالية !.
فكرة إنشائه وتجهيزاته
يُعد قطار الشرق السريع، أول قطار أوروبي عبر القارة، يجتازها من غربها إلى شرقها، مع وقفات قصيرة في بعض المدن، مثل مدن (مونيخ وفيينا وبودابست وبوخارست)، وذلك بعد قطعه مسافة تزيد على ألفي وسبعمائة كيلو متر، وتعود فكرة مشروع قطار الشرق السريع إلى (جورج ناجلميكرز) وهو رجل أعمال بلجيكي الجنسية، ووريث أسرة مصرفية ثرية جدًا، والذي تمكن وقتها من إقناع حفنة من مسؤولي عدد من خطوط السكك الحديدية الأوروبية، لأجل تسيير قطار ركاب خاص مع عربات نوم، على أن تتولى إدارته الشركة التي يملكها، والتي أسماها بـ (الشركة الدولية لقطارات النوم والقطارات السريعة الأوروبية)، وفي أولى رحلاته سافر الركاب بالقطار من مدينة باريس الفرنسية إلى ميناء (ڤارنا) في بلغاريا، بعد عبورهم نهر الدانوب على قوارب.
ثم انتقلوا من فارنا إلى مدينة (اسطنبول)، على متن سفينة بخارية أبحرت بهم عبر مياه البحر الأسود، وقد استغرقت الرحلة نحو ثمانون ساعة، ولأكثر من تسعة عقود من الزمن، كان القطار ينطلق من باريس إلى اسطنبول، ثم يعود إليها، على خطوط موحدة، مرورًا بأروع مناطق أوروبا، ثم أصبحت رحلة القطار كاملة في عام 1889م، بعد ما تقلصت مدتها لتصل إلى نحو سبعة وستون ساعة فقط، وقد تم تجهيز عربات القطار بغرف نوم ومطاعم وصالونات، وصالات مخصصة للتدخين وغرف استقبال للنساء، كما فرشت أرضيتها بالسجاد الشرقي، وستائر المخمل وأرضيات كانت من أثمن الأخشاب، مع مقاعد مُريحة، بجانب وجود مطبخ فخم، يوجد به كل ما يلزم لخدمة الركاب الأثرياء، وفي بداية ثلاثينيات القرن العشرون، صار ينضم إلى القطار، وذلك على حسب أيام الأسبوع، عربات قادمة من مدن (برلين وأوستند وأمستردام وفيينا وبراغ)، وينفصل عنه قطار صغير يتوجه إلى مدينة أثينا.
رائعة (أجاثا كريستي) الأدبية
في عام 1934م نُشرت للكاتبة البريطانية أجاثا كريستي (1890 – 1976م) رائعة من روائعها الأدبية، وهي الرواية الموسومة بـ(جريمة في قطار الشرق السريع)، وتدور أحداث الرواية حول المحقق (هيركيول بوارو)، والذي يطلب من عامل فندق التوكاتيلان بمدينة اسطنبول، أن يحجز له مقصورة بالدرجة الأولى، في أقرب رحلة يقوم بها قطار الشرق السريع، الذي تصادف مغادرة المدينة في نفس الليلة، وعقب أن استقل القطار التقي بوارو برجل يدعي (راتشيت) وهو من الأمريكيين الأثرياء، الذي يظن أن حياته في خطر، ومن ثم يطلب من المحقق المساعدة, لكن بوارو يرفض طلبه هذا، قائلاً له (وجهك لا يعجبني سيد راتشيت)!، وعلى غير عادته فقد تصادف ازدحام القطار في تلك الليلة بالذات، وتكدسه بمختلف الجنسيات، وفي ثاني ليلة من رحلته, يتوقف القطار وذلك بسبب تساقط الثلوج الكثيفة، على مقربة من إحدى مدن (يوغوسلافيا)، وفي الليلة نفسها، تقع العديد من الأحداث، التي أرقّت مضجع المحقق بوارو، نظرًا لوجود صرخات، أتت من داخل مقصورة الأمريكي راتشيت، وفي الصباح يُعلن السيد(بوك) وهو من أحد أصدقاء بوارو ومدير الشركة التي تُسير القطار, أن السيد راتشيت قد قُتل!, ويطلب من بوارو التحقيق في القضية، تجنبًا للتعامل مع الشرطة المحلية اليوغوسلافية, حيث يقبل بوارو القيام بتلك المهمة.
وعقب أن عاين بوارو جثة راتشيت والمقطورة التي كان بها القتيل، تم له التأكد من هوية الجريمة ومن دوافعها أيضًا، وتعود الأحداث إلى سنوات مضت في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم خطف طفلة تُدعي (دايزي آرمسترونغ) وهي في عمر ثلاث سنوات من قبل رجل يُدعى (كاسيتي), وقام بطلب فدية من عائلتها، وعلى الرغم من حصول الخاطف على الفدية، إلا أنه ما لبث أن قام بقتل الطفلة دايزي، وكم كان واقع الصدمة على عائلة الطفلة وهم (آل ارمسترونج)، فمنهم من قتلته الصدمة، ومنهم قام بالانتحار بعد عجزه عن تحمُلها، إلى إن تم القبض على كاسيتي القاتل عديم الرحمة معدوم الضمير، لكنه سرعان ما نجح في الفرار من محبسه، ويتمكن من مغادرة الأراضي الأمريكية، وقد استنتج بوارو بقريحته الفذة، بعد ربطه الأحداث ببعضها البعض، أن راتشيت القتيل، هو نفسه (كاسيتي) قاتل الطفلة دايزي!.
وتبدأ التحقيقات وتزداد الأسئلة، وتجئ الأجوبة، والتي من خلالها يتضح للمحقق بوارو، أن معظم ركاب القطار، على علاقة مع عائلة آرمسترونج، وهو ما يعني، أن لديهم كافة دوافع وأسباب قتل راتشيت، وعلى أثر ما استنتجه بوارو، يقترح أمرين لا ثالث لهما، قد مثلا حلاً للقضية، ثم يترك للسيد بوك اختيار الحل المناسب، وتقديمه للسلطات المعنية، فعن الأول فهو يتمثل في أن شخص غريب، اقتحم القطار وقتل راتشيت أو كاسيتي, بينما تمثل الاقتراح الأخير، في تخلف أحد الركاب عن القطار، والذي جعل عددهم يصل إلى اثني عشر شخصًا، قد شاركوا في ارتكاب الجريمة, اعتقادًا منهم أنهم قد حققوا العدالة، التي لم يتم تحقيقها في داخل أمريكا، وسرعان ما يتم التأكد، من أن السيدة العجوز (هوبارد) وهي من إحدى ركاب القطار, هي نفسها (ليندا أردين) جدة الطفلة القتيلة إيزي، والتي تعترف بالحقيقة، لكي تؤكد بأن الاقتراح الأخير للمحقق بوارو هو الحل الصواب، وقد أكدت أجاثا كريستي، عقب النجاح المدوي لروايتها، أنها قد استلهمت فكرة أحداث قصتها، من خلال زيارتها للشرق وما به من سحر، واستقلالها قطار الشرق السريع عدة مرات، والذي مثل لها بيئة خصبة، أفرزت عن ظهور تلك الرواية.
رواية (جراهام جرين) التنبئية
لم يكن قطار الشرق السريع مجرد أداة للسفر، أو وسيلة للنقل، وهو ما أكده مرارًا وتكرارًا الكاتب البريطاني الشهير جراهام جرين (1904 – 1991م)، حيث أنه قد استوحي فكرة روايته (قطار اسطنبول) من القطار نفسه، وتدور أحداث الرواية خلال رحلة في القطار، كانت في الفترة التي ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستغرق أيامًا من أوستاند في بلجيكا إلى اسطنبول، وقد أشار جرين في روايته، إلى شخصيات اجتمعت قدرًا، كما يحدث لأي مجموعة من هذا النوع، وحّد بينها القدر، كونها التقت في القطار المتجه عبر أراضي أوروبا، ونظرًا لأن القطار يقوم برحلاته في الليل والنهار، مع توقفه بأمكنة هنا وهناك، دومًا ما تصبح عربة القطار أشبه بعالم مغلق على نفسه، وأيضًا بعالم يغلق الشخصيات على ذاتها، ليجعل كلاً منها على مجابهة مع الشخصيات الأخرى، وتُعد رواية قطار اسطنبول، على الرغم من نشرها قبل سبعة أعوام من اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكنها أتت وكأنها تتحدث عن بذور تلك الحرب، والتي انبثقت في مجابهة حادة بين الشخصيات، لتحمل صورة مبسطة تنبأت للصراع المقبل.
بعد ما صنعها جرين من خلال الدخول إلى أعماق الشخصيات، ومن خلال تحديده الواضح للخلفيات الاجتماعية، والتي بجانب سيكولوجيتها هي ما يحكم تصرفاتها، ففي فصل من فصول ذات الرواية، نجد رجال الشرطة الذين يطاردون أحد المجرمين، والتي تُولد ردود فعل متنوعة لدى الركاب، ومن خلال تلك المطاردة، تبرز حكاية تهريب الأسلحة عشية الحرب، ومن خلال ذلك، نجد الشخصيات نفسها على صلة مباشرة مع الحرب، كما جمعت رواية قطار اسطنبول حالتي من (الجدية والدراما) مع عدد كبير من المفسدات الموجودة، التي ظل الكاتب يعالجها في معظم أعماله الأدبية، مثل الحب إلى جانب التفاوت الطبقي، ومن معضلة الأيديولوجي، إلى دور المال وما يمثله في حياة البشر، مرورًا بأمور مثل (الهوية والاشتراكية والخيانة) التي ألحت عليه طوال حياته، أكثر من أي موضوعات أخرى، وعن الشخصيات المحورية التي تدور الأحداث من حولها، فهي قليلة العدد، حيث اختار جرين تقديم نماذج معينة، قام بربطها مع بعضها، في علاقات وأحداث جمَّة.
رحلات العملاء الإمبريالية !
في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولي، اعتقدت ألمانيا وهي تحت ظل حكم القيصر غليوم الثاني (1888 - 1918م)، أن قطار الشرق السريع، وبالأخص خط (برلين – بغداد) كان يمثل في جوهره سياسة التوسع الألمانية، وفي كافة طموحاتها الإمبريالية بأن تصبح قوى عالمية عظمي، حيث أن ذلك القطار يقوم بربط الرايخ القيصري الألماني الثاني بالمشرق، وهي تلك الطموحات التي كانت تتعلق بتوريد الأسلحة ونقل الجيوش بطرق سريعة، وإقامة قواعد عسكرية في أقصى مناطق الشرق الأوسط، والوصول إلى الخليج الفارسي، دون أية معوقات أو عثرات، كما كان الرايخ الألماني يصبوا من وراء تلك الاستراتيجية، إلى التخفيف من حجم الأعباء الجسيمة، التي كانت تتطلبها جبهات القتال الأوروبية، هذا بجانب تحريض قوميات وشعوب مستعمرات الشرق، لكي تقوم بثورات وانتفاضات، تنتهي بأن تعلن تلك الشعوب نفورها وجهادها، على قوى الاستعمار وبالأخص (البريطانية والفرنسية)، وكانت هذه الأهداف تعتبر، قاعدة انطلاق مركزية للتوسع الألماني في اتجاه الشرق على وجه العموم، وبعد بدء معارك الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كثيرًا ما تردد العثمانيين، في دخول الحرب إلى جانب الألمان.
عند ذلك أتى دور العملاء (الألمان والهنغارين والنمساويين) الموفدين من قبل المخابرات الألمانية على متن قطار الشرق السريع، والذين نجحوا بالفعل في ترويج شعارات، تحت مزاعم وأفكار تدور حول (نُصرة الإسلام)!، وأخيرًا وفي نهاية شهر أكتوبر من عام 1914م، حسمت الإمبراطورية العثمانية الأمر، ومن ثم أعلنت دخلوها الحرب إلى جانب دول المحور، كما تمثلت مهام أولئك العملاء، في قيادة البعثات الاستكشافية، في داخل عدد من بلدان الشمال الأفريقي والدول العربية، لبث الدعايات الهادفة في نهاية الأمر، إلى إعلان الحرب الجهادية على قوات التحالف، وقد تبين بجلاء أن الدعاية الألمانية قد تكلّلت دون أدنى شك بالنجاح، وهي جهود كبيرة كانت (مالية ومعنوية) أنفقت في سبيل ترويج الدعاية الألمانية، والتي ساعد على نجاحها، خطوط سير قطار الشرق السريع.
حيث ظهر تأثيرها الواسع على الإمبراطورية العثمانية، والذي أثمر عن مولد الحلف الوثيق بين كلاً من الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية العثمانية، ولكن بعد أن توالت هزائم الدولتين الألمانية والعثمانية في الحرب نفسها، قام الطرف الألماني بإهمال رغبته الدعائية في استغلال فكرة الجهاد ونصرة الإسلام، على اعتبار أنها أفكارًا لتحقيق الأهداف الألمانية، كما حمل نفس القطار ضابط بريطاني جاسوس كان يُدعي توماس إدوارد لورانس (1888 – 1935م) الذي عُرف لاحقًا باسم (لورانس العرب) بعد أن تم تكليفه من قبل حكومة بريطانيا، ليسافر من خلاله إلى الشرق العربي، حيث نجح ذلك الجاسوس في إعادة إحياء الثورة العربية الكبرى، وفي خلال إحدى معارك الحلفاء ضد العثمانيين، قام لورانس الجاسوس المحنك، بنسف إحدى السكك الحديدية التي كانت تربط مدينة (دمشق) بالجزيرة العربية.
تغريد
اكتب تعليقك