برتولت بريخت المسرح كآلية للنضال والتغيير!الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 10:09:37

رضا إبراهيم محمود

مصر

لم يكن الكاتب المسرحي الألماني، برتولت بريخت (1898 – 1956م)، مجرد كاتب مسرحي تقليدي، ولكنه كان من أهم وألمع كُتاب المسرح العالمي في القرن العشرون، والمعلوم أن بريخت، قد أبدي اعتراضه علي نظرية أرسطو في المسرح، وهي نظرية قائمة علي محاكاة الواقع، مع إيهام المتفرج بأن ما يراه هو واقعًا بالفعل، لكن بريخت حاول جاهدًا تخطي تلك المحاكاة، للوصول إلي مفهومًا آخرًا للمسرح، والذي تمثل في مناقشة الواقع شكلاً ديالكتيكية، بهدف تنوير المتفرجين بحقائق ذلك، كما رفض بريخت جعل المتفرج مندمجًا، في داخل الأحداث أو الشخصيات، لكنه أراد له أن يكون واعيًا، بما يجب أن يكتشفه من خلال عرض الأحداث.

جعل المتفرج يُفكر ويحكم

وعلي عكس الكثير من النظريات، والأعمال المسرحية التقليدية، التي كانت تقوم بصرف فكر ورؤية المتفرج، عن القضايا السياسية والاجتماعية، عمل بريخت في محاولة منه علي توطيد فكرة، أن المسرح أن هو ألا رد فعل للتغيرات، التي لحقت بكافة أطياف المجتمع الألماني، في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، بعد أن تسببت تلك الحرب، في إحداث تغييرات كبيرة، في الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالبلاد، وذلك نتيجة لانهيار شبه تام في كثير من المبادئ والقيم، حيث ظهر تفشي حالات من البطالة داخل جموع العمال، وهي الطبقة الكادحة في البلاد، بجانب عمل بريخت الدؤوب، علي جعل المتفرج يري حقيقة العالم تمهيدًا لفهمه، وأن يجعله أيضًا واعيًا، كي يفكر ويحكم علي ما تم تقديمه له من قضايا، وذلك في تقنية تجميع أحداث صغيرة لإلقاء الضوء علي قضية كبيرة، جري تعيينها من زوايا مختلفة، من خلال استخدام المشاهد الصغيرة، علمًا بأن أعمال بريخت المسرحية، لم تكن تقتصر علي تقديم حالة خاصة، عن شخص أو حتي اشخاص، ولكنها كانت تعرض معلومات عن القضايا الإنسانية بشكل عام، حتي تصبح القضية نفسها قضية عامة، تخص أكبر قطاع من المجتمع نفسه.

والناظر إلى حال بريخت، يجد أن محاولته في التغيير والحصول علي الحرية، قد لازمته منذ نعومة أظافره، والدال على ذلك أنه كان يضيق ذرعًا، بحياة المدرسة الداخلية، التي كان يقوم بوصفها دومًا، بأنها حياة مضجرة، كما أفصح بريخت عن موقف معلميه، ممن كانوا يسعون دومًا إلى تشكيل الطلبة على صورهم، وذلك بقوله "في المدرسة، لا بد وأن يواجه الصبي في هول، حلفًا متنكرًا في العديد من الأشكال لا يمكن نسيانها، ذلك الحلف يملك قوى غير محدودة، وهو مزود بمهارات تربوية وبأعوام من الخبرات، يستعملها كلها ليجعل من الصبي صورة منحطة لذاته هو"، كما ولع بريخت في فترة مراهقته بالمسرح والغناء والكتابة، ومنذ صباه كان يهتم بمسرح العرائس، وفي مرات كثيرة حاول أن يقوم بالتمثيل، وأن يخرج مسرحيات كاملة مع زملاءه بنفس المرحلة العمرية، وكان يجد لذة كبيرة في الاستماع إلى المغنيين المتجولين داخل الأسواق والشوارع، كما أن مؤرخي سيرة حياة بريخت أكدوا على أنه بدأ في نشر أعماله الشعرية بوقت مبكر عام 1913م، بعد أن نشرت له صحيفة  "أحدث أخبار آوجسبورج" المحلية، التي كانت تصدر في مسقط رأسه بعضًا من أعماله الأولية، هذا بجانب ما نشرته له صحيفة الطلبة المعروفة بـ"الحصاد" العديد من قصائده الجديدة.

حرمان وتخبط .. ونزع الجنسية !

في عام 1920م انتقل بريخت للإقامة في مدينة ميونخ بعد وفاة أمه، وفيها تعرف على نفر من النقاد والأدباء الألمان، واستمر يتردد على العاصمة برلين بهدف إيجاد عمل فيها، وفي الفترة نفسها كان بريخت يشرف على زاوية النشاط المسرحي، في إحدى الصحف اليسارية الاشتراكية التي عُرفت بـ "إرادة الشعب"، لكنه سرعان ما أنهى عمله بها في عام 1921م، ثم انتقل مرة أخري عام 1924م إلى برلين ليقيم فيها إقامة دائمة، ومن خلال مجموعة كبيرة من الأدباء والدراميين، تمكن بريخت من العمل في المسرح الألماني مع المخرج المسرحي "ماكس راينهارت" والكاتب المسرحي "كارل توكماير"، وبعد مرور عامين فقط، انكب بريخت على دراسة الفلسفة الهيجلية والماركسية بشكل معمق ومنتظم في مدرسة العمال الماركسية، كما اهتم بذات الوقت وبشكل بالغ، بكافة القضايا الاقتصادية المعاصرة، وبالأخص أزمات البورصات ومناورات رجال المال والأعمال، وبجانب دراسته كان على صلة وثيقة بالمخرج المسرحي الألماني ذائع الصيت "إرفين بسكاتور"، حيث أشرف على عدد من العروض المسرحية، التي كان بسكاتور يقوم بإخراجها، والتي قد نالت إعجابًا شديدًا من الجمهور والنقاد على حد سواء.

وبعد مرور عقد كامل من الزمن، عاني فيها بريخت من ألم الحرمان والوحدة والتخبط، جاءت فترة وقوع الاضطرابات وأعمال الشغب، التي مهدت لوصول النازيين بزعامة هتلر إلي حكم الدولة الألمانية في بداية عام 1933م، والغريب أن النازيين اعتبروا بريخت من أوائل الأفراد المغضوب عليهم والواجب اعتقالهم، وفي أوج نشاطه المسرحي الذي وصل إلى ذروته في منتصف عام 1933م، تم وقف عرض مسرحيته الموسومة بـ"الاجراء"، كما منع من عرض مسرحيته "جان دارك"، ومثلما توقع بريخت تمامًا قبل شهور، بدأت تلوح في الأفق نوايا النظام النازي وزبانيته، تجاه كافة الأدباء والفنانين وأولهم المسرحيين، مما اضطره إلى مغادرة الأراضي الألمانية، لينتقل إلى العديد من المدن الأوروبية، مثل "براغ وفيينا وباريس وموسكو" وكذا وصل إلى الأراضي الأمريكية، حيث قام بعقد صداقات اجتماعية من أبناء بلده من المنفيين الألمان، عند ذلك قامت أجهزة الأمن النازية دون وازع من ضمير بمصادرة كُتبه وأشعلوا فيها النيران، أمام دار الأوبرا في قلب العاصمة برلين، بحضور آلاف من الجماهير الذين هللوا فرحين بذلك الأمر، تبعه إصدار قرار في عام 1935م، ينُص على تجريد بريخت من الجنسية الألمانية.

رفضه تدخل الدولة في الفن

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بنحو ثلاث سنوات، وزوال الحكم النازي، عاد بريخت إلي ألمانيا في عام 1948م، والتي راها ديمقراطية عكس ما تركها، مما دفعه إلى طبع كل أعماله الفنية، وبمعاونة زوجته الممثلة (هيليه مانبجل) قام بإنشاء فرقته المسرحية، التي عرفت بـ"البرلنير انسامبل"، حيث ذاع صيته وصيت فرقته ليصل إلي كافة أرجاء العالم، وفي تلك الفترة كان من الصعب للغاية على بريخت مغادرة برلين، اللهم حالة مصاحبة فرقته المسرحية، أو قيامه باستلام الجوائز العالمية، ومن خلال تتبع حياة بريخت، يلاحظ أن المناخ الاجتماعي والاقتصادي الذي عايشه في فترة شبابه، والذي كان سائدًا في المانيا بعد خروجها من الحرب العالمية الأولى، منهكة القوى خائرة ومهزومة في الحرب، واضطرارها عام 1919م إلى توقيع معاهدة الخزي والمهانة المعروفة بمعاهدة "فرساي" مع الحلفاء المنتصرين، وفرار القيصر إلى هولندا، كل ذلك جعل بريخت يبحث عن سبيل التمرد والنضال والخلاص، تمهيدًا للوصول إلى أسباب التغيير.

وهو ما أورده في مذكراته بقوله "كم تسئمني ألمانيا هذه، إنها بلد طيب متوسط الألوان شاحبة، والسهول جميلة فيها، ولكن أي سكان!، ريف خائر القوى وخشونة لا تنجب معجزات، بل بلاهة ساكنة، طبقة متوسطة مجملة برسوم رديئة وذكاء مستهلك"، مما جعله يشعر بالتزاماته الاجتماعية والإنسانية والسلوكية، وحفزه على اخرج كل ما في جعبته، من مسئوليات تجاه وطنه، في شكل أعمال مسرحية، وجد فيها سبيلاً للتغيير، واستمر نجاحه يسير بلا توقف، حتى وقوع أحداث إخماد ثورة العمال في المانيا، ليقوم بإرسال برقية عاجلة إلي رئيس دولة ألمانيا الاشتراكية "فالتر اولبريشت" كان نصها "إذا كان هذا الشعب لا يعجبكم، فابحثوا لكم عن شعب آخر"، وكثيرًا ما ندد بريخت بتدخل الدولة في أمور الفن والأدب قائلاً "أرى أنها أمور تؤذي الأدب الذي يواليها، عبر سحقها للأدب الذي يقف ضدها، فهي تضعه تحت وصايتها، وتنزع له أسنانه، وتحرمه من كل موضوعية".

أعماله وكأنها آلية للتغيير

علي الرغم من أن مسرحيات بريخت، كثيرًا ما أبرزت اتجاهه اليساري بشكل أكثر وضوحًا، لكن أعماله التعليمية تكاد تكون دعوة سافرة إلي المنهاج الاشتراكي، وعن أعماله الملحمية، فهي ألمحت بقوة إلى مدى التغيير، الذي طرأ علي أراءه السياسية، بعد أن أهتم بتلك الأعمال بالحياة الذاتية للفرد ودوافعه، بجانب الاهتمامات الجماعية التي ازدادت عمقًا، كما نجده يقوم في بعض الأحيان بتجريد مواضيع أعماله، إلى الدرجة التي يطمح فيها إلى ارتياد الشواطئ الميتافيزيقية" مثل الجدلية المعقودة بين كلا الخير والشر، والمشكلات الإنسانية العامة، وقد ترك بريخت إرثًا فنيًا لما يقرب من أربعة وثلاثون مسرحية موضوعة أو مقتبسة، جُمعت في إثني عشر جزءًا، هذا بجانب تركه عشرة دواوين شعرية، والعديد من الدراسات عن المسرح جُمعت في سبعة مجلدات، مع العديد من المقالات والروايات والقصص، التي جُمعت هي الأخرى في سبعة مجلدات، لكن شهرة بريخت لم تكن قائمة على كل تلك الفنون، لها كانت قائمة في أساسها، على أعماله المسرحية وتنظيره للدراما، بعد أن أحدث بالمسرح ثورة عامة في مفاهيمه، وحتى عن شعره الذي نظمه مبكرًا قبيل كتابته أية فنون أخرى، لم يتخذه غاية في حد ذاته، بقدر ما كان يوظفه في أغلب الأحيان لخدمة مسار حياته المسرحية.

وكان له آثارًا مسرحية، تمثلت في الاتجاه التعبيري، الذي شمل أعماله المبكرة في فترة شبابه، وقد جاءت آراء النقاد في تلك المرحلة متضاربة إلى حد كبير وشبه ضبابية، ولكن هناك من النقاد مثل "مارتن إيسلين"، ممن حاولوا تقصي ملامح الوجودية العبثية والرمانتية، اللتان بدتا أكثر ملائمة وملازمة لثورة بريخت الفوضوية، الموجهة في شكلها العام ضد نظام المجتمع البرجوازي الجشع، وضد عدم الانسجام والسخف في الطبيعة الإنسانية المتقلبة، كما حاول نقاد آخرون أن يجعلوا من ثورة بريخت علي المجتمعات البرجوازية، باتخاذه مسرحياته الأولى بوتقة لصب احتجاجه، الذي بدا جافًا في لهجته عن الحرب، فيما حذر أخرون من خطورة إعطاء الأهمية للصوت الفردي الانعزالي في أعماله، كونها تمردًا على المجتمع المستغل، ومن النقاد أيضًا، ممن رفضوا وضع أعمال بريخت في خانة التعبيريين، ممن كان لهم تيارًا سائدًا وقتها، بحجة أن رفضهم للحرب أمر أخلاقي ومسرحياتهم التعبيرية، تذكر الفرد بضميره وإنسانيته، بل وتعيده دومًا إلى حالة الفطرة الأولى، لكي تنزع عنه كافة الروابط الاجتماعية، وذلك عكس أعمال بريخت المسرحية، التي كانت بعيدة عن تلك المثالية، لتبدوا وكأنها ألة للتغيير، ومرتبطة بالواقع الاجتماعي الموجود في وقتها.


عدد القراء: 1412

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-