ألبير كامو بين التراجيديا والسياسةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 22:02:18

محمد الحبيب بنشيخ

المغرب

ترجمة: محمد الحبيب بنشيخ

"تقوم الحضارة على فن وضع حدود لرغبة الإنسان"

ينحدر كامو الطفل الفقير من حيّ بلكور البائس بالجزائر العاصمة. كان وهو بباريس ما بعد الحرب، محاطًا بالنساء ومكلّلا بالنجاح.  لم يستطع سارتر ورفاقه الذين كانوا يعربدون بالحانات ليلًا، ويراقبون الأفكار نهارًا، لم يستطيعوا منع كامو من فرض نفسه؛ لقد توِّج، وهو في الأربعين من عمره، بجائزة نوبل في الآداب. ومع ذلك، فليس هذا ما كان يطمح إليه. فما كان يحرّك حياته وفنه شيء آخر: إرادة البقاء بجانب المحتقَرين الذين ازداد من بينهم؛ الرغبة في إيصال قليل من الجمال إلى الوسط الذي كان له الفضل في تفتّحه. الحضور الدائم والخفيّ لأمّ لم تعرف القراءة والكتابة ولكنها شرّفت انعزالها الصامت، ابتعادها الفطري عن كلّ دناءة. إن ضوء الجزائر الفائق ينتمي في كتاباته، إلى جنة عدن، بروابيهاالفاتنة بالأفسنتين والطرفاء، والثلوج التي تضعف أشجار اللوز؛ وتوهّج الشمس النّهم «حين تصمت الجنادب» ، الأطلال الحامية القائمة على شاطئ البحر المتوسط، بأعمدتها «ذات اللون الصنوبري»، توابيتها الحجرية الضائعة بين أشجار البطم، أحجارها المنحوتة التي لا يكفّ البحر عن ملاطفتها، عذوبة أمسيات الصيف؛ الليالي المنقضية، الأعين الساهرة، تحت سماء تتلألأ نجومًا.

لقد بدأت، كما يقول، بالكمال. كانت فرجة الجمال هي غناه الوحيد بجانب صمت أمّه. وعندما تكلّفت الحياة بأن تعرّفه بالحرب، التمرّد والاحتقار، عندما تبدد جمال النهار، أمام مآسي عصر حديدي، بأوروبا تسودها المصائب، لم تبق له سوى الذكرى كوعد. لقد منعته من أن يفسد عطشه للعدل بالاستسلام لأديولوجيا قاتلة.

إن كامو المراسل، الصحافي، المدوّن القضائي، السياسي، المقاوم، الباحث، لم يرد أن يتجاهل أي إكراه من إكراهات العصر. تأمّل في عبثية الحياة، بؤس الأطفال، ونُبل الطبيعة البشرية. حاول أن يغيّر العلم بالسعي إلى أن يرجع إلى هذا العالم العدالة الممكنة، والسعادة المهمة للشعوب التي أرهقتها متاعب العصر.

ومع ذلك، استنتج وهو بمدرسة الإغريق، أن السياسة، مثلها مثل الهندسة، عليها أن تستلهم عبقرية الحكمة. لقد اعتبره الشيوعيون رجعيًا، واعتبره الرجعيون شيوعيًا. أما هو، فكان يرغب في البحث عن توازن بين التأمل والشجاعة. «أحاول، بكل بساطة، أن أكون إنسانًا». لقد بدا الطموح لمناصري معنى التاريخ هيّنًا. ويبدو لنا حسب حكمته عظيمًا. لقد أصبح رفض الإغراء الكلّياني الذي عرفه القرن العشرون، ذا شعبية كبيرة. وبعد ستين سنة على وفاته المفاجئة، صار كامو يمثل صورة العادل، الإنسان المتمرد بسبب ما يحط من الكرامة الإنسانية من غير الموافقة على أن يصبح التمرّد وسيلة للعنف الثوري الذي يخدم ديكتاتورية بوليسية. إنه يستحق أن يظهر على مداخل الثانويات، وأن يكون بغرفة باردة بسرداب الدفن بالبانتيون، بين فولتير، وفيكتور هوغو.

الغريب هو أن مدح الحكمة التي هي أساس تأمّله في الإنسان والعالم أملته عليه الأخلاق والمشاعر التي أصبح مناصروها مشبوهين:  نفكّر في الإنسانيات الكلاسيكية التي أُبعدت من من البرامج الدراسية بسبب عدم جدواها الملموس، لأنها كانت تلقّن أن الطغيان يمكن أن يأخذ صورة الرفاهية أو صورة فكرة مغرية؛ الورع تجاه أرض الآباء، العطف على البيض الصغار الذي أبان عن جزائر الصحراء والذي دعا التاريخ إلى مقعد المنبوذين؛ والاقتناع أخيرًا بأن الحضارة تقوم على وضع حدود لرغبة الإنسان، لنجعله في منأى عن تضخم الأنا الذي يحكم على المجتمع بالتدمير الذاتي. وما قد يحيّر كامو أكثر هو أن يرى أولائك الذين استسلموا لبذخ مجتمع الوفرة، وفقدوا الثقة في الرواية الوطنية، ووضعوا كل آمالهم في تطوير فردانية فوضوية لفكره، يتدافعون اليوم أمام قبره وكأنهم ورثته، ويقيمون له تمثالا باعتباره معلّمًا، ويعطونه صورتهم التي يعجبون بها.

لا بدّ من البحث عن العبرة من كامو خارج مسرح الكراكوز. لقد عبّر في نص ذي طابع إيصائي عن مدح «الخصال الجذابة التي يبدو أنه اعتبرها مفتاح أمله لأنها بدت له الوحيدة القادرة على الحفاظ على القوّة التي تخدم الروح: العزة، الذوق، الاعتدال والشجاعة. ولكنه يفضل تلك الخصلة التي ترمز في نظره إلى زهرة اللوز والتي بضمّ «البياض إلى النسغ» فإنها تصمد في وجه «رياح البحر». هذه الخصلة البسيطة التي اقترحها كامو وكأنها المفتاح السحري في عصر متخم، غارق في البحث اللامتناهي عن فن العيش، ومستعد لكل التنازلات حتى لا تزول الخيرات المادية، هي قوّة الطبع: إنها تلك التي تولد من الاتحاد بين القوة والاستقامة. كان يؤمن بأنها تهيئ في «شتاء العالم» المستقبل سرًّا(1).

ألبير كامو والتراجيديا الإنسانية

كان ألبير كامو المسرحي، المخرج، والكوميدي يحب أن يلجأ إلى المسرح ليعبّر عن أفكاره وهمومه.

كان ألبير كامو خلال حياته كلها، رجل مسرح بمعنى الكلمة. وفي المقابل، كافأه المسرح فمنحه رضى وجعل منه رجلاً مسرحيًا، أي الرجل الذي منح الخشبة مكانة متميزة في بناء إنتاج فني متنوع.

لقد باح العام 1947، في دفاتره بالعلاقات التي يربطها بين رواياته، أبحاثه ومسرحياته. اثنتان منها، كاليجولا وسوء التفاهم مثلاً، تدخلان في دائرة العبث إلى جانب الغريب وأسطورة سيزيف. إن أهمية المسرح لا تنحصر في تكرار ما سبق أن قيل، بأسلوب آخر وبشكل مغاير: إن طموح كامو أكثر من هذا. إن المسرح يسمح له بالدخول إلى بُعد آخر، أكثر حيوية، ومؤثرًا في الجمهور مباشرة. ومن الكلمات الأولى لكاليجولا، فإن العدمية التي تعبّر عن نفسها من خلال تكرار «لا شيء» تأسر المتفرج ولو بلا وعي منه.

كيف أتى كامو إلى المسرح؟ عن طريق السياسة! لقد أسّس العام 1936 بالجزائر العاصمة، رفقة بعض أصدقائه، مسرح العمل. فلا السنة ولا الاسم الذي يعطّر المناضل بريئان، ولا الأصدقاء المثقفون الشباب الذين يحلمون بالثورة، ويغوصون في الأديولوجيا الماركسية دون أن يستشعروا فورانها القاتل كذلك. إن المسرح، في رأيهم، هو المكان المفضل لتربية الجماهير. إن قطيعة كامو العام 1937 مع الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه ثلاث سنوات قبل ذلك، دفعته إلى حلّ مسرح العمل. أهي نهاية المسرحية؟ قطعًا لا! وبعيدا عن إسداله، فإن الستار سيرفع عن فصل آخر مسرح الفرقة. لم يعلن عن الطابع الثوري أبدًا، غير أن الشعور بالجماعة باقٍ. إن طموح هذا المسرح الجديد ليس هو خدمة المؤلفات ولكن المطلوب منه هو الاستجابة لحاجات العصر. وفي بيانه، فإن مسرح الفرقة يطلب من «المؤلفات الحقيقة والبساطة، العنف في المشاعر والفظاظة في العمل». طلب سيترك مع ذلك مكانه لاقتباس مسرحيات من عصور مختلفة، ما دام أن كلوديل المعاصر سيكون بجانب أريسطوفان، مالرو، أو سيرفانتيس.

سيحاول كامو نفسه، رفقة أصدقائه الشباب في الثورة، كتابة مسرحية مناضلة تمرد في أستورياس. وفي الصراع الاجتماعي ليوم 15 مارس 1936، يقدم مشروعه موضحًا: «ليس مفيدًا التأكيد على مشروعنا الجديد، الأول من نوعه بالجزائر العاصمة. لقد وجدنا في ثورة أكتوبر العام 1934 بأوفييدو، مثالًا إنسانيًا قويًا وكبيرًا. جعلنا العمل مباشرًا وقريبًا عن طريق إخراج يقطع مع معطيات المسرح التقليدية. فكرنا، كتبنا وأخرجنا هذا العمل الفني معًا، حسب برنامجنا.»  المسرحية هي الثانية التي أخرجها مسرح العمل. وبإثارته الاضطرابات المحتملة، إبان فترة الانتخابات، فإن عمدة الجزائر العاصمة منعها. طارئ صغير سيعطي لنص كامو اعتبارًا مدمرًا! إن الثورة لا توجد فقط في موضوع المسرحية، ولكن في إخراجها الذي يريد أن يتخلى عن المسرح التقليدي وفي فعل كتابة المسرحية المشترك أيضًا. ومع ذلك، تخللت أسطر هذه الدراما، الثيمات الكبيرة التي تسم مؤلف جائزة نوبل مستقبلاً: الالتزام، عبثية الحياة والموت، التمرد وضرورة كون الانسان حرًّا.

وابتداءً من العام 1938، سيكبّ كامو على كتابة مسرحية جديدة: كاليجولا التي ظهرت العام 1944. وفي الحقيقة، توجد نسختان لهذه المسرحية، تعود الأولى إلى العام 1941 ولن تنشر إلا العام 1984، وهي مسرحية من ثلاثة فصول لن ترى النور: أمام فظاظة الحرب والاستعمار، وضع كامو أصبعه على الطريق المسدود لآدمية مطلقة. لقد راجع إذن نصه لدعم شخصية شيريا على الخصوص: رفض الانخراط في منطق كاليجولا وإن كان قد فهمه جيدًا. لقد كتب كامو في دفاتره: «لا. كاليجولا لم يمت. إنه هنا، هنا، إنه بداخل كل واحد منكم. إذا كانت لكم السلطة، إذا كنتم شجعانًا، إذا كنتم تحبون الحياة، فسترونه يكسر قيوده، هذا الغول أو هذا الملاك الذي يوجد بداخلكم. لقد مات عصرنا لأنه آمن بالقيم، وأن الأمور يمكن أن تكون جيدة وتكفّ عن عبثيتها. وداعًا. سأدخل إلى التاريخ، حيث يأسرني الذين يخشون أن يحبوا كثيرًا.»

لقد أخرجت مسرحية كاليجولا، السنة الموالية لظهورها، بمسرح هيبرطو بفضل بول أوتلي مع جيرار روا المبتدئ الجديد الذي سيلعب دور كاليجولا «ممزَّق وممزِّق». إنه نجاح كبير. ولكن هل نمتدح مظهر ممثل دور العاشق، أم تمثيله، أم المسرحية نفسها؟ كل غموض هذا النجاح يوجد هنا، وكأمو لم يُخدع بذلك. وسيقدم كامو بنفسه، عشر سنوات بعد ذلك، قراءة لمسرحيته بمسرح المسرنمين.

لقد سمحت له سنوات الحرب أيضًا بأن يكتب مسرحية أخرى من ثلاثة فصول أطلق عليها سوء تفاهم. ومرة أخرى لم يحالف الحظ كامو. تقوم هذه المسرحية على حادث مأساوي: اعتادت أمّ وابنتها على قتل المسافرين الأغنياء الذين يتوقفون بفندقها، ستقتلان الإبن والأخ اللذين لم تتعرفا عليهما. فإذا كان الأمر يتعلق بالحب في مسرحية سوء تفاهم، فإن هذا الأخير سيؤدي دائمًا في نهاية المطاف إلى ما هو تراجيدي ما دام الانتحار هو غاية فعل إجرامي. وفوق كل هذا، فإن كامو يقلب الأخلاق ويعتبر في تعليق على مسرحيته أن «كل الشقاء الذي يعاني منه الناس يأتي من كونهم لا يستعملون لغة بسيطة». فلو عرَّف الابن بنفسه لما مات … إنه مجرم حقيقي! وبعرضه هذه المسرحية أمام الجمهور الأمريكي، باح كامو بعمق تفكيره عندما أكد أن «المسرح ليس لعبا، إنه قناعتي».

وفي العام 1948، سيعود بمسرحية الحصار التي تتناول موضوع الحرية، «الديانة الحية الوحيدة في عصر الطغاة والعبيد» كما يقول كامو في تقديمه عمله الخاص بأمريكا. لقد كانت الحرية أيضا في قلب مسرحية العادلون التي عبّرت العام 1949، عن عملية إرهابية ضد الدوق الكبير سيرج، عمّ القيصر. مسرحية ذات طابع سياسي، لأن كراهية الإرهابيين رفعت إلى الأوج حتى وإن «أصبحت نظامًا مريحًا. ولكن مريحًا لمن؟». لقد أدرج كامو المسرحيتين ضمن دائرة التمرّد إلى جانب روايتي الطاعون والمُتمرِّد. لم يحب النقاد الحصار، واعتبروها على الخصوص اقتباسًا أقلّ نجاحًا لرواية الطاعون. فالغموض آتٍ من أن كامو منح شخصية الديكتاتور لقب الطاعون. لقد صرّح هو نفسه بأنه «لم يكف أبدًا عن اعتبار الحصار، رغم كل عيوبها، هي التي تشبهه أكثر». إنها قرار اتهام ضد النظام الكلّياني الذي يستهدف النظام السوفياتي، ألمانيا الهتليرية وإسبانيا الفرانكاوية، ما دام أن التاريخ يجري بالأندلس.

لقد تعلق كامو، الممثل، والمؤسس لفرقة، بكل أشكال المسرح، العالم الفني بألف وجه. اقتبس هو نفسه مسرحيات كثيرة نذكر منها زمن الحقد من أندريه مالرو، وقداس لراهبة من فوكنر والممسوسون لدوستوفسكي، عاملاً في كل مرة على تجديد المسرح وجعله يعبّر في الهواء الطلق. ومن بين أعماله الفنية كلها، وضع كامو جانبًا، الممسوسون المؤلَّف ذو الطابع التنبؤي، والمبشر بالعدمية والذي أخرج «الأرواح الممزَّقة أو الميّتة، التي لا تقدر على الحب».  لقد اعتبر اقتباسه لهذا الكتاب نجاحًا حتى وإن كان، خلال هذه الحقبة من الحرب الباردة، منظار السياسة طاغيًا على النقد.

بعد موت كامو، كتب روجي نيميي: «نأخذ عليه نزعته الأخلاقية، نأخذ عليه حديثه الكثير عن الإنسان وكأنه يملك الوصفة وطريقة الاستعمال». إن مسرح كامو يحتفظ بهذه البصمة العميقة، حتى وإن بدا لنا في مواجهة النزعة الأخلاقية السهلة والقدرية قاسيًا للغاية(2).

ألبير كامو والسياسة

كان ألبير كامو المنتمي إلى الحزب الشيوعي يدافع بعد الحرب عن نزعة إنسانية تضع الحكمة في قلب الفلسفة.

ينحدر كامو من الفقر ومن داء السل الناتج عنه. ولكن من فقر تحت الشمس، وهذا الضوء جعل من طفل حيّ بلكور، بالجزائر العاصمة لا يعيش فقره كعوز. إن جمال البحر الأبيض المتوسط منحه غنىً صان وعيه من كل أشكال الحقد والضغينة.

الحظ الآخر لكامو الشاب، الإنتاج الخالص للمدرسة اللائكية والإلزامية، هو أن معلمه كان يقدّره. وبعد أربعين سنة، - وليس كما كان منتظرًا في باريس من اللامع جون جرينيي، أستاذه في الفلسفة الذي كما كان يقال «معلمه» - سيهدي إليه خطابه المخصص لجائزة نوبل. وهو في أوج النصر والشرف، فإن مؤلِّف أعراس وصيف، لم ينس أبدا أساس إنجازه الثقافي: يرجع الفضل في كلماته الأولى التي تغنّى فيها بحب مسقط رأسه الذي تحوّل في شبابه إلى حبّ للأرض إلى حد جعل الفيلسوف يقول فيما بعد: «مملكتي كلها من هذا العالم».  إلى السيد جرمان، المتواضع والصارم.

إن خطاب السويد القيّم يبلغ أوجه في هذا التأمل. «إن الفن ليس رفضًا تامًا ولا قبولًا تامًّا. إنه رفض وقبول في الوقت نفسه، ولهذا السبب لا يمكنه إلا أن يكون تمزّقا يتجدّد باستمرار. والفنان يوجد دائما وسط هذا الغموض، غير قادر على إنكار الواقع، غير أنه مدعوّ إلى رفض ما هو غير تام على الدوام … ولكن لا وجود لإنتاج فنّي أُسِّس على الكراهية والاحتقار. ولذا السبب، فإن غاية الفنان هي أن يبرِّئ ويسامح عوض أن يحاكِم. إنه ليس حاكمًا ولكنه يقيم العدل. إنه المحامي الدائم عن الكائن الحيّ لأنه حيّ. وفي الحقيقة، فهو يدافع عن حبّ ما هو آتٍ وليس عن حبّ ما هو بعيد ويفسد الإنسانية.

فنان ووارث: هكذا إذن يريد كاموأن يكون، وهذا ما يريد قوله. إن هذه الحالة الإنسانية هي التي غذّت فكره بكرم حيوي، كرم الروح والدم آنذاك، وعاطفي سنوات ما بعد الحرب، ميّز كل التزاماته الصحافية، السياسية، الأدبية أو الفلسفية. وإذا كان هذا الكرم الصحيح قد سحره كثيرًا، فإنه سيفجّر القدح واللعن، وسوف لن يكف عن الانفجار في كل المعارك التي خاضها. فلا مثقف أكثر من كامو، اتخذ له قاعدة في الحياة هذه الحكمة: «أنا إنسان، وليس غريبًا عني كل  ما هو إنساني».

الظلم في الصدارة

قبل الحرب، وبعد إحرازه على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة (الفكر المسيحي والأفلاطونية الجديدة)، سيترجم رفضه للظلم بانخراطه في الحزب الشيوعي الذي انضمّ إليه في الثلاثينيات، ليس من تلقاء نفسه، ولكن تحت تأثير أستاذه في الفلسفة. ومع ذلك، فأستاذه ليس شيوعيًا، وكان منهمكاً في كتابة بحث نقدي عن «الفكر الأرثدوكسي» الذي يستهدف الحزب. «هل رأى فيه كما يتساءل روجي كييو، نوعًا من التدريب السياسي الذي لن يكون فيلسوف الغموض والشك قادرًا عليه؟ وبتدقيق أكثر، هل كان يرغب في تحريره من هذا الإغراء؟ يحدد كامو انضمامه إلى الحزب الشيوعي وكأنه «تقشف سيمهد الطريق لأنشطة أكثر روحية». غريب أمر هذا الشخص الذي يعلن مسبقًا امتناعه عن «أن يضع بين الحياة والإنسان مجلدًا من مجلدات رأس المال لماركس»!

إن التجربة قصيرة جدًا، حتى وإن كان تاريخ انخراطه واستقالته غير متفق عليه. فكامو يحدد تاريخ دخوله إلى الحزب في 1934 وخروجه منه في 1935، وكأنه كان يريد أن يخفض مروره بالحزب إلى أقصى درجة.

وبطيّ صفحة النضال، سيعبر كامو عن رفضه للظلم في المقالات الأولى المنشورة في جريدة الجزائر الجمهورية التي انضم تحريرها العام 1938 في الخامسة والعشرين من عمره. ف «داخل هذه الجريدة، مدة سنتين، وعى كامو المصير الذي ينتظر الجزائريين بسبب الإدارة الاستعمارية».

إن سلسلة مقالاته فقر القبائل المشهورة والهامة جدًا، تنتهي على هذا النحو: «ماذا عساني أضيف إلى هذه الوقائع؟ لنضع كل واحدة منها وراء حياة الانتظار واليأس التي تصوّرها. إذا كنّا نجدها طبيعية فلنقل ذلك. ولكن لنعمل شيئًا إذا رأيناها مثيرة!».

إن النداء سيكشف، بكل تأكيد، عن موقف إنسان يرفض كل أنواع الظلم ويحتفظ بحرية فكره الكاملة، ولكن الاحتجاج، هو قبل كل شيء، بصمة ستميّز، من الآن فصاعدًا، تفكيره الفلسفي والسياسي أيضًا.

حين كان كامو يغطي القضايا المختلفة التي تتهم «الأهالي»، فإنه لم يعترض أبدًا على العدالة الاستعمارية ولا على مشروعية المحاكم أيضًا: لا أثر في مقالاته للتشهير بـ«عدالة طبقية» أو حتى بقانون الأهلية الشهير الذي يضع تحت وصاية الحاكم سلطات الشرطة والعدالة الخاصة بالمسلمين.  وفي المقابل، يجتهد وبموهبة رهيبة ومخيفة ليظهر الحجج الخاطئة وتجاوزات السلطة. إن جريدة الجزائر الجمهورية، سبق أن خاضت معركة النزعة الإصلاحية التي تثير كامو، المناوئ دائمًا لإفراط القطائع الثورية - ولهذا السبب، فهو لا يفضح مبدأ الاستعمار، ولكن التجاوزات التي يولدها هذا الأخير.

إن دفاعه عن «عدالة أكثر عدلا»، حالة تقود الصحافي الشاب إلى وصف الطابع الإنساني الذي ستعطي رؤيته الواقعية السوداء حرارتها لرواية الغريب الصادرة العام 1940 والتي ستعرف سريعًا نجاحًا كبيرًا.

لقد فاجأت الحرب الروائي وهو بباريس. وابتداء من 1940، سيشارك في المقاومة داخل جريدة Combat، الأمر الذي لم يمنعه، ابتداء من 1943، في عز الحرب من كتابة رسائل إلى صديق ألماني تهدف إلى ربط الحوار بين الأمتين. كامو كلّه موجود هنا، في هذه الخطة، خطة اليد الممدودة: إذا كان يدافع فيها عن أوروبا كإرث ضد أوروبا ك «تخصيص عنيف»، فإنه يريد لألمانيا «هزيمة عادلة» ويختار عقوبات غير مذلة، ويحذر من كون ذل الجلادين يقابله ذل الضحايا. لا بد إذن من تلافي عدوى الشرّ إذا كنا نريد إقامة عقد اجتماعي جديد لكي نعيد بناء مجتمع سياسي.

من السياسة – التي قال عنها في يناير العام 1940 أنها أفسدت كل شيء، وأنها عالم غريب (في حالة ما إذا آمن الإنسان بالتقدم كيفما كان، فإننا نقرّ بأن الغاية تبرر الوسيلة)، فإنه وصل العام 1944 إلى الدفاع عن فكرة السياسة المعتدلة ولكن الصارمة على الأقل، الأمر الذي جرّه إلى دعم سياسة التطهير الصارمة التي اتبعتها دانييل مائير، ليس رغبة في الدم طبعًا، ولكن احترامًا لذكرى شهداء المقاومة.

وعلى مستوى النضال، بدا له أن حركة التحرير الوطني، هي القوة الجديدة التي تجمع الذين، بعد الانتفاضة التي كانت مقاومة، يحلمون بثورة لا تدعي أنها ستكون نهائية. «كل مجهود حقيقي، كما يقول كامو، نسبي. نحن نؤمن في الحقيقة بالثورات النسبية».

من مواجهة إلى أخرى، من مواجهة أندرو مالرو، إلى مواجهة ميرلو بونتي، بخصوص سلسلة مقالاته التي تحمل عنوان لا ضحايا ولا جلادون، النقد الجذري للماركسية والنظام السوفياتي، إلى مواجهة مع سارتربخصوص الثائر الذي يهتم فيه بجينيالوجيا الفكر الثوري، يثبت كامو أننا يمكن أن نكون ضد الفاشية خارج الماركسية، الجريمة المطلقة في نظر الأنتليجانسيا.

في مواجهة اليمين ورايمون أرون، واليسار حيث هذيانات سارتر التي تبرر الهيمنة السوفياتية، باسم ضرورات الثورة، فإن كامو يتقدم وحيدًا بلا حماية. أصبح هدفًا لكل السهام الآتية ممن كان ما يزال يعتبرهم عائلته، رفاق الطريق في الحزب الشيوعي، ورغم ذلك، فإنه لم يتردد أبدًا في النهوض ضد الجرائم السوفياتية والإشارة علانية إلى المجرمين غداة «انقلاب براغ»، وسحق ثورة برلين الشرقية العمالية أو الثورة الهنغارية، كاشفا عن موهبة رائعة في الجدال.

إن معركته الدائمة من أجل جزائر «عادلة» هيأت كامو، أكثر من أي شخص آخر، إلى فهم دوافع هذه الحرب المجهولة التي انفجرت العام 1945 مع «عيد جميع القديسين الأحمر». ولكن تعلقه بمسقط رأسه وحضور شعبين على هذه الأرض حمله على الأمل في «مجتمع منسجم ومتعاون يجمع بين العرب والأوروبيين، موقف ينفي الاحتقار العقيم الذي يفرض علينا العداوة بين الأطراف»، وخطأً أو صوابًا، إلى رفض كل أنواع الاستعمار بالاستقلال الذي خمن بأنه لن يكون جزائريًا، ولكن سيكون استقلالاً عربيًا إسلاميًا. ولن يكذبه التاريخ في هذه المسألة(3).

 

المصادر:

1 - ميشيل دي جوغير

المصدر: Le Figaro H-S Décembre 2019

2 - فيليب ماكسونس

المصدر: LE FIGARO  H-S Décembre 2019

3 - هنري – كريستيان جيرو

المصدر:  LE FIGARO H – S.   Décembre  2019


عدد القراء: 2867

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-