ليوناردو دا فنشي 500 سنة من الألغاز والأسرارالباب: مقالات الكتاب
محمد الحبيب بنشيخ المغرب |
ترجمة: محمد الحبيب بنشيخ
رسّام، مصوّر ومهندس، عبقري لم يكشف بعد عن كل أسراره.
• احرصوا على أن تكون اللوحة دومًا انفتاحًا على العالم.
• اللوحة شعر ننظر إليه عوض الإحساس به، والشعر لوحة نحسّ بها عِوَض النظر إليها.
ليوناردو دا فنشي
توفي ليوناردو في 2 مايو العام 1519 في السابعة والستين من عمره، بقصر كلو Cloux بأمبواز Ambroise المسمّى حاليًا Clos Lucé. ومساء 23 أبريل العام 1519، أحسّ بدنوّ أجله، فحرّر وصيته وعيّن فرنسيسكو ميلزي (1491 - 1570) الْوَصِيِّ الوحيد والوريث الأساسي لأثره الفنّي. فهل كان ليوناردو على وعي بأن وراء توريثه إرثًا شخصيًّا كان يهَب الإنسانية تراثًا فنيًّا غير مسبوق في التاريخ؟ أمر محتمل جدًّا، لأنه كان قد صرّح وقال: «أنوي أن أترك ذكرى خالدة في ذاكرة البشر». فماذا بقي منه بعد مرور 500 سنة على وفاته؟ وكيف نجح في أن يحدث ثورة في تاريخ الفن بحوالي عشرين لوحة هي كل رصيده؟ وللتعرّف على المسار الثقافي والفني لهذا الرجل، لا بدّ من الرجوع قليلاً إلى الوراء.
مسارُ عبقرييٍّ
في ١٥ أبريل العام 1452، بمدينة فنشي الصغيرة، غرب فلورنسا، ازداد ليوناردو دا فنشي. فهو الابن غير الشرعي لبيير دا فنشي، موثّق العقود المعترف به، وكاترينا الفتاة القروية المتواضعة. وإذا كان ليوناردو قد عاش حياته منعزلاً، فإن جدّه أنطونيو دا فنشي استطاع أن يمنحه العطف الذي كان يفتقده، ويفتح عينيه على العالم. وغالبًا ما كان يردِّد على مسامعه عبارة «افتح عينيك». أما جدّته التي كانت شغوفًا بالسيراميك، فأحيت فيه حب الفن. إن مسار ليوناردو ليس هو مسار ذاك المثقف التقليدي، لقد تلقى تربية متحررة؛ تُرك ليكتب باليد اليسرى وينمي الكتابة المرآوية. ولا شك في أن حياته ببادية توسكان هي التي أيقظت فيه تأمُّل الطبيعة وجعلت منه مريدًا خالدًا لها. فكان يلاحظ فيضان الوديان وتحليق الطيور ويكتشف في بعض الأحيان البرق الذي يصعق أشجار البلوط القديمة. لقد أغراه حب الاستطلاع بالرغبة الجامحة في معرفة السبب الرئيسي وراء نشوء الظواهر الطبيعية في وقت مبكّر جدًّا. تردّد وهو لا يزال صغيرًا على «مدرسة الأباك» حيث كان يتابع دروس الحساب الأساسي المخصصة للمقبلين على التجارة والحرفيين. كما اكتشف أيضًا النصوص الأدبية الشهيرة بالعامية – التوسكانية -، مثل الكوميديا الإلهية التي فتنته. غير أن وضعه – لَقيط – لم يسمح له بولوج الجامعة ليتابع دروس اللاتينية والإغريقية الضرورية للوصول إلى معرفة القدماء. إن ليوناردو الذي يعرف نفسه بـ «رَجُل بلا آداب»، لم يتعلم اللاتينية إلا في الخامسة والثلاثين من عمره.
دخل إلى البوتيغا Bottega، ورشة أندريا ديل فيروشيو الأكثر شهرة بفلورنسا، في الخامسة عشر من عمره، وكان إلى جانبه بروجين، كريدي، وبتشيللي وكلهم أساتذة الرسم مستقبلاً بفلورنسا. كانت الورشة تشتغل وكأنها مؤسسة تجارية وحرفية حقيقية، بعيدة كل البعد عن ورشة الفنان اليوم. وسرعان ما سيكشف ليوناردو عن مواهبه المتعددة: رسَمَ، نَحَتَ، وساهم في إنجاز الكرة البرونزية المذهّبة الضخمة التي تتوّج قُبَّة ديومو بفلورنسا.
وفي العشرين من عمره، انتسب إلى هيأة رسّامي القديس لوقا بفلورنسا. إنها فترة الأعمال الشخصية الأولى مثل لوحة عيد البشارة L’Annonciation 1472- 1775. لقد جسّد الفنان في هذا العمل ملاكًا جاثيًا رافعًا يده نحو مريم العذراء ليحيّيها. إنه يعلن عن ميلاد المسيح: مهْد أبيض في يده اليسرى يرمز إلى الحَبَل بلا دَنَسٍ. وإذا كان باللوحة عدم دقة على مستوى المنظور، فإن ما يميّزها هو نقاء رسم المَلاك والمناخ المضبَّب للجبل الضخم. كما أن ليوناردو أنجز أيضًا لوحات تمثّل عذراوات مع الطفل يسوع، مثل لوحة سيدة القرنفل، والتي كان لا يزال فيها تحت تأثير فرّوشيو.
كان سلوكه غريبًا ولباسه كذلك وأعلن أنه نباتي. اتُّهـم بالشذوذ العام 1476 لأنه كان مُحاطًا بشبان وِسامٍ، غير أنه في الأخير، خرج بريئًا من هذه التهمة. وعلى خلاف فناني عصره الذين اعتادوا على تنظيم الطلبيات لضمان عيشهم، فإن ليوناردو كان يُعِـدّ لوحاته بعناية فائقة إلا إنه كان يتركها في بعض الأحيان غير مكتملة، فيثير غضب أصحابها. كان يعيش على هواه ولا يهتم بأحد. يروي أحد قساوسة الكَرْمَلية أن الرجل كان يعيش «حياة غير متوَقَّعة ونزَوية؛ يظهر أنه يكتفي بما لديه». ويذكر جورجيو فصاري (1511 – 1575) في سيرته المخصصة للمعلم أن الرجل يمتاز بلطف كبير وذكاء غير مألوف. وفي الثلاثين من عمره، سيُصبِح ليوناردو مطلوبا وسيرسم لوحة عشق المجوس L’adoration des Mages ، لوحة جريئة إلا أنها غير مكتملة. ورغم مظهرها غير المكتمل، فإن ليوناردو استطاع أن يثبت أنه يملك أسلوبًا شخصيًا ورسمًا يجمع بين عدة جماعات حول مريم العذراء.
ميلانو وزمن الآثار الفنية
في العام 1481، قرّر لوران دا مٍدسيس أن يرسل ليوناردو إلى ميلانو لخدمة حليفه الدوق لودوفيك سفورزا الملقب بـ(مور)، ولتطوير الفن التوسكاني. وللوصول إلى المدينة، كان على ليوناردو أن يقضي أسبوعًا كاملاً على صهوة جواده. وبميلانو أنجز الفنان بعض لوحاته الرئيسيّة: عذراء الصخور، العشاء الأخير، وسيّدة القاقُم. لقد أصبح تصوُّره للرسم بارعًا، وأصبح يتحدث عن «شيء روحي» محددًا رسمًا يدمج اكتشافاته العلمية في لوحاته. وفعلاً، فسنوات ميلانو هاته، هي أيضًا سنوات تأمُّل دائم في جميع ميادين المعرفة: درس الرياضيات مع لوقا باشيولي، وعمّق معارفه في علم المياه. وبمستشفى فلورنسا درس علم التشريح؛ لقد فتنه هذا العلم طالما أن الحدود بين العلم والفن لم تكن موجودة في ذلك العصر. لقد طلب الدوق ليوناردو أيضًا في أمور الهندسة المدنية والحربية. وهكذا استغرق ليوناردو في إنجاز تمثال فُروسي يمثل الأب لودوفيك سفورزا إحدى عشر سنة. أنجز في البداية نموذجًا من الشمع، ثم مجسَّمًا من الطين المطبوخ بعلوّ ثمانية أمتار. سوف لن يتم إنجاز التمثال من البرونز أبدًا ما دام أن الدوق يستعمل هذا المعدن في صناعة المدافع. لقد ترك هذا العمل غير المكتمل في ليوناردو طعم الفشل. إن سياسة لودوفيك الحربية المحكوم عليها بالفشل، جعلت الفرنسيين يغزون ميلانو العام 1499. أما ليوناردو فسيغادر المدينة ويعود إلى فلورنسا. وفي العام 1502 سيبدأ ليوناردو في خدمة الأمير سيزار بورجيا بصفته مهندسًا معماريًا ومهندسًا رئيسيًا، وسيرافقه خلال حملاته العسكرية بمنطقة رومانيا الإيطالية. ويقال إنه ربما التقى بمكيافللي الذي أرسلته إقطاعية فلورنسا لحراسة بورجيا. وأخيرًا دخل فلورنسا حيث طلبت منه اقطاعيتها أن يرسم جدارية كبيرة لبلازو فيشيو: معركة أنغياري La Bataille d’Anghiarie. وبداية القرن 16، التقى الفنان الكبير الآخر ميكل أنجلو الذي نافسه منافسة حادة حينما رسم لوحة معركة كاسينا، بنفس القصر. وفي الفترة نفسها، في الواحد والعشرين من عمره، وصل رافائيل دوربينو لدراسة آثار ليوناردو الفنية، خصوصا الجوكندا التي كان الفنان قد بدأ رسمها. وهكذا اجتمع المعلمون الكبار في عصر النهضة بفلورنسا. وحسب ما كان شائعًا، فإن المنافسة بين ميكل أنجلو وليوناردو وصلت إلى حد الشجار بالشارع العام. فبينما كان الأوّل يفضّل النحت على الرسم، فإن الثاني يعتبر النحت مجرّد عمل آلي خالص. فلا معركة أنغياري لليوناردو ولا معركة كاسينا لميكل أنجلو رأتا النور لأن طلبيات أخرى منعت الفنانيْن من إتمام عملهما. غير أن المعرض العام للوحات الفنية، كان فرصة ثمينة لزيارات فنية لرؤية مشاهد الحروب البطولية هاته والإعجاب بها. وتحت ضغط ملك فرنسا، لويس الثاني عشر، أرسلت حكومة فلورنسا ليوناردو إلى ميلانو رغم أنه لم يكمل لوحة معركة أنغياري. إن المدينة يسيّرها الآن الحاكم الفرنسي شارل دامبواز، وفي هذه الفترة، بدأ ليوناردو رسم لوحة القديسة حنّة.
بعد رحيل الفرنسيين، لم يعد لليوناردو أي أفق للعمل بميلانو. وفي الواحد والستين من عمره، سيضطر إلى الرحيل من جديد وسيتوجه إلى روما التي عرفت ازدهارًا فنيًا غير مسبوق. فالبابوات يوظفون أموالاً طائلة في طلبيات الأعمال الفنية، وأصبحت روما مدينة فن عظيمة، حيث شرع ميكل أنجلو ورفائيل في برامجهما الضخمة، كنيسة سستينا لهذا وغُرَف التوقيع لذاك. ولكن لا طلبية في مستوى عبقرية ليوناردو وافقها الحظ: لقد خيبت روما آماله. وفي العام 1516، دعاه الملك فرانسوا الأول إلى الالتحاق به بفرنسا. ولنا أن نتصور ليوناردو وهو يقطع جبال الألب على صهوة جواده مع بعض مريديه ولوحاته الثلاث الثمينة: القديسة حنة، الجوكندا، والقديس يوحنا المعمدان. لقد وهبه فرانسوا الأول قصر كلو واستقبله بهذه العبارة: ستكون هنا حرًّا لكي تحلم، تفكر، وتعمل.
مرّت 500 سنة، ولا زالت ألغاز وأساطير كثيرة تلف آثار ليوناردو الفنية. قد يكون رسمه مُشَفَّرًا، باطنيًا، ومليئًا بالرموز كما أشار فاساري إلى ذلك «يوجد شيء خارق للعادة في التراكم الطافح بالجمال، اللطافة، والقوة عند نفس الشخص». وفي الحقيقة، فأعمال ليوناردو ثورية لأنها تحمل تمثيلاً للواقع إلى مستوى أعلى وأكثر مثالية. وبالتالي، فرسمه هو الأكثر إبداعًا في عصره: أدخل بورتريه الثلاثة أرباع إلى إيطاليا، نظم الرسم الهرمي (القديسة حنة مثلاً)، وأدمج معرفته بالتشريح في رسومه. ويبقى اختراعه الرئيسي هو السفوماتو sfumato أو المجسَّم الضبابي، وهو رسْم الاستدارات والانتقال بين الظلال والأضواء. إن عمله الفني يستفيد من اكتشافاته العلمية، وهكذا يصبح الفن في نظره عملاً ثقافيًا. لقد أراد ليوناردو، خلال حياته كلها، أن يجمع بين كل المعارف، من الرسم إلى الهندسة، ليدمجها في ثقافته الشخصية. ولكنه إضافة إلى المعرفة، فإنه أحب أن يبدع، يخترع، ويحدث ثورة في المجالات العلمية بحيث لا يضاهيه أحد لا من قبل ولا من بعد. إننا مع ليوناردو، نهاية القرن 15 أو بداية 16، في عصر انتشرت فيه المعارف، ومع ذلك فهذا لا يمنعنا من البحث عن المعرفة لدى شخص واحد. وبعده، فتخصص المعارف الكبير ابتداء من القرنين 17 و 18 يجعل الحصول على مثل هذه المعرفة أمرًا شبه مستحيل. وبعد 500 سنة على وفاته، فإن ليوناردو يثير من جديد سؤال حدود المعرفة وقدرتنا على تخيُّل عالم الغد.
أثر فني ثوري
فن البورتريه
جينيفرا دي بنشي، سيّدة القاقُم، الجوكندا
استوعب ليوناردو في بورتريه جينيفرا دا فنشي (حوالي 1474 – 1475) الصيغة الفلاماندية لبورتريه ثلاثة أرباع وأدمج المنظر الطبيعي في خلفية الرسم. هذا البورتريه واحد من اللوحات الأولى الفلورنسية التي تصهر بطريقة متقنة الصورة والخلفية. إن الوجه اللَّبَني للشابة، التي تزيّنها خصلات مذهَّبَة دقيقة يبرز على الخلفية الداكنة للعرعر الشائك. ولا شك أن الفنان يبحث هنا عن الوحدة وذلك بإظهار السفوماتو (المجسَّم الضبابي) الدقيق على وجه الفتاة. وأخيرًا، فعرعرgenévrier بالإيطالية هي جينيبرو ginepro ، الشيء الذي يشير إلى اسم النموذج، جينيفرا Ginevra.
وفي بورتريه سيسيليا غالليراني Cécilia Gallerani (حوالي 1488 – 1490)، يبدع ليوناردو من جديد. وعلى ما يبدو، فهذا البورتريه يمثّل عشيقة لودوفيك لومور، وهي تمسك بلطف قاقمًا بيدها: رمز الدوق، كما أن حضورها يشير إلى تلاعب بالألفاظ، يقوم على اسم Gallerani ،Gallé بالإغريقية تعني قاقُم. ويرمز الحيوان إلى نقاء المرأة كما يوحي أيضًا بمداعبة يد العشيق بحميمية في الوقت نفسه. يلتقط ليوناردو في هذا البورتريه، لحظة محددة: تبدو الفتاة وهي تدير وجهها نحو مصدر الضوء الآتي على ما يبدو من وصول شخص يفتح بابا أو نافذة. إن تنميق اللوحة الرفيع يعود إلى معالجة النموذج المستمر للضوء والظلال انطلاقًا من الخدّ إلى اللباس المقوَّر. ويصور الفنان بحساسية قصوى الظلال المُلقاة على كل لؤلؤة من لآلئ العقد على الصدر كما يصور اللون الخفيف الناتج عن انعكاس الألوان المحيطة. لقد أضحت هذه الدقة ممكنة بفضل نفاذ بصيرة الفنان المرتبطة بإدماج أبحاثه في البصريات: فعلم البصريات يحسٍّن المجسَّم الضبابي.
إن تركيب أبحاث ليوناردو في المجسَّم الضبابي والتشريح يتبلور في بورتريه الموناليزا Mona Lisa ، المسماة الجوكندا La Joconde (حوالي 1503 – 1519). لا لوحة تشبه هذه، ولا لوحة تملك ما لهذه من أسرار وسحر. وتبقى الشكوك واردة: أيتعلق الأمر ببورتريه غيرارديني، زوجة فرانسيسكو ديل جيوكندو؟ إن الجوكندا أثر فني أساسي، يحاول إرجاع «حركة الروح» لهذه المرأة، الشيء الذي يعطي اللوحة طبيعة مُلَغَّزَة لا مثيل لها. إن العناية اللامتناهية التي أنجز بها ليوناردو نموذج الضوء والظل على الوجه تكشف عن إتقان المجسَّم الضبابي الذي يخفي الانتقالات بين المُسحات. والأثر الفني الذي هو أكثر من بورتريه، يجسّد حضورًا، صورة ذكاء في وجه شكّله العقل. ومع هذه الابتسامة الغامضة، فالموناليزا كناية عن الفرح، والجوكندا بورتريه فلسفي بامتياز.
اللوحات الشهيرة
عذراء الصخور، العشاء الأخير، القديس يوحنا
بعد لوحة عشق المجوس، التي تُركت غير مكتملة، فإن لوحة عذراء الصخور La Vierge aux rochers تمثل واحدة من الأعمال الرائعة لفترة الرسام بميلانو. وتكشف نسخة متحف اللوفر في ديكور صخري طبيعي عن العذراء على مرأى الملاك يوحنا المعمدان الموجود على يسارها. يظهر من خلال هذا المشهد، جوّ مُعَلَّق وحُلُمي تقريبًا، ويبدو المشهد واضحًا من خلال الضوء الذي يحدد أشكال المستوى الأول ويرسم ظلالاً على الفتحة المعتمة لخلفيات اللوحة. أما الملاك فيمثل أصالة لأنه رُسم من الخلف ووجهه يلتفت إلى الوراء لينظر إلى المشاهِد: مثل هذا الالتواء للوجه سابقة في تاريخ الفن. وفي النسخة الثانية لمتحف لندن الوطني (1506 – 1508)، فإن الجماعة تدخل بطريقة معمارية إلى المغارة التي يغمرها ضوء بارد ذو نبرات فضية. إن المجسَّم الضبابي لليوناردو يأخذ هنا حمولة فلسفية، حمولة صراع يأخذ طابعًا روحيًا، صراع بين الظلمات والنور الإلهي.
وبميلانو، سينجز ليوناردو لوحة جدارية سيحقق به مجدًا: لوحة العشاء الأخير La cène 1495 – 1498. والأثر الفني هذا نوع من كوريغرافيا الحركات التعبيرية والمشاعر. ولنا أن نتصور ليوناردو وهو يصوره بلا ماء على حائط مطعم الرّهبان الكبير بديْر ماري دي غراس بميلانو، ولنا أن نتصور أيضًا الرّهبان وهم على الطاولة جنبًا إلى جنب أمام هذا الظهور لعشاء يسوع الأخير. إن ما يعطي الوجوه هذا الوضوح الخارق للعادة هو الضوء الصافي الذي يغمر الطاولة. ولا شك أن الرهبان قد بهرتهم الطريقة التي تمّ بها كل تفصيل: وضع الصحون على الطاولة، وثنيات لباس الرُّسُل. لقد كان الرسل دائمًا في معظم لوحات ليوناردو السابقة على الطاولة، أما يهوذا فكان يظهر وحيدًا، دميمًا ومنعزلاً عن الآخرين، غير أن ليوناردو سيكسر هذا القانون القروسطي: فلا شيء يسمح بتمييز يهوذا الخائن وسط الرُّسُل. إنه جميل ووسط الجماعة – الشخصية الثالثة يسار المسيح، يمدّ يده لأخذ الخبز. إن اللوحة دراما حقيقية، استطاع فيها ليوناردو أن يحدد اللحظة التي توجه فيها إلى الرسل: أقول لكم بأن أحدكم سيخونني. أصاب الرسل المكروبين شعور مبهم، فسألوه عن هذا الخائن من تراه يكون. تمسك البعض بحبه وبراءته، أما البعض فناقش بوقار. لقد تبنى كل رسول موقفًا حركيًا وأخلاقيًا صوّره ليوناردو وكأنه زوبعات الماء التي كانت تفتنه في ذلك العصر.
الجمال الوثني
أواخر حياته بفرنسا، لم يفارق ليوناردو أبدًا اللوحات الثلاث: الجوكندا، القديسة حنّة ويوحنا المعمدان (1513 – 1516). لقد سمح الترميم العام 2016 بترقية الأُحدور واستعادة التفاصيل، مثل جلد الحيوان، الصليب وشعر يوحنا المعمدان. تمتاز اللوحة بانحناءة دينامية للصدر الذي تبدو حركته متوازنة بوضع اليد اليسرى المتمركزة على الصدر واليد اليمنى والسبابة التي تشير إلى السماء. إن تمفصل الأضواء والظلال يبرز كتفا قوية أضافة إلى كتل الظُّلَيْل دون حاجة إلى تقطيع الأشكال. يمسك القديس الصليب، رمز محبة المسيح ولكنه يرتدي جلد النمر الذي يذكِّر بـ"باخوس". إن بلاغة السبابة الموجهة إلى السماء (الإله) واليد التي على القلب (مركز الروح والأهواء) وغموض الابتسامة هي التي أعطتنا هذه التحفة الفنية، أوج أبحاثه الفنية والروحية عن الضوء.
المصدر:
إيريك مونسانجون، أستاذ تاريخ الفن
مجلة L’éléphant عدد 25 يناير 2019
تغريد
اكتب تعليقك