الفنان هنري ماتيس بين الثورية والتوحشيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 20:23:23

محمد الحبيب بنشيخ

المغرب

ترجمة: محمد الحبيب بنشيخ

كان هنري ماتيس فنانًا ثوريًا ومؤثرًا بداية القرن العشرين، عُرف على الخصوص بألوانه التعبيرية وشكل أسلوبه التوحشي.

اشتغل الفنان هنري ماتيس خلال ستة عقود من مساره على جميع الدعامات، من الرسم إلى النحت مرورًا بالنقش. ورغم أن مواضيعه تقليدية – عري، شخصيات في مناظر طبيعية، بورتريهات، نظرات من الداخل – فإن استعماله الثوري للألوان البراقة والأشكال المبالغ فيها للتعبير عن عواطفه جعل منه فنانا من الفنانين الأكثر تأثيرا في القرن العشرين.

الشباب والتكوين

ازداد هنري ماتيس في 31 ديسمبر العام 1869 وترعرع بمدينة صناعية صغيرة شمال فرنسا. كانت أسرته تشتغل في تجارة الحبوب. اشتغل ماتيس وهو شاب عونًا قضائيًا ثم درس الحقوق بباريس من 1887 إلى 1889.

بعودته إلى عمل بمكتب للمحامين بمدينة سانت كنتان Saint-Quentin، أخذ يتابع درسًا في الرسم صباحًا قبل التوجه إلى العمل.

وفي الواحد والعشرين من عمره، وبعد تشافيه من المرض، بدأ ماتيس يرسم وبدأت موهبته الفنية تتأكد.

وفي العام 1891، سيستقر ماتيس بباريس ليتابع تكوينًا فنيًا. تابع دروس الفنانين المشهورين وكبار السن بالمدارس المرموقة مثل أكاديمية جوليان ومدرسة الفنون الجميلة. كانت هذه المدارس تعلم حسب منهج أكاديمي، يتطلب العمل انطلاقًا من نماذج حية ونقل الأعمال الفنية للأساتذة القدامى، ولكن ماتيس قدّم عرضًا لعمل فني حديث لما بعد الانطباعيين لبول سيزام وفان جوخ بينما كان يعيش بباريس.

لقد بدأ ماتيس يعرض أعماله بأكبر المعارض الجماعية بباريس أواسط العام 1890، ومن ضمنها

الصالون التقليدي للشركة الوطنية للفنون الجميلة، وقد نال عمله اهتمامًا مشجعًا. سافر إلى لندن ثم كورسيكا، وفي العام 1898، تزوج إميلي براير Amélie Prayre وأنجب منها ثلاثة أطفال.

مرحلة الاختراق

كان ماتيس مع منعطف القرن العشرين، لا يزال تحت التأثير الطلائعي لجورج سورات G.Seurat وبول سينياك P. Signac اللذين كانا يرسمان بأسلوب « تنقيطي» بنقط صغيرة ملونة بدلا من ضربات فرشاة كاملة. ثم بعد ذلك كفّ عن العرض بالصالون الرسمي وبدأ يحيل فنه على صالون المستقلين الطلائعيين العام 1901.

ماتيس يحقق اختراقًا فنيًا كبيرًا بين 1904 و1905

إن الزيارة التي قام بها ماتيس إلى سانت تروبي Saint-Tropez، جنوب فرنسا، ألهمته رسم لوحات زاهرة ومرقطة بالضوء مثل لوحة لوكس Luxe، هدوء وشهوانية (1904-1905)، وفي صيف بمدينة متوسطية لكوليور أنتج أعماله الفنية الكبيرة، النافذة المفتوحة بكوليور Collioure 1905 والمرأة ذات القبعة، العام 1905 أيضًا. فزوجته إميلي براير هي المعروضة بهذه اللوحة الشهيرة.

لقد عرض اللوحتين بصالون الخريف العام 1905 بباريس. وفي نقد للعرض، أثار ناقد للفن المعاصر الصور الجريئة والمشوهة التي رسمها بعض الفنانين الذين سماهم "المتوحشون" أو "حيوانات متوحشة".

وهو يرسم بأسلوب عرف باسم التوحش، استمر ماتيس في التركيز على القدرة التعبيرية للخطوط المتموجة، لضربة الفرشاة القوية والألوان الحامضة في لوحات مثل فرحة الحياة La joie de vivre، تأليف كبير لنساء عاريات في الطبيعة. وكجزء كبير من عمل ماتيس الناضج، التقط هذا المنظر بيئة بدلًا من أن يحاول أن يصور ببساطة وبطريقة واقعية. وقد أنجز ماتيس في العقد الأول من القرن العشرين   أيضًا منحوتات ورسومًا ذات صلة بلوحاته أحيانًا، مكررة ومختزلة دائمًا أشكاله بل حتى جوهرها.

نجاح وشهرة

لقد عرف ماتيس بعد أن اهتدى إلى أسلوبه الخاص، نجاحًا كبيراً. استطاع أن يسافر إلى إيطاليا، ألمانيا وإسبانيا وشمال إفريقيا للبحث عن الإلهام. اشترى ورشة كبيرة بالضاحية الباريسية ووقع على عقد مع تجار الفن المتميزين برواق جيرترود ستين Gertrude Stein بباريس (باع أخ ليون ستين لوحة المرأة ذات القبعة إلى وارثة كلود ليفي ستراوس) ورجل الأعمال الروسي سيرجي الأول ششتوكين، الذي طلب عدة لوحات لماتيس. وهكذا سينجز أحد أعماله الفنية العظيمة. الرقص La Danse، اللوحة التي أنجزها تلبية لطلب جامع التحف لروسي سيرجي إفانوفيتش شتيشوكين. وتوجد منها نسختان. الأولى رسمت العام 1909، والثانية العام 1910. استمرّ ماتيس في أعماله الفنية لأعوام 1910 و1920، في فتنة ومفاجأة متابعيه بالعناصر المميزة للألوان المشبعة، والفضاء التصويري المسطّح، الجزئيات المحدودة والمحيطات القوية. تستكشف بعض الأعمال الفنية، مثل درس البيانو (1916)، بنيات وهندسة التكعيبية الاتجاه الذي بدأه منافس ماتيس الدائم، بابلو بيكاسو. ومع ذلك، ورغم مقاربته الجذرية للون والشكل، فإن مواضيع ماتيس كانت تقليدية في الغالب: مشاهد لورشته الخاصة ومن ضمنها الورشة الحمراء لـ(1911)، بورتريهات للأصدقاء والعائلة، إعداد شخصيات في البيوت أو مناظر طبيعية.

في العام 1917، بدأ ماتيس في قضاء الشتاءات بالبحر الأبيض المتوسط، وفي العام 1921، انتقل إلى مدينة نيس. ومن 1918 إلى 1930، رسم في غالب الأحيان نساء عاريات في ديكورات موضوعة بعناية في ورشته، مستعملًا ضوءًا دافئًا وخلفيات ذات نقوش. كما اشتغل كثيرًا على النقش خلال هذه السنوات أيضًا.

السنوات الأخيرة وموت ماتيس

خلال مساره الأخير، تلقى ماتيس عدة طلبيات كبيرة، مثل لوحة حائطية لرواق الفن لجامع التحف الدكتور ألبير بارم التي تحمل عنوان رقص باريس La Danse de Paris العام 1931-1933. كما رسم أيضًا رسومًا توضيحية لسلسلة من المجموعات الشعرية ذات طبعة محدودة.

وبعد عملية جراحية العام 1941، أصبح ماتيس طريح الفراش في غالب الأحيان، غير أنه استمر في العمل في ورشته وهو على الفراش. كان يرسم عند الحاجة بقلم الرصاص أو الفحم المشدود إلى قصبة طويلة تسمح له بالوصول إلى الورق أو القماش. إن عمله المتأخر كان هو الآخر تجريبيا وحيويًا مثلما كانت اختراقاته الفنية السابقة هي كذلك. كان يتضمن كتابه (الجاز) الصادر العام 1947 والذي يضم تأملاته عن الحياة إلى جانب صور حية من الأوراق المقطعة الملونة. لقد قاده هذا المشروع إلى تصور أعمال فنية مجزأة بصورة كاملة، خصوصًا سلسلة من الوجوه البشرية ذات الأشكال التعبيرية المجزأة على ورق أزرق متوهج ولاصق على أوراق الواجهة الخلفية للوحة حائطية.

لقد وضع ماتيس في أحد مشاريعه الأخيرة زخارف لكنيسة روزيرRosaire 1948 -1951 بمدينة فانس Vance، مدينة قريبة من نيس، مع تصور للزجاج المزخرف، للوحات حائطية، للأثاث بل حتى للثياب المقدسة الخاصة بقساوسة الكنيسة.

توفي ماتيس يوم 3 نوفمبر العام 1954، وهو في الرابعة والثمانين من عمره بنيس Nice. لقد اعتبر دائمًا واحدًا من الفنانين الأكثر تجديدًا وتأثيرًا خلال القرن العشرين.

من أعماله الفنية الشهيرة:

الأخوات الثلاث،1917، زيت على قماش، 92 على 73سم

لوحة الأخوات الثلاث Les Trois Sœurs واحدة من اللوحات الكبيرة لماتيس. ثلاث أخوات سمراوات جالسات أخذت مكانهن في خلفية رسم مائي داكن. اثنتان منهن تنظران إلينا بينما الأخيرة مستغرقة في القراءة. لقد نجح الرسام في إقامة توازن بين عناصر فيما يبدو مختلفة وغير متجانسة: تنوّع مواقف الأخوات الثلاث، ألوان متنافرة الانطباع بتجاوز مستويات المنظور المتعددة. عدة مصادر استدعيت لإنجاز هذه اللوحة، رسم كلود ماني Claude  Manet 1832 -1883، الرّشم الياباني وأيضًا لوحة سيّدات غاند Les dames de Gand المحفوظة بمتحف اللوفر والمنسوبة في ذلك الوقت إلى جاك-لويس دافيد Jacques -Louis David 1748 -1825، كل هذا شكّل إلهامًا لماتيس. إن اهتمام الرسام بهذا الموضوع يظهر في هذا الوقت في عدة مناسبات فأعطى عدة نسخ. وهكذا نتعرف على ثلاث لوحات تمثل هي الأخرى ثلاث أخوات في وضعيات وملابس تتجدد في كل مرة وهي محفوظة بمؤسسة بارن Barnes بفيلادلفيا. ومن المحتمل أن نبحث هنا عن سبب وجود اللوحة بمتحف لورانجري L’Orangerie. وفعلاً، فالتاجر بول غيوم ساهم كثيرًا في تكوين مجموعة الدكتور بارن (1872-1951) ومن المحتمل جدًا أن لوحات ماتيس التي تمثل الأخوات الثلاث قد مرّت برواقه قبل أن تصل إلى الولايات المتحدة. هذه لوحة من اللوحات النادرة التي اقتناها بول غيوم في مزاد علني، ودون شك كذكرى للوحات الممنوحة للدكتور بارن.

المرأة ذات القبعة، زيت على قماش 81 على 60 سم

زيت على قماش، فهي تمثل زوجة ماتيس، إميليا. رسمت هذه اللوحة العام 1905 وعرضت بصالون الخريف من العام نفسه، إلى جانب أعمال أندريه ديران André Derain، موريس دي فلامينك Maurice de Viaminck وفنانين آخرين عرفوا بـ"المتوحشون" Fauves. يتعلق الأمر بواحد من أعمال الرسام الفرنسي هنري ماتيس الأكثر شهرة. إن اللوحة التي أنجزت العام 1905، تمثّل إميلي زوجة الفنان التي ترتدي ملابس برجوازية. واللوحة الآن في حوزة متحف الفن المعاصر بسان فرانسيسكو. إن إليسا ستيرن هاس، وارثة ثروة عائلة ليفي ستراوس، هي التي اشترت اللوحة لعائلة ستين وأوصت باللوحة إلى المتحف، شريطة ألا تباع أبدًا، ولا تُعار إلى أي متحف آخر.

Magazine des arts

العدد 7، يونيو- يوليو - أغسطس 2022.


عدد القراء: 2505

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-