هانز بالوشيك وبروليتاريا برلينالباب: مقالات الكتاب
ياسر محمد الحربي جامعة جازان - كلية العلوم الطبية التطبيقية |
"القليل من العطر، والكثير من البَركة"، هكذا اختصر أحد النقاد في الماضي أسلوب هانز بالوشيك الفني.
يصادف التاسع من مايو في كل عام الذكرى السنوية للفنان الألماني هانز بالوشيك، الذي صور بلوحاته أكثر من أي فنان آخر، البؤس الاجتماعي في أواخر الإمبراطورية الألمانية وجمهورية فايمار، حيث كان مناهضًا للفن المخملي والتقليدي، لذلك قام برسم الفقراء والغرباء وعمال المصانع والمهمشين، وبالتالي أظهر الأشخاص الذين كانوا يعتبرون غير قابلين للتمثيل في المجتمع الراقي.
في ظل تطور أحداث الحرب الفرنسية البروسية، وتحول بريسلاو "حاليًا فروتسواف، بولندا"، التي كانت مدينة ألمانية في السابق، إلى مقر إقامة للجنود ومليئة بالثكنات العسكرية، وتحديدًا في سنة 1870، مع ذلك الصخب ولد هانز بالوشيك، وكان لديه ثلاث أخوات توفت اثنتان منهما بمرض السل، الذي كان منتشرًا في تلك الحقبة. ونتيجة للجو المتقلب للأوضاع، قرر والد فرانز بالوشيك المساح الحكومي ومهندس السكك الحديدية، في الانتقال إلى تشوجنو جنوب غربي البلاد وتوفير مكان آمن نسبيًا لأسرته.
في عام 1876 وبعد ستة سنوات من الانتقال المتكرر لعائلة هانز بالوشيك، واضطرارهم للسكن في مساكن العمال، استقروا أخيرًا في العاصمة برلين، والتي كانت تعاني من أزمة الذعر والكساد الاقتصادي، الذي اجتاح العالم في ذلك الوقت، ولكن فرانز بالوشيك كان محظوظًا في الحفاظ على عمله في السكك الحديدية، وإعالة أسرته في بيئة من طبقة العمال المتدهورة ماديًا، والتي كان يرمز لها بمصطلح البروليتاليا الصغيرة.
في طفولته جمعت الصدفة هانز بمعرض للفنان الروسي فاسيلي فيرفاشين، والذي أقيم في نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر، حيث صورت أعماله أهوال الحرب وتأثيرها، لاسيما الحرب الروسية التركية، حيث كانت الواقعية الرسومية لها بمثابة صدمة للبعض، ولكن هانز أستغل الموقف وبدأ بنسخ لوحاته وإعادة رسمها بأسلوبه، لتكون بمثابة إلهام له في السنوات اللاحقة لمسيرته، والتي كان تأثيرها واضحًا في أعماله.
بعد دراسته المرحلة الابتدائية في برلين وعند التاسعة من عمره التحق هانز بالمدرسة الثانوية الأسكانيشية في حي تمبلهوف، والتي كانت من أوائل المدارس التي قدمت مناهج في العلوم الإنسانية والطبيعية، حيث كان رئيسها في تلك الفترة العالم اللغوي المخضرم فولديمار ريبيك، ومن خلالها تفتحت معارف هانز وتلقى تعليمًا جيدًا، تبعه ذلك انتقال والده للعمل في جزيرة روغن الكبيرة، لذلك تحتم على هانز وأسرته الانتقال إلى بلدة شترالسوند الساحلية، حيث أكمل تعليمه هناك.
خلال مدة تعليمه في شترالسوند، التقى بالمعلم ماكس شوته، والذي قام بتعليم تلاميذه بأفكار وأهداف الاشتراكية، وشرح الهياكل الطبقية للمجتمع، والذي ما لبث حتى تم فصله في النهاية بسبب أرائه السياسية اليسارية، مع ذلك كرس هانز وزملاؤه أنفسهم في قراءة الأعمال السياسية لعدة أدباء، كأعمال الأديب الروسي ليو تولستوي والكاتب الفرنسي إيميل زولا، التي كانت شائعة تلك الحقبة، وبعدما أنهى هانز دراسته الثانوية، صرّح برغبته في أن يصبح فنانًا.
تلى ذلك انتقال هانز لجامعة برلين للفنون، والتي من خلالها تعرف على صديقه الحميم ورفيق حياته مارتن براندنبورغ حيث تزاملا معًا لمدة طويلة. كانت أجواء الجامعة في ذلك الوقت غير محفزة، إذ كان يترأسها أنطون فون فيرنر، والذي كان متحفظًا للغاية، على الرغم من الاتجاهات الفنية الجديدة التي ظهرت في أوروبا، مثل الانطباعية الفرنسية الجديدة، ظلت الجامعة محافظة على تدريس التقنيات التقليدية ولمحات من تاريخ الفن، وهو ما كان لا يرضي طموحات وتطلعات الفنانين الجدد.
وبالفعل كان هناك ثلة صغيرة حديثة من الفنانين الألمان الذين حاولوا التأثير على المشهد الفني وإنشاء التعبيرية الألمانية، مثل ماكس ليبرمان، وليسر أوري وفرانز سكاربينا، ولكن قوبلوا بالرفض القاطع وعدم تدريس أي من أعمالهم داخل الجامعة، الأمر الذي كان محبطًا وشرارة لحركة انفصال برلين، التي سيتم الحديث عنها تواليًا.
عاش هانز في حي شونبيرج في برلين، حيث كان هناك أيضًا العديد من الشخصيات المعروفة مثل العالم الفيزيائي ألبرت أنشتاين، ولكن لم توثق أي صلة معرفية بينهم، ومع تزايد عدد الطبقات الاجتماعية وحياة العمال التي تبدو واضحة في برلين، كان هانز يبتعد رويدًا عن الرسم الأكاديمي وينحاز لتناول مشكلة الطبقية والبروليتاريا بشكل أكبر في لوحاته.
في عام 1893 أنهى هانز بالوشيك دراسته في الجامعة ليعمل كفنان مستقل، وعلى عكس الكثير من فناني تلك الحقبة، استمر هانز في التركيز على الوضع الطبقي في برلين، وكرس نفسه في قراءة الأعمال السياسية لغيرهارت هوبتمان، وليو تولستوي، وهنريك إبسن، ويوهانس شلاف، الذين شكلوا مركز الحركة الأدبية الطبيعية في برلين، ودمج أفكارهم مع دراساته في الأدب الاشتراكي، ودراسات أخرى في الطب والفلسفة والاقتصاد.
مع الوجوه الشاحبة للعمال ترعرع هانز بالوشيك، ومع مرافقته لوالده في السابق عند عمله بالسكك الحديدية تولد شغفه بها وأفتتن فيها، وهو من أول الفنانين الذين صوروا الوجه الجميل للتقنية، ولكن مع دخان تلك المصانع والثورة الصناعية كانت تتكدس هناك مجموعات من الأفراد الذين ينتمون إلى الطبقة البروليتارية، والذين لا يعيلهم سوى ما يجنونه خلال عملهم، أثر هذا العامل على شخصية هانز وانعكس ذلك على أعماله.
بدأ النضوج الفعلي لهانز في عام 1894، والذي استمر حتى بداية الحرب العالمية الأولى، خلال هذه المدة طور هانز من نفسه ووضع اسمه بالمشهد الفني في برلين، وعززت معارضته للفن التقليدي من تقرب العديد من الفنانين له، الذين يحملون نفس أفكاره، حيث كان المرجع لهم هو الفنان ماكس ليبرمان لنفوذه. ومع النمو الهائل لمواقع الإسكان والسكك الحديدية، واجه هانز خلال رحلته في شوارع برلين، المصانع والمقابر، وقبل كل ذلك الأشخاص الذين استخدمهم كأبطال في أعماله.
بالنسبة لهانز، أصبحت الطبيعة الأدبية هي التأثير الفني الحاسم الذي رافق نضاله ضد الاتفاقيات وسلطة المحتوى والشكليات وحدد أسلوبه المستقل للغاية في القرن العشرين. في لوحته الظهيرة" عام 1894، والتي صور فيها مشهدًا لنساء مع أطفالهم، وهم يحضرون الغداء لأزواجهم في المصانع داخل سلال، وتبدو هذه الشخصيات بشكل ما وكأنهم أنواع غير فردية، من خلال نفس الكدح اللانهائي، وظروف المعيشة السيئة المختلفة، بالكاد كل واحدة من النساء ليست سوى جزء من الحشد، الذي لا يتوانى عن العمل كل يوم.
استمر هذا الأسلوب أيضًا في لوحة "أمسية عمال السكك الحديدية" عام 1895، ويمثل الحشد هنا العمال أنفسهم، الذين يأتون متعبين من العمل بعد كدحهم في أعمال السكك الحديدية والمداخن، ويتم الترحيب بهم من قبل الأطفال الجادين في مظهرهم. في وقت إنشاء هذه اللوحة، حافظ هانز على علاقة ودية مع الشاعر الألماني ريتشارد ديميل الذي أصبح معروفًا من خلال مجموعة قصائده مثل "عمال الطبقة الرابعة، و"المرأة والعالم"، وفي عام 1897، عزز هذه العلاقة برسم بورتريه خاص للشاعر.
في العدد 68 من مجلة Die Gartenlaube""، كان لهانز حديث متجزئ بعنوان "في النضال من أجل فنّي" يقول فيه: "حسنًا، كان لدي الكثير لأقاتل من أجل فني وما زلت أقاتل، أنا فخور بذلك. بما أنني لا أستطيع أن أتخيل أنني أفتقر إلى الموهبة، يجب أن يكون هناك شيء مميز فيما أقدمه، ما الذي أؤذيه فعلاً في المواطن الذي اضطر أو طوعًا أو أراد أن يستمتع بفني؟ لقد اتهمت بـ "دوافعي"، واتهمت بخرق قوانين الجمال!، لم يستطع الأكاديمي تقبلي لأنني كنت واقعيًا جدًا كرسام!، واشتكى الانطباعي من أن رسوماتي لم تكن "لوحة". استحوذ على الرمزيين والحالمين اشمئزاز بسبب افتقاري للخيال؛ لم أحاول حتى الآن اكتشاف شعور الدادائيين والتعبريين تجاهي، أنا متأكد من أنني سأكون محتقرًا. ولكن لم تسبب لي أي من هذه الأحكام أي أذى جسدي، ولا حتى غير ذلك".
أوضح هانز من خلال رسوماته الجانب الحقيقي من برلين، وذلك من خلال تركيزه على محطات القطار المهجورة، والأشخاص الذين يكتنفهم اليأس والأمل، حيث تحملهم هذه القطارات إلى مصير مجهول، في أعتاب تلك الأوضاع المدقعة والبروتاليا اللي كانت تغطيهم، ومع استشعاره للمعاناة وتصويرها في لوحاته، أصبح هانز أحد الفنانين الذين نقلوا واقع الحياة في تلك الحقبة الصعبة، ووصف أسلوبه زميله كونراد فيليكسمولر ليقول: "بالنسبة له، كان الإنسان هو الغاية، والمحور الرئيسي، والفكرة الرئيسية في اللوحة، من "كتلة الناس"، قام بتمييز كل فرد منهم بحرص وصولاً إلى أدق التفاصيل، كل شخص كان له قَدْر"
في ظل التهديدات التي كانت تنطلق من معهد برلين، حيث كانت توجيهات الرئيس الفني أنطون فون فيرنر، بأن يكون توجه الرسومات بين المشاهد الدينية والطبيعية حصرًا، ولكن الروح الفنية الثائرة لبعض فنانين تلك الحقبة كانت ترفض ذلك، لأن هذا المنظور يمنعهم من التعبير بحرية في أعمالهم ونقل الواقع الذي كان يستشري من حولهم، وفي عام 1892، بدأت تظهر ملامح ذلك الانقسام من خلال مناوشات والتر ليستيكو، والعديد من الفنانين الآخرين، وطلب من هانز بالوشيك أن يشارك أيضًا، والذي بدوره لم يتوانى عن القبول.
وعزز سير هذه الحركة الفضيحة المدوية لمنع معرض إدفارد مونش، بواسطة الرئيس أنطون فون فيرنر عام 1898، حيث أن أسلوب وأفكار مونش كان ينافي التقاليد الفنية حسب رأي فيرنر، ونتيجة لذلك أجتمع نخبة من فنانين تلك المرحلة، وعلى رأسهم ماكس ليبرمان، ووالتر ليستيكو، وفرانز سكاربينا، وهانز بالوشيك، وكاثي كولفتز، وهاينريش زيل، وأوتو ناجل، وماكس سليفوغت، وأسسوا الحركة الفنية المسماة "انفصال برلين"، والتي كانت تستهدف القوانين التعسفية والمبتذلة لمعهد برلين الفني، حيث كانت تدحض رغبتهم في نقل الواقع الحقيقي لتلك المرحلة.
في عام 1902 تزوج هانز من الممثلة المسرحية شارلوت فون بازاتكا ليبينسكي، والتي كان قد التقى بها قبل بضع سنوات من خلال صلته بعالم المسرح. ولكن لم يدم هذا الزواج؛ حيث انتهى بالطلاق بعد عشر سنوات تقريبًا، وبدون أطفال، وبعدها بسنة تزوج من طالبة الرسم السابقة عنده إيرين دروس، والتي أنجبت منه طفلتين، كان ذلك خلال سنوات الحرب العالمية الأولى من 1916 إلى 1918.
قام هانز برسم 22 لوحة تحفيزية إبان إعلان الحرب، والتي زودت بنص وطني يشد العزم، للمؤرخ ريتشارد دو مولان إيكارت، حيث صورت الجنود، والمعدات العسكرية، وقذائف الهاون، والغواصات، والطائرات، و12 لوحة أخرى معاكسة، يصور فيها الجانب المأساوي وخسائر الحرب من خلال الثكنات العسكرية المحترقة، والجثث، والجرحى، والأسلاك الشائكة.
وفي إحدى مناورات الحرب تعرض الفنان مارتن براندنبورغ، الصديق الحميم لهانز، والذي كان متطوعًا كجندي، لإصابة خطيرة في الرأس وفقده لإحدى عينيه، وتوفي على آثر هذه الإصابة في 1919، أثر ذلك كثيرًا في هانز وجسد ذلك في لوحته "Zur Heimat" أو "إلى الوطن"، حيث يوجد مجموعة من الجنود يصطفون وأمامهم نعش مزين بميداليات، ينقل بحفاوة داخل قطار مع التحية العسكرية.
هزت نتيجة الحرب الكارثية هانز والعديد من الفنانين الآخرين، وتقلص انتاجه الفني الذي اقتصر على بضع رسومات لشوارع برلين، وصور ذاتية جسّدها بالوشيك بتركيز هادئ، ومع الوقت قرر دعم جمهورية فايمار بنشاط، والتي تم إعلانها في فايمار في 11 أغسطس 1919، ومحاولة التأثير في مجال الثقافة والتعليم. في عام 1920 كان من بين أوائل المنظمين والمحاضرين لمركز تعليم الكبار الذي تم إنشاؤه حديثًا في برلين الكبرى، حيث قام بتدريس الرسم.
وفي بداية عام 1919 كان عضوًا في لجنة تقييم الأفلام الرسمية، حيث حاول مواجهة الأفلام الترفيهية السطحية من خلال الترويج للأفلام السياسية. وفي عام 1929 عرض فيلم "رحلة الأم كراوس إلى السعادة"، والذي كان من إخراج فيل جوتزي وكتابة هاينريش زيل وأوتو ناجل، برعاية من هانز بالوشيك وكاثي كولفتز، وعند عام 1919 أيضًا كان أحد مؤسسي اتحاد الأدب البروليتاري، وفي عام 1924 تم تعيينه في المجلس الاستشاري الأدبي لدائرة الكتاب الديمقراطي الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع أرنو هولز، ومارتن أندرسن نيكسو، وكارل هينكيل، وبول كامبفماير، وفريدريك ويندل.
عند عام 1920 نشر روايته القصيرة "أرواح مكشوفة"، وأنضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وأصبح رئيسًا للوفد الفني في شونبيرج، جنبًا إلى جنب مع الممثلين إروين بيسكاتور وليوبولد جيسنر، تحت رئاسة اللورد عمدة برلين غوستاف بوس، وتم تعيينه نائبًا للمواطنين في انتداب للفن والتعليم، وبالتالي كان مسؤولاً عن القضايا الاقتصادية في مجال الفن والفنانين، ولعب دورًا رائدًا في تأسيس صندوق إغاثة فناني برلين، وكان رئيسًا مؤقتًا لجمعية الرايخ للفنانين الألمان.
افتتح هانز بالوشيك معرض برلين الكبير للفنون مع رئيس الرايخ فريدريش إيبرت عام 1923 وكان مديره من عام 1929 إلى عام 1933، وفي العام الأخير تمت تنحيته، وأزال الاشتراكيون الوطنيون بالوشيك من جميع مناصبه، بوصفه "فنانًا ماركسيًا"، وشوهوا أعماله بحجة أنها "منحطة". وفي عام 1935، عندمًا كان يبلغ سن الخامسة والستين، أصيب هانز بمرض في الكلى وتوفى على أثره في مستشفى فرانزيسكوس في برلين، ودُفن في ستاهنسدورف.
وفي الختام، يأخذ إرث هانز بالوشيك الإنساني الخالد مكانًا مهمًا في الرسم الواقعي الحديث، ولا يمكن للوحة الشرف الموجودة أسفل برج الاستوديو في حدائق سيسيليان، إلا أن تعكس القليل من التقدير لهذا الفنان، الذي سلط بلوحاته الضوء على العديد من أزقة العتمة في تلك الحقبة العصيبة.
المصادر:
- Margit Bröhan: Hans Baluschek. 1870–1935. Maler, Zeichner, Illustrator. 2. erweiterte Auflage. Bröhan-Museum, Berlin 2002, ISBN 398078940 .
- Hermann Esswein: Hans Baluschek. Piper, München und Leipzig 1910.
- Hans Mackowski: Hans Baluschek. In: Kunst und Künstler. Illustrierte - Monatsschrift für bildende Kunst und Kunstgewerbe. Verlag von Bruno Cassirer, Berlin 1903 (Jg. 1), S. 331–338.
- Günter Meißner: Hans Baluschek. Verlag der Kunst, Dresden 1985.
- Friedrich Wendel: Hans Baluschek – Eine Monographie. Dietz Nachf., Berlin 1924.
تغريد
اكتب تعليقك