التجريد لغة الفن الحديثالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-30 05:37:52

ياسر محمد الحربي

جامعة جازان - كلية العلوم الطبية التطبيقية

بزغ فجر التجريد ببدايات القرن العشرين في خضم الرمزية والتكعيبية والتعبيرية، وسرعان ما أصبح ظاهرة فنية عالمية غيرت وجه الحداثة والفن المعاصر.

في الماضي أشار أفلاطون إلى أن الصور غير الطبيعية (الدوائر، المربعات، المثلثات، إلخ) لها جمال مطلق لا يتغير. وبالتالي يفضّل أن يكون الحكم على اللوحة من حيث الخطوط والألوان، وذلك لأن الغاية منها ليس تصوير كائن أو مشهد معين.

يمكن التعبير عن التجريد بأنه اختيار عقلي، يعزل بعض عناصر مجموعة معينة ويحولها عن العناصر الأخرى في هذه المجموعة. هذه واحدة من العمليات الرئيسية للنشاط العقلي البشري، والتي تعتمد على وساطة الإشارات وتجعل من الممكن تحويل الخصائص المختلفة للأشياء إلى موضوع للنظر.

هذا التعميم النظري يجعل من الممكن عكس الأنماط الرئيسية للأشياء أو الظواهر قيد الدراسة، ودراستها. وكذلك التنبؤ بأنماط جديدة غير معروفة. الأشياء المجردة هي تشكيلات متكاملة تشكل المحتوى المباشر للتفكير البشري كالمفاهيم، والأحكام، والاستنتاجات، والقوانين، والهياكل الرياضية، إلخ.

مع نهاية القرن التاسع عشر كانت الحركة الانطباعية (1870-1880) أولى الحركات الفنية الحديثة الرئيسية التي قوضت الأسلوب الأكاديمي للواقعية الكلاسيكية والتي غالبًا ما كانت لوحاتها غير طبيعية، على الرغم من أن فنها ظل مستمدًا بشكل ثابت وواضح من العالم الحقيقي، وعلى سبيل المثال يبدو آخر عمل لكلود مونيه "زنابق الماء" أقرب إلى التجريد.

كان استخدام اللون والشكل لتحريك المشاهد أمرًا بالغ الأهمية في تطوير الفن التجريدي. بما في ذلك المتغيرات من النقطية الانطباعية الجديدة وما بعد الانطباعية، لفتت الانتباه بالفعل إلى قوة اللون، لكن التعبيرية الألمانية جعلتها حجر الزاوية للرسم. وفي وقتها نشر أحد مؤسسي الحركة واسيلي كاندينسكي (1866-1944)، كتابًا عن الروحانيات في الفن (1911)، والذي أصبح أساس الرسم التجريدي.

تبينت معالم تكوين التجريد الحديث عام 1910 في مورناو بألمانيا، عندما رسم فاسيلي كاندينسكي أول تكوين تجريدي بألوان مائية، موجود حاليًا في متحف جورجيا الوطني. ويروي عن مذكرات كاندينسكي، أنه خطرت له فكرة الرسم التجريدي عندما قلب لوحة لكلود مونيه ولاحظ أنها تبدو أفضل رأسًا على عقب.

بدأ كاندينسكي مقتنعًا بالخصائص العاطفية للشكل والخط وقبل كل شيء اللون في الرسم. كان لديه حساسية غير طبيعية للون، وهي حالة تسمى الحس المواكب. بحيث يعتقد أن الصورة لا ينبغي تحليلها فكريًا، ولكن يجب أن تسمح بالوصول إلى جزء الدماغ المرتبط بالموسيقى، وهو ما بنا عليه فنه بالفعل إذ كان يصور المشاعر والأصوات والحالات كأشياء.

في عام 1926، نشر كتاب كاندينسكي "نقطة وخط على مستوى" في ميونخ، من قبل دار نشر ألبرت لانجين. وهي سلسلة من "باوهاوس بوكس" بإشراف وتحرير والتر غروبيوس ولازلو موهولي ناجي. في هذا الكتاب أوضح فاسيلي كاندينسكي فهمه لنظرية الرسم التجريدي. في الصفحات الأولى من الكتاب، يدعي المؤلف أن كتابه هو المحاولة الأولى في تاريخ العالم للبدء في إنشاء نظرية فنية قائمة على أساس علمي، وأن هذه ليست سوى الخطوة الأولى في دراسة القوانين المعقدة واللانهائية والقائمة موضوعيًا للفن، من خلال تشكيل وتصور الأشكال المجردة.

في 19 يوليو 1937، افتتح معرضEntartete Kunst  أو الفن المنحط - في ميونخ - وتم عرض حوالي 650 عملاً من الفن الحديث المصادرة من 32 متحفًا في ألمانيا في المعرض. سافر المعرض إلى 12 مدينة في ألمانيا وزاره 3 ملايين متفرج (تم تجاوز هذا الرقم القياسي للحضور فقط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين). في نهاية المعرض، تم الإعلان عن التدمير الكامل للمجموعة الكاملة من الفن التجريدي وشبه التجريدي، كقطع أثرية لثقافة غريبة معادية للحكومة تحت مباركة النازية. ولكن نظرًا لارتفاع أسعار بعض اللوحات، فقد تقرر الاحتفاظ بجزء من المجموعة لغرض البيع.

وانتقالاً إلى أواخر الأربعينيات، بعد هجرة العديد من الفنانين التجريديين الأوروبيين، الذين تعرضوا للتمييز من قبل النازيين والشيوعيين، إلى الولايات المتحدة، أصبحت نيويورك المركز العالمي الجديد للفن التجريدي. في الولايات المتحدة، ولأول مرة في تاريخ أمريكا، ظهر الفن الحديث المتقدم، وكان ممثلوه مهاجرون ومن ولدوا في أمريكا. عرف فنانو هذه الموجة في التاريخ باسم "مدرسة نيويورك"، وعلى رأسهم جاكسون بولوك، ومارك روثكو، وبارنت نيومان وويليم دي كونينغ، وأرشيل غوركي.

في الستينيات والسبعينيات. أصبح الاتجاه الملحوظ في التجريد هو الفن التشكيلي، الذي طور مبادئ التجريد الهندسي، باستخدام الأوهام البصرية لإدراك الأشياء المسطحة والمكانية وكان من رواد هذا الاتجاه بريدجيت رايلي، وفيكتور فاساريلي.

كانت فتره الثمانينيات ضحية لأزمة ما بعد الحداثة والتي استشرت إلى الفن التجريدي أيضًا. وفي ذلك الوقت أعرب العديد من النقاد والفنانين عن رأي مفاده أن نهاية تاريخ تطور التجريد قد جاءت ولن يتم إنشاء أي شيء جديد، يمكن مقارنته من حيث الأهمية بلوحات الفنانين التجريديين العظماء في القرن العشرين.

يصف بعض الفنانين التجريديين أعمالهم بأنها تسعى لإنشاء معادل بصري لقطعة موسيقية يمكن الحكم عليها بأنفسهم فقط، دون طرح السؤال "ما ذا تعني هذه اللوحة؟" ويسلر على سبيل المثال، أعطى بعضًا من لوحاته عناوين موسيقية، مثل Nocturne: Blue and Silver - Chelsea (1871).

وعلى موضوع المزاوجة بين التعبيرية والتجريد يعنى ذكر التعبيري المتأصل الراحل ألكساندر بانكين وهو أحد مبتكري التجريد العفوي، والتي كانت لوحاته عبارة عن تصور للقوانين الرياضية والنسب والمجموعات العددية. وفي احدى لوحاته نرى شبكة منتظمة 10 × 10، حيث كل خلية عبارة عن رقم من 1 إلى 100، ويحتل كل رقم موقعًا محددًا بدقة ويتم تخصيصه وفقًا لخصائصه. بحيث إذا قمت بترجمة هذا الهيكل من المستوى إلى الفضاء، سوف تحصل على مكعب، والذي يتم تمثيله تقليديًا على أنه مكشوف في الإسقاط.

وامتدادًا لماهية التجريد ذكر المؤرخ والناقد الفني ماير شابيرو، في نصه التاريخي عن طبيعة الفن التجريدي، تفسيرًا اجتماعيًا خاصًا. بالنسبة له فإن الإيماءات والآثار التي خلفها تعبير الفنان، تتكثف في صورة رمزية للبنية الاجتماعية للرأسمالية الصناعية. بغض النظر عن مدى كون الرسم بلا حبكة أو موضوع، فإن غياب الحبكة هذا يوجه الانتباه إلى معنى استخدام الأدوات والأساليب الفنية. أي عند التحول إلى التجريد، تصل علاقات الإنتاج إلى معناها في الثقافة.

وفي حين أن معظم الأعمال الفنية التكعيبية كانت لا تزال مشتقة من أشياء أو مشاهد في العالم الحقيقي وبالتالي لا يمكن اعتبارها مجردة تمامًا، فإن رفض الحركة لوجهة النظر التقليدية قوض الواقعية الطبيعية في الفن تمامًا وبالتالي فتح الباب أمام التجريد الخالص. وهذا بالطبع لا يعطي سببية مطلقة، ريثما أنه من المؤكد أن التجريد لم يتحقق فقط عندما شعر الفنانون أن حدود الفن تتوسع بشكل أسرع مما يمكن وضعها على الخريطة الثقافية.

وبالنسبة للرأي الذي ما تعتبره السردية التاريخية أمرًا عادلاً بشكل لا لبس فيه، وهو أن الفن كان جاهزًا للتجريد حتى قبل بداية القرن العشرين. وبنفس الطريقة فإن ظهور التجريد لم يكن نتيجة لسلسلة واعية من القرارات، وإلا لما ذهب أبعد من كاندينسكي.

في الختام يعد التجريد كطريقة عالمية للإدراك، وبدونه يصعب تصور الإدراك العلمي واليومي. ربما تكون أسئلة السببية مجرد محاولات لبناء أسطورة غائية، لشرح هذه الممارسات على أنها تحدث في مكان ما بين الثورة الصناعية الثانية والحرب. على أي حال كل ما يمكن قوله هو أن الإنسان حاول أن يفهم العالم وفهمه على هذا النحو من الممارسة الفنية.

 

المراجع:

. 1assily Kandinsky. Point and Line on a Plane, 1926

. 2Wassily Kandinsky. On the Spiritual in Art, 1911.

. 3akov Andrey. Non-Objective World: Abstract and Concrete Art: Russia and Poland / Per. from fr. E. M. Titarenko. — M.: Art, 1997. — 416 p.

 . 4Vilenkin N. Ya., Shreider Yu. A. The concept of mathematics and objects of science. - "VD", 1974, No.2.

. 5Gorsky D. P. Questions of abstraction and the formation of concepts. - M., 1961.

 . 6Lazarev FV On the nature of scientific abstractions. - M., 1971.

 . 7Lazarev F.V. Abstraction and reality. - "Bulletin of Moscow State University", 1974; No. 5.

. 8Worldview and methodological problems of scientific abstraction. - M., 1960.


عدد القراء: 3365

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة Nada من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2022-06-15 12:31:39

    مقال رائع ومثري كالعادة وهذا أمر غير جديد على لأخ ياسر، يتميز بسرده للمعلومات العلمية والتاريخية بطريقة إنسيابية وغير مملة مما يجعل يشعر أنه لم يكتفي بالنص. لدي بعض الإنتقادات البسيطة لا أعلم إن كان لي الحق في قولها لكن ربما تكون بنّاءة بإذن..تصميم المجلة باهت ورتيب ولا يشد القارئ بعكس مواضيعها وهذا أمر ربما يثبط من إستمرارية القراءة فيها ..فلا بد أن يكون تصميمها منعش للنظر مقارنة بمواضيعها الرائعة. هذا ونأسف على الإطالة ونعتذر إن أخطأنا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-