جيمس كاستل: فنان من العدمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-10-01 01:41:41

ياسر محمد الحربي

جامعة جازان - كلية العلوم الطبية التطبيقية

منذ الأزل تكرر سؤال بديهي، ما الذي يجبر شخص ما على ممارسة الفن؟

تعددت الإجابات المتواترة بين الاستشهاد بعدة أمثله، كالإنسان البدائي ورسمه على الكهوف، ولكن في الخمسينيات من القرن الماضي قدم المؤرخ وناقد الفن الفرنسي "أندريه مالرو" إجابة أكثر دقة حيث قال: "أن ما يجعل الفنان ذو أفق حاد، هو تأثره في شبابه بشكل أعمق بتجربته البصرية للأعمال الفنية، أكثر من تأثره بالأشياء التي تمثلها - وربما تأثر بالطبيعة ككل."

بناءً على هذه الفكرة استمد الكثير من الفنانين العصاميين مشوارهم الفني، من خلال ما ينظرون إليه من حولهم وصنعوا من تأملاتهم عالم خاص، يمثل مشاعرهم والأفكار التي يتبنونها. أحد هذه الأمثلة كان الفنان الأمريكي جيمس كاستل، والذي ترك وراءه عند وفاته، إرثًا كبيرًا وضخمًا من الأعمال المتنوعة.

ولد جيمس داخل مزرعة في بلدة جاردن فالي، بولاية إيداهو عام 1899، وكان أصمًّا بشدة منذ الولادة، حيث لم يتبنى الكلام، أو لغة الإشارة، أو قراءة الشفاه، أو الكتابة، أو أيًّا من الأساليب المعتادة للتواصل مع الآخرين. لم يتزوج أو يسافر أو يشغل وظيفة، ولكنه عاش مع عائلته في ثلاث مزارع صغيرة في جاردن فالي، وستار سيتي، وأيداهو، التي استقرت فيها عائلة كاستل على التوالي خلال حياته.

التحق بمدرسة أيداهو للصم والمكفوفين في غودينغ، على بعد حوالي 100 ميل جنوب شرق بويز، لمدة خمس سنوات (1910-1915) ولكن لأسباب غير معروفة لم يكمل برنامجه التدريسي، وبدلاً من ذلك سعى إلى الفن كوسيلة أساسية للتواصل، حيث قرر خوض عالمه الصامت، من خلال اقتباس الرسوم التوضيحية للصحف والمجلات، وكتالوجات الطلبات البريدية، والرسوم المتحركة والإعلانات، وحتى الزخارف والرموز الموجودة على العبوات التجارية.

ما حفز ذلك، هو أن والداه كانا يديران مكتب البريد المحلي، حيث ساعده ذلك في إعطائه نظره فنية من تصاميم المطبوعات والرسوم عليها، ومن هذا المنطلق بدأ فعليًا بممارسة الرسم بشكل يومي من أجل الرسم فقط، واخترع وسيلة خاصة بديلة للحبر والألوان، عن طريق الجمع بين سخام موقد حرق الأخشاب واللعاب والماء، حيث يقوم بمزجهم باستخدام أعواد مسننة وقطن محلي الصنع أو قطع ورقية، وفي نهاية المطاف يضع المزيج في نهاية عصا صغيرة حادة شبيهة بالفرشاة، ليجعل الأعمال الفنية تشبه إلى حد كبير ما ينتج بالحبر أو الجرافيت.

كانت مجموعة الأوراق والكرتون التي استخدمها عبارة عن مخلفات منزلية، مثل حاويات الطعام الفارغة، أو بقايا تغليف المنتجات، أو الرسائل القديمة، أو الأظرف المستعملة، أو صفحات الواجبات المنزلية لأبناء وأبناء إخوته، أو علب الثقاب الفارغة. كل هذا كان يقوم فيه بالأستوديو الخاص به، والذي كان في البداية حظيرة دجاج غير مستخدمة، وتطورت فيما بعد إلى مقطورة صغيرة.

تعلم كاستل العديد من التقنيات الفنية، من خلال جولاته ورسمه للعربات المتوقفة، وغرفًا في مزرعة عائلته، ومناظر خارجية للمباني حوله، وعادة ما يقوم برسمها من خلال التخيل، وأحيانًا يتم تصويرها بشكل حي، ولكن غالبًا ما تكون مزينة بصور سريالية غريبة، تعكس مشاعره للمنازل والأكواخ وأهميتها كمأوى للبشر وحلقة لخصوصيتهم واستقرارهم.

وتقول آن بيرسي، أمينة أحد المعارض التي قدمت أعمال كاستل: "جيمس كاستل فنان ذو جدارة كبيرة يقع خارج حدود الخطاب التاريخي الفني المعتاد."، حيث توضح أعماله بوضوح شديد حول مدى فعالية التعلم الذاتي في أن يكون وسيلة للنمو الفني، وتعزيز الجانب الإبداعي الحر بمخيلة الفنان، بغض النظر عن الإمكانيات، أو تسليع الفن وحكره على أشكال معينة.

كان كاستل يقضي معظم وقته في الاستوديو البسيط الخاص به، حيث كان يجد في ذاك المكان سلوته، ولم يمنع ذلك من مضايقته ممن حوله، ولكن على الرغم من قدرته المحدودة على التواصل، تتذكر ابنة أخته كاثي ويد موريس اهتمام الفنان بلغة الجسد، حيث تقول: "عندما ينظر إليك بشكل مباشر في عينيك، سوف يلاحظ كل شيء... وكيف كنت تشعر تجاهه."

ومع أن كاستل كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، لم يمنعه ذلك من نسخ الكلمات من مصادر مختلفة، وصنع أغلفة بديعة لكتب متنوعة. وما جعل أمر جمع أعماله صعبًا لاحقًا، أنه بسبب أميته لم يكن يؤرخ أعماله لا بالتواريخ أو الأسماء أو التواقيع، ما صعب ذلك على جامعي أعماله، وخصوصًا أن الورق الذي كان يستعمله للرسم ليس بالضرورة أن يكون جديدًا بل كان يستعمل أوراقًا قديمة وعتيقة لصنع التأثير الخاص به.

من ضمن الأشياء التي ذكرتها جاكلين كريست المسؤولة عن أرشيف كاستل في مقابلة لها: " كان كاستل فخورًا جدًا بما يقدمه، وعندما يشاهد شخصًا غريبًا في زيارة حول مسكنه، يركض إلى الاستوديو الخاص به ويجلب عدة أعمال له ليريها إياه، حيث يراقب أعين الشخص حتى تحدق في عمله الذي يقوم برفعه بيديه، وإذا دفعه الشخص أو لم يكن مهتم، يبتعد ولن يريه أي عمل له مره أخرى، لم يكن ينسى ذلك".

بغض النظر عن المضايقات التي كان يحصل عليها كاستل بسبب عزلته، كان لا يتوانى بالتعبير عن مواضيع العائلة، ورسمه لكروت الميلاد، وتصويره لنفسه عندما كان طفلاً، وأحد لوحاته كانت تستعرض مجموعة أطفال ينظرون له باستغراب وهو يخرج من صومعته. كان يعلم كاستل أن ما يفعله هو مثير للاهتمام على الأقل بالنسبة له، لذلك لم يكن يحب أن يأتي أحد إلى مرسمه، وعندما يحدث ذلك ويتسلل أحدهم من باب الفضول فأنه يصبح هستيريًا، حيث يعتبره مكانًا خاصًا فيه بمفرده، يمارس فيه تطلعاته وأفكاره بعيدًا عن ضجيج الحياة.

وعن أعماله قالت مسؤولة قسم الفن العصامي بمتحف سميثونيان للفنون ليزلي أومبرجر: "قد تبدو جملة أعماله مضجرة ومتكررة بعض الشيء، لكنك كلما نظرت إليها، أدركت أنها تنطوي على معان لانهائية." ويعود ذلك إلى أن أسلوبه يعد خليطًا من الانطباعية، والواقعية، والتشكيل التجريدي، من خلال الضربات الملطخة في أجواء اعماله، والخطوط والأنماط المعمارية، والأشكال المبسطة التخطيطية، الهادئة والمشبعة بإحساس عميق بالغموض.

من المفارقة أن كاستل لم يكتسب شهرته كفنان إلا في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عن طريق الصدفة، والفضل يعود إلى ابن أخيه بوب بيتش، أثناء دراسته في مدرسة متحف الفن في بورتلاند، حيث عرض رسومات عمه على معلميه. ومن ثم تم تضمين أعمال كاستل في المعارض في جميع أنحاء الشمال الغربي مع عروض فردية في عامي 1963 و1976 في معرض بويز للفنون في إيداهو، والذي تحول في الوقت الحالي إلى متحف بويز للفنون.

وفي وقت قريب بعد الحصول على ممتلكات كاستل في عام 2015، بدأت بلدية المدينة في ترميم المنزل من أجل تحويله إلى مساحة ذات استخدام مزدوج: معرض عام لعرض أعمال الفنان واستوديو سكن للفنانين العاملين. لكن المشروع أسفر عن عائد أغنى بكثير مما كان يتخيله أي شخص. في خضم أعمال الترميم، عثر خبراء الفن على 11 عملاً غير معروف سابقًا مخبأة في جدران المنزل.

أما بالنسبة لما قد يكون قد دفع الفنان لإخفاء الأعمال في جدران المنزل، فإن راشيل ريتشيرت، مديرة المواقع الثقافية في إدارة الفنون والتاريخ بمدينة بويز، تحدث عن هذا الموضوع وقالت: "من الصعب تحديد النية من هذا العمل، لا أفهم أنها كانت مشكلة تخزين، إنها تقريبًا مثل كبسولة زمنية صغيرة."

توفي كاستل في 26 أكتوبر 1977 في بويز بولاية أريزونا، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين، ورغم التشخيصات الحديثة للأطباء حيث يشتبه بأن حالته كانت أقرب للتوحد، إلا أن ذلك لم يمنعه من إثبات أن المهارة المبتذلة والاستعانة بالحواس، ليست هي الغاية من الفن، بل يكمن ذلك فيما نعايشه ونراه ونشعر به من حولنا.

 

المصادر:

 

- Percy, Ann. "James Castle: A Retrospective." Yale University Press, 2008, p. 70.

- Trusky, Tom (2004). James Castle: His Life and His Art. Boise: Idaho Center for the Book. pp. 11–17. ISBN 0 -932129- 42- 0.

- Webb, Anna (2018-04-12). "These 11 artworks were inside walls of James Castle's house. This is how to see them". Idaho Statesman. Retrieved 2018- 04- 13.

- James Castle Collection and Archive

James Castle: A Retrospective, Edited by Ann Percy, Yale University Press (2009)

- James Castle: Show and Store, Edited by Lynne Cook, Museo Nacional Centro de Arte Reina Sofia (2011)


عدد القراء: 2987

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-