ارتباط الفن المعاصر بتاريخ الفنالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-02-01 06:17:52

ياسر محمد الحربي

جامعة جازان - كلية العلوم الطبية التطبيقية

منذ بداية تعبير الإنسان عما حوله من مخلوقات ومشاهد طبيعية وتحويلها إلى نقوش تزين الصخور من شرق الأرض إلى كهوف اللاسكو وألتاميرا، وإلى التحول المستمر الذي أضحى في هذا العصر كممارسات فنية راديكالية بتصنيفات عديدة، تحتويها المتاحف وصالات العرض الضخمة، فقد مر هذا الكيان بكثير من المراحل والتطورات التي جعلت هذه النقوش الصامتة تتحول مع مرور السنين إلى هذه النتيجة.

لذلك فإن بدايات تكوين ما يسمى بالفن من ممارسات الإنسان القديم دائمًا ما تكون حاضرةً فعليًا في أكثر الممارسات الفنية حداثة، من خلال التجريد وإلى أقصى درجات الواقعية، وقد استمد هذا التطور بشكل تدريجي بالوقائع التي خاضها الإنسان من الصيد البدائي إلى القنابل الصوتية والمعاناة المستمرة لهذا الجنس، وللتعبير أيضًا عن ممارسته في هذه الأرض ووجوده بأشكال وألوان عدة..

وعندما كانت اللوحات الدينية والمشاهد الطبيعية مسيطرة على المشهد الفني إلى بداية القرن السابع عشر، أدرك بعض الفنانين الهولنديين تأثير ما يقدمونه على المشاهد، فقاموا بصنع لوحات مليئة بالجماجم، في ظل أن المجتمع الهولندي بتلك الفترة، كان البلد الوحيد الذي يعيش غالبية سكانه في المدن، وكانت أشكال الحياة هناك نخبوية فالشوارع والمنازل نظيفة ومرتبة والناس يغمرون الشوارع بقبعاتهم البيضاء، على خلفية الانتعاش الاقتصادي آنذاك.

ولكنهم كانوا بحاجة إلى شيء ما يعبر عنهم بشكل مختلف، فالإنسان كائن ضعيف وصغير في هذا الكون مهما بذل عكس ذلك، ومن خلال هذا التنوير الفني، أدركوا أن المال والدخل والصفقات الجيدة ليست كل شيء، ومن هنا أتى دور الفن كأداة تعبير حقيقية، وقد أثر هذا الفكر بالذات على نظام وسلوك المجتمع الثقافي آنذاك، ولكن في الوقت الحالي لا يمكن أن يؤثر هذا النوع من اللوحات على فكر وسلوك الإنسان المعاصر ولن يؤخذ كمؤشر، بل على النقيض ستجد من يفضله ومن يراه مجرد استنساخ متكرر.

ومن هنا يتم استخلاص أن تاريخ الفن نفسه كموضوع احتوى على معالجة خاصة من جانب كل عصر، بناءً على المعطيات التي مر بها، فمثلاً في الاستطراد السابق عن لوحة الفنان الهولندي فيليب دي شامبين بعنوان "فانيتاس"، التي احتوت على جمجمة وساعة رملية في القرن السابع عشر، كانت بمثابة رسالة رمزية لسكان المدينة الأثرياء عن الوهمية والعبثية للوجود، في ظل تكرر الأعمال المخملية، لذلك كل حقبة تتغير فيها ماهية العمل الفني وتأثيره بناءً على المحيط الخاص بها.

وبالتالي يراود البعض سؤال كيف يمكن فهم عمل أصبح كلاسيكيًا، وعن الطريقة التي ننظر فيها إلى المثل الجمالية للعصور الأخرى، ما الذي يجب أن نراه في فن الماضي؟ علاوة على ذلك، بالنسبة لذكرى الثقافة الأوروبية القديمة أو الحديثة أو غيرها من الثقافات التاريخية، يمكننا التفكير فيما يمكن تسميته بأفق الذاكرة الثقافية، أي بنية معينة لمساحة المراجع الثقافية، والتي تشير إلى الحدود المتطرفة للتاريخ العالمي.

ومن ناحية أخرى فإن تاريخ الفن نفسه، بعد أن خضع لتغيرات مماثلة يساعدنا على فهم التطورات التي مهدت الطريق اليوم للفن المعاصر، لأن الخبرة المكتسبة في التغلب على المواقف الثقافية التاريخية التي كانت موجودة من قبل يعطي بعدًا تأمليًا، بالإضافة إلى الثورة المعرفية والصناعية، التي جعلت المجتمع الفني يحصد ثمار الحداثة منذ بداية القرن الماضي.

وإذا قمنا بالتفكير في المكان الذي تؤدي إليه الذاكرة الثقافية في عصرنا، وما هو محتوى تجربتنا في التغلب على أسس الماضي، فإن هذه الأسئلة تبدو معلقة في الهواء، وفي الحقيقة أن الفن المعاصر يتعمد قلب الصور النمطية وتدمير اللب الفني التقليدي كوسيلة للتكوين والفهم، بحيث يتبين أن محاولات ادخال التقاليد الثقافية الفنية في إطار مشروع معين للثقافة الحديثة يتم التأصل منه مقدمًا ولا يعطى اهتمامًا بالغًا، وهذا السبب في صعوبة فهم الفن المعاصر.

وكعودة إلى سنوات العصور الوسطى نلاحظ أنه تم تصوير معركة الإسكندر الأكبر مع الفرس في اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان الألماني ألبريشت التدورفر، بطريقة تبدو وكأنها معركة بين الأوروبيين والأتراك في أوائل القرن السادس عشر، بحيث أن كل الشخصيات يرتدون ملابس من الوقت الذي ينتمي إليه الفنان نفسه. بالنسبة لنا تبدو هذه الخطوة وكأنها مفارقة تاريخية، وانتهاك لترتيب الأحداث، ونستدل على هذا من وجهة نظر المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي.

وبمفهوم الإدراك الذي تم تطويره في الفلسفة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تمنحنا حداثة العصور القديمة فرصة رائعة لمقارنة مواقف الفرنسيين والإيطاليين في الخلاف الذي حدث في منتصف القرن الثامن عشر حول الأولوية الثقافية للأصول المختلفة للتقاليد الأوروبية. هذا الخلاف حول الرومان واليونانيين هو الذي يعطينا لمحة عن كيف تم تشكيل أفق الذاكرة الثقافية، من خلال وضع هذا الأفق في اليونان القديمة وأصبح نقطة مرجعية مألوفة بالنسبة لنا.

ففي الوقت التي كانت البساطة القديمة للمعبد اليوناني تتناقض مع الزخرفة الثقيلة والمهذبة للعمارة الرومانية، كان القطبان المشاركان في هذا النزاع هم الإيطالي "جيوفاني باتيستا بيرانيزي" والفرنسي "بيير جان مارييت"، لقد جادلوا في كل جانب من جوانب تقاليدهم الثقافية، بما في ذلك من وجهة نظر المبادئ المعرفية المختلفة، عند النظر لفكرة "بيرانيزي" كانت الاكتشافات الأثرية هي الحجة الحاسمة، لأنه كان عالم آثار ونحاتًا ومهندسًا معماريًا، بالنسبة له كانت الأدلة المادية على أولوية المباني الأترورية والأدلة التاريخية للنصوص القديمة مهمة.

أما بالنسبة للفرنسيين كان هناك شيء آخر أكثر أهمية بالنسبة لهم، في تصورهم لفكرة الكمال الجمالي للفن اليوناني، كانت الفكرة الرئيسية هي الدليل، أي التبين وفرصة مشاهدة الحقيقة بنفسك، وكان مبدأ المعرفة العلمية هذا عندما تم عرض التجارب العلمية أمام أعين الجمهور، مطلوبًا للثقافة ككل، بمعنى آخر اذهب إلى اليونان، وابحث عن البارثينون وانظر بنفسك، كانت إحدى نتائج هذا الخلاف إعادة توجيه الطرق السياحية من إيطاليا إلى اليونان.

نستنتج من هذه القصة كاستعارة للفن المعاصر، أنه كانت مسألة حدود الذاكرة الثقافية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببناء المشروع الثقافي للعصر نفسه، وبالتالي بفهم ما هو موجود في الفن المعاصر، يعد مخالفًا لقواعد ومواقف الفن الأوروبي الكلاسيكي. لأنه سعى وراء الحدود المفترضة للذاكرة الثقافية للفن المعاصر تاريخه الخاص وتاريخه الطويل إلى حد ما، فأنه منذ عصر الحداثة يسير المشهد الفني جنبًا إلى جنب مع "مناهضة الفن": فهو يسيطر بحزم على الاحتجاج المناهض للجمالية ضد المهارة الفنية، ويستخدم الاستفزاز والتلقائية كمكونات رئيسية للأصالة الفنية.

يمكن للسمات التاريخية لفن الماضي، والذي لا يقارن بالمدى الذي وصلت إليه الثقافة العالية للعصر الجديد، أن تدفعنا للبحث في الاتجاه الصحيح، هناك نقطتان يجب ملاحظتهما في فن الحاضر والمستقبل، فبعد العودة إلى المفارقة التاريخية، وكيف أنها كانت مثمرة بشكل مدهش في ذلك. يمكن أن يكون هناك دليل آخر بالنسبة لنا هو ظاهرة تسويق الثقافة.

يميز هذه العملية عن العملية الأوسع لتسليع الثقافة أو تحويل المنتجات الفنية إلى سلعة من خلال التسويق، هو أنه يمكن للمرء أن ينظر إلى التسويق على أنه تراجع للإبداع أمام الأعمال، من خلال الاعتراف بالأهمية الثقافية للمنتجات في هذا المجال، اعتمادًا على استهلاكها. في الحقيقة يبدو هذا كخيانة لقيم الثقافة الرفيعة، ولكن في الواقع فإن تكوين قيم أخرى هو الذي يؤكد قيمة العمل في مجال الثقافة المعاصرة ويوفر الوصول إلى الفوائد الثقافية. إن توسيع التبادلات في مجال الإنتاج الفني يساعد في موضوع الثقافة، ونحن كمستهلكين يمكننا أن نكتشف قوة التأثير لأنه يمكننا جميعًا المشاركة في هذه العملية.

في العصر الحالي تستثمر الشركات الكبرى في إنتاج وسائل استخدام المنتجات الثقافية، كصناعة الأجهزة الرقمية للاستهلاك الثقافي، ويتخللها أيضًا الانتاج الفني كالديجتال آرت. أصبح الفن والثقافة ككل مساحة تخيلية لبعض الأعمال المشتركة، بحيث ستكون العلامة الحاسمة للفن الجديد هي أن الفن سيتوقف عن كونه شيئًا استثنائيًا، ولكن على العكس من ذلك، سيصبح كل شخص باستطاعته المشاركة في عملية تصوير المعاني التي يتبناها بأبسط الوسائل.

وختامًا تأتي صياغة السؤال "لماذا يحتاج الفن المعاصر لتاريخ الفن؟"، يفترض أننا أحرار في رفض هذه القصة. ولكن حتى لو أردنا حقًا تهميش هذه الفكرة، فسيكون الأمر ليس بالسهل، لأنه من غير المنطقي أن تسمح لنا قرون بالدأب في نوع معين من التدريب، بتحرير أنفسنا جذريًا من الماضي.


عدد القراء: 2408

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-