فرانتيشك هوديتشيك: الهائم في الليلالباب: مقالات الكتاب
ياسر محمد الحربي جامعة جازان - كلية العلوم الطبية التطبيقية |
منذ ثلاثين عامًا من وفاة الفنان التشيكي فرانتيشك هوديتشيك، ولم تكلأ سيرته في التردد بين الأوساط الفنية المتخصصة، بصفته ملهم لأسلوب فني فريد تميز فيه.
يُعد فرانتشيك الابن الأكبر لعائلة كبيرة مختصة في الحدادة، بصفته الابن الأكبر الموهوب شكل ذلك حمل كبير عليه، وفي بداية حياته التعليمية انضم للمدرسة النحوية في ليبنيك ناد بيتشفو، وهي مدينة قديمة لا تزال تحتفظ بجزء كبير من جدرانها وأبراجها التي تعود إلى العصور الوسطى، والجدير بالذكر أنه قام بمعالجة ذكرى هذه المدينة في العديد من لوحاته في الثلاثينيات.
تبع ذلك انتقاله لمدرسة الدولة للفنون التطبيقية بإشراف البروفيسور "فرانتشيك كيسيلا"، والتي لم يكمل فيها بقراره. خلال فترة دراسته القصيرة التقى بالعديد من الفنانين العصاميين الذين أقام معهم صداقات امتدت لطوال حياته. من أهمهم الرسام "فرانتشيك غروس" والنحات "لاديسلاف زيفر"، اللذان أبدع معهما ضمن "المجموعة 42"، التي تأسست عام 1942 في أسوء فترات الحرب، وبات تأثيرها على الأدب التشيكي والفن التشيكي واضحًا في سنوات أخرى. تأثرت هذه المجموعة بشكل أساسي بالحضارة، والتكعيبية، والمستقبلية، والبنائية، وقليلاً بالسريالية.
أثناء دراسته تمكن من الفوز بعقد لرسم كنيسة في مورافيا شرقي البلاد، مما مكنه من إطالة حياته الطلابية في براغ لفترة قصيرة والتي كانت محفزًا كبيرًا أيضًا في رحلته ليصبح رسامًا واعدًا، لذلك حاول أن يتم قبوله في أكاديمية الفنون الجميلة في براغ، وتم قبوله في استوديو فيليم نوفاك على أساس الأعمال المقدمة. ومع ذلك، بسبب ظروف مالية لم يستطع الصعود إلى الطائرة. كان هذا الحدث والذي يبدو بائسًا في البداية، بمثابة طوق نجاة للفنان إذ اكتشف نفسه بشكل مغاير في براغ، ومعظم الوقت لم يكن مضطرًا حتى لدفع ثمن الإقامة، إذ كان ينام حول استوديوهات أصدقائه أو يتجول في شوارع الليل الجليدية.
على الرغم من هذه الصعوبات، كان يدرك بوضوح أنه إذا غادر براغ، فإنه سيترك بالتأكيد آخر اتصال له بالفن المعاصر، ولن يصبح رسامًا أبدًا. أصبح يقتات على ليالي الأرق والعزلة تحت السماء المليئة بالنجوم، التي تعلو المباني الحجرية العتيقة. كان يخوض فيها ساعات من التفكير في النظام الكوني والتأمل المستمر، وكذلك الثورة الصناعية مع المدن الكبيرة حيث تتراكم الطاقة البشرية، والتي مثلت فيما بعد أساسًا لأعماله اللاحقة، وكانت بمثابة الأرض الخصبة التي نما منها خياله.
بدأت الملامح الأولى لفكرة مشاة الليل في الظهور عند هوديتشيك في أوائل الثلاثينيات، الفترة التي كان كل شيء فيها قاتمًا ومظلمًا، بسبب الأزمة الاقتصادية التي مهدتها الحرب. وعند بداياته الأولى كانت شخصيته الإبداعية في تطور مستمر، حيث بدأ بتحسن بسيط من الناحية الخطية، وكانت بضع ضربات من الحبر الأسود هي الشرارة الأولى. في عام 1940 تم نشر مقال بقلم المؤرخ الفني التشيكوسلوفاكي "يندريخ شالوبسكي" بعنوان: "العالم الذي نعيش فيه" والذي قال في نهايته: "إذا كان للفن أن يستعيد أهميته المفقودة في حياة الفرد، فيجب علينا أن نعود للأشياء التي يعيش معها الإنسان... ليس فقط كموضوع، ولكن أيضًا الهدف من الفن هو تصوير الدراما اليومية الرهيبة والمجيدة للإنسان والواقع".
يبدو أن المقال كان ملهمًا لهوديتشيك وأثار اعجابه بشده، ومع التحول المأساوي للوضع السياسي آنذاك بسبب الحرب، بدأ هوديتشيك في محاولة التغيير في ظل التهديد الذي كان يتعرض له العالم بأسره، وبدأ في الاهتمام أكثر بما يحيطه وتوظيفه في أعماله، فالشوارع والساحات الرمادية التي كانت كئيبة وغير ودوده في السابق، أصبحت موضوعًا مهمًا في أعماله، ومع ذلك لم يكن هدف هوديتشيك هو مجرد نقل محيطه بشكل تجريدي، بل أراد أن يلتقط مشاعر الرعب الوحدة التي كان يعيشها الناس في ذاك الوقت. وفي العام نفسه أنشأ الاستديو الخاص به، وبدأ في سلسلته "مشاة الليل" التي ظل يبتكر فيها عقودًا بعد ذلك.
يمكن اعتبار نسخة سلسلة المشاة في الأربعينيات هي أكثر السنوات أصالة للفكرة، على عكس نسخ الستينيات والسبعينيات، فإن هذه السنوات تمخضت جل ابداعه وشغفه، أما بعد فكان الدافع منها هو استعمالها كطوابع أو بطاقات للعام الجديد. يغلب على سلسلة مشاة الليل ثيمة معينة، وهي الشخصية المجهولة التي تتوسط منتصف اللوحة، وتكون بمحاذاة الرصيف والشارع، وتتلوها المنازل على اليمين واليسار، تحت غطاء عباءة الليل.
ويلاحظ في نسخ سلسلة المشاة بالأربعينيات، أنهم ما زالوا يتجولون بشكل حرّ نسبيًا في الطرقات، ويبدون في حالة من الراحة، مع التركيز بشكل أكبر على البيئة حولهم من خلال تبيين التفاصيل كأعمدة الإنارة، والمشهد العام للمدينة المنبسطة مع البنايات تحت السماء المرصعة بالنجوم. لاحقًا، بدت البنايات أطول من السابق، وتقلصت المساحة الحرة، حيث بدأ بوضع المشاة في سلسلة من الشوارع والدهاليز الضيقة، كنتيجة لحالة القلق الوجودي التي كان يعيشها الفنان آنذاك.
يصف هوديتشيك اللحظة الأولى التي استلهم فيها الفكرة فيقول: "في إحدى الأمسيات الفاترة من شهر ديسمبر، كنت أعود إلى المنزل بعد ما خرجت من حانة في كوسوفو، وتوجهت من خلال ساحة فيرماخت الكبيرة آنذاك، مرورًا بحي ديجفيس البهيج إلى شارع تيسلوفا، ومن خلال الإطلالة توقفت لألقي نظرة على النجوم التي كانت تتلألأ فوق المدينة المظلمة، ومن منطقة بودبابا كانت توجد فوانيس واقفة على الرصيف، تلمع على الجانب الأيمن من الطرق بصلبان أندرو الخضراء وعلى اليسار بدوائر حمراء. ومصابيح معلقة على شمعدانات طويلة تحجبها خطوط عرضية سوداء. وفجأة، أثار المنظر حماسي بشكل خاص، اختلطت النجوم في السماء بطريقة ما بالأضواء الملونة على الأرض، شعرت لجزء من الثانية بانعدام الوزن، مثل حلم قد أطفو بإرادة صغيرة. لعدة أيام، ما زلت التجربة لم تذهب من عقلي، لذا للتخلص منها، رسمتها، في الواقع قمت بتلوينها فقط كتوثيق".
لاحقًا كتب المؤرخ يندريخ شالوبسكي مرة أخرى عن فترة الثلاثينيات، وعن تجربة هوديتشيك في سلسلة مشاة الليل، بأنها كانت مرآة تعكس مرارة التجارب التي عانى منها جيله، ويصف تلك السنين بأنها كانت مغطاة بالبطالة والجوع والظلام الكثيف، وفي حديث متجزئ يصف فيه الأسباب التي ولدت منها سلسلة مشاة الليل عند هوديتشيك فيقول: "المشاة في الليل ليسوا اختراعات شعرية، بل ذكريات تكونت من الليالي التي خاضها هوديتشيك في براغ، خصوصًا وأنه لم يكن لديه مكان ينام فيه، وكان جائعًا لفترة طويلة، ومع ذلك كان سعيدًا لأن هذه العوامل تحفز من خياله".
في الواقع هذا الاستشهاد لم يكن الإشارة الوحيدة في اعتماد هوديتشيك على نمط حياته كمصدر لأعماله اللاحقة، حيث كان يرسم في الليل والنهار، ولكنه اعتمد على الجو الليلي كأساس لأعماله المستقبلية وكمفتاح هام لسلسلته. مع الوقت تدرب هوديتشيك بتركيز، وتغذى من أعمال الكاتب الفرنسي أرثر رامبو، مما جعله قادرًا على نقل أفكاره إلى أماكن مختلفة وزرع حساسية عالية في نفسه. ومع تفاقم العوامل المحبطة عليه في البداية، لم يدرك بأنه كان يعيش في حالة سيئة للغاية، حيث كان ينام في مقاعد الحدائق دون سقف يغطي رأسه.
يعتمد هوديتشيك على تباين الألوان القاتمة في إيصال الجو العام للعمل، والذي يكون حزينًا وهادئًا في الغالب. وبعض التفسيرات تعتبر أن الشوارع المظلمة كانت إلزامية في سنوات الحرب، الأمر الذي كان داعمًا لأفكار هوديتشيك، ومع الوقت بدأ في التحول من الأسلوب التكعيبي الحداثي إلى مشاهد ما بعد الرومنسية، حيث بدت اعماله وكأنها امتدادات للوحات مواطنه الفنان التشيكي "جان زرزافي"، والذي كان ينثر ابداعه في نفس الفترة أيضًا.
ارتبطت العديد من اللوحات الأخرى لهوديتشيك بسلسة "مشاة الليل"، من ناحية تكرار بعض العناصر مثل: المدينة في الليل، القمر فوق المدينة، الشوارع الليلية، منظر المدينة في الليل من بعيد. وغيرها، كالنوافذ التي تشبه العين البشرية، والهوائيات العشوائية مع أسلاك الهاتف، والمحطات الريفية المهجورة. تبدو هذه العناصر مقفرة وفارغة وجافة عاطفيًا، وتوحي بأنه في مكان ما في خلفية اللوحة يختبئ شخص مهجور باستمرار، متألمًا من حزنه المصيري، في وسط عالم قاس وفارغ وضيق، أقرب أن تكون صورًا صامتة للحياة اليومية في ذلك الوقت.
على الرغم من غزارة أعمال هوديتشيك، إلا إنه لم يكن مهووسًا بالرسم في كل وقت، على غرار صديقه ومنافسه الأبدي فرانتشيك غروس، بل على العكس، كان يتعامل مع هوايته في أوقات معينة. ونجد في أعماله أساليب متعددة، مثل النقش واستعمال قطع الخشب في بعض أعماله، بالإضافة للنحت على المشمع واستخدام الإبر الفولاذية على صفيح النحاس والطباعة الحجرية، وتركيزه على رسم معالم المدينة في الليل بالألوان الأحادية، مع اقتناص وهج الشارع حيث تمتزج الأضواء الساهرة بالنجوم المعلقة في السماء.
في عام 1968 وصف افتتانه بهذا الموضوع: "كان الملهم لهذه السلسلة الطويلة من مشاة الليل هو التفاصيل المنسية؛ ذات يوم ذهبت لأتنزه في وقت متأخر من الليل في ساحة المحطة، حيث لم تكن هناك أضواء مرئية، باستثناء الفوانيس المختلفة والمصابيح. وكان خلالها شبكة من القضبان المتلألئة في ضوؤها الباهت، تسير كما لو كانت في فراغ، إلى العدم ... بالإضافة إلى النجوم، محيط من النجوم لا يمكنك رؤيته في المدينة الكبيرة. ولكن في تلك الحرب اليائسة، كانت السماء ممتلئة بالتأكيد. الصورة الأكثر بلاغة للقلق الذي يخنق الناس في ذلك الوقت، وكذلك الآمال التي يمكن أن تُستمد من مثل هذه الصور لرجل ضائع في الفضاء، ولكن يتخللها إشراقه ونجومه".
يمزج هوديتشيك في أعماله خصوصًا في سلسلة "مشاة الليل"، بين الإسقاط الذاتي الشخصي، والوضع العالمي المترتب على الحزن السائد في زمن الحرب، من خلال رجل يتجول في الشارع مع إسقاط ثقل العالم كله في لحظه واحده، ويمكن تفسيرها كإشارة حول حزن شخصي، ونتيجة لكم كبير من الأسئلة الداخلية؛ مثل مكانه في الفضاء، والسؤال الداخلي المتكرر عن مصيره.
في آخر حياته، كرس هوديتشيك نفسه في عمل الرسوم التوضيحية، وتصميم الطوابع البريدية، وفي عام 1964 حصل على الميدالية البرونزية من المعرض الدولي لهواة جمع الطوابع في باريس؛ نظيرًا لجهوده. وفي الخمسينيات أعاد إحياء اهتمامه السابق عن الكون، والعلاقة الإنسانية بالكون، والهندسة التصويرية من خلال بعض الأعمال. وفي آخر مشواره الفني عام 1986 افتتح معرضًا منفردًا في العاصمة براغ، كتتويج لمسيرته الحافلة.
عند قرب نهايته بدأ بصره في الذهاب تدريجيًا، ولم يكن قادرًا على مواصلة عمله. في الوقت الحالي لوحاته مبعثرة في مختلف المتاحف والمعارض الحكومية التشيكية، وكذلك في المتاحف الخاصة. والتي مازالت شاهدة على ابداع الفنان الذي نثر خياله وابداعه في شوارع براغ فترة من الفترات.
المصدر:
1 - أطروحة البكالوريوس لـ Lenka Kubelová
2 - متحف أولوموك للفنون OLOMOUC MUSEUM OF ART
https://www.muo.cz/en/collections/paintings--44/frantisek-hudecek--324/
تغريد
التعليقات 2
عمل رائع للتعريف بالفنان التشيكي František Hodeček، في انتظار المزيد.
ياسر من فضلك راسلني على هذا الإيميل للضرورة
اكتب تعليقك