فلسفة الكهانة عند العربالباب: مقالات الكتاب
د. أشرف فؤاد عثمان أدهم باحث في الحضارة الأفريقية ومقارنة الأديان |
مرَّ العرب في جاهليتهم كسائر الأمم بطور البداوة، وهذا أمر طبيعي تمرُّ به الشعوب في ارتقائها لسلَّم التطور والحضارة، وكان لهم في تلك المرحلة سماتٌ وملامحُ وشمائل ميّزت حياتهم العقلية والروحية، ولعلّ أكثر ما يميّز الرؤية العربية في الجاهلية سيطرة النظرة الحسية المادية إلى الأمور، والافتقار إلى النظرة الشمولية، وبروز النظرة القاصرة التي تتجلى في ضعف التعليل ولا تتكئ إلى نظرة علمية سليمة، ولا عجب في ذلك؛ فأحكام العرب هذه نابعة من المحيط الذي يعيشون فيه، حيث تتحكم فيهم ظروف البيئة القاسية، فقد تميزت صحراؤهم بقسوة طبيعتها، ومناخها الحار، وندرة مظاهر الخصب والنماء إلاّ في بعض الأماكن التي توجد فيها المياه خاصةً في أعقاب الأمطار إذ ترتدي الأرض ثوبًا أخضر قشيبًا لا يدوم طويلاً، فسرعان ما تقضي عليه الرياح الحارة الجافة وتعود لتكشف عن تربة فقيرة قاحلة لا مكان فيها للحياة. وقد فرض هذا المناخ على العرب حياة شاقة صعبة لا تعرف الأمن والاستقرار والهدوء، فكانت القبائل العربية في تنقُّل دائم طلبًا للماء والمرعى، ولمّا كان الماء قليلاً والمرعى شحيحًا نشبت النزاعات، وكثرت الأيام والوقائع، وعاش العربي عيشةً مَلأَى بالاضطراب والقلق والخوف، وفي مواجهة دائمة لأعدائه المتربصين به من جانب، وقوى الطبيعية القاسية من جانب آخر مما جعله يشعر دائمًا بضعفه وعجزه وحاجته إلى ما يخفف روعه في هذه الصحراء، ويشعره بالطمأنينة والأمان، ويفسر له العديد من الظواهر التي تعترضه في حياته ولا سيما مع غياب الدين الإلهي الذي يوضِّح الكثير من الأمور الغيبية التي يعجز الإنسان عن تفسيرها، ويكون له هاديًا وموجهًا في الملمات والنوائب (1).
وهكذا فقد أنشأ الإنسان العربي أوهامًا وخرافات هو في أشد الحاجه إلى وجودها في عقله ووجدانه ليحاول أن يعلّل بها كثيرًا من الظواهر التي تتصل بحياته في الصحراء مما جعل حكمه بدائيًا وبعيدًا عن الحق والصواب، وحفلت حياته بعاداتٍ كانت له معتقدًا، ومصدرًا لطمأنينة نفسه وراحتها، وليس في هذا الأمر مطعنٌ أو مأخذٌ على العرب، فقد كانت سيطرة الأوهام على النّاس آنذاك سيطرة عامة لأنها تتبع للعواطف والمشاعر لا إلى العقل والتفكير، وفي ذلك يقول الحوفي: «إنما تشيع الأوهام في النفوس لأن النّاس يتشابهون فيما يرجع إلى اللاشعور والغرائز، وإن اختلفت طبقاتهم، فهم يتشابهون في الوجدان والشهوات والمشاعر (2).
والكهانة هي الإخبار عن الغيب، والتنبؤ بالمستقبل. وهي ظاهرة عرفها العرب قديماً مثلما عرفتها الأمم الأخرى في هذه الفترة. وتقوم الكهانة في أساسها عند العرب على الإخبار بالغيب، والناس مجبولون على الرغبة الشديدة في معرفة الغيب، ولا سيما من كان منهم غنيًا، أو صاحب جاه أو سلطان، فيخاف من المستقبل على ما يخبئ له، لذا كانت العرب تُكثر من مراجعة الكُهَّان وسؤالهم عن المستقبل. فلا غرابة والأمر كذلك أن نجد الكُهَّان العرب في زمن الجاهلية يتنبؤون بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما ورد كثيرًا في كتب التاريخ والسيرة النبوية حيث كانت تُخَصِص فصلاً عن بشائر الكُهَّان بقرب بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (3).
والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويَدَّعى معرفة الأسرار. وقد كان في العرب كهنة ذائعي الصيت: منهم "ابن صعب بن يشكر القسري البجلي الأنماري"، من قبيلة عبقر بالحجاز ويسمى "شِق"، و"ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان" ويسمى "سُطيح" وهو من بادية الشام، كانا من أشهر كُهَّان الجاهلية يُخبران بالمستقبل، وقد سُمي "شِق" بهذا الاسم لأنه كما يقولون: كان جسده كشق إنسان، وأما سُطيح فكان كالبضعة الملقاة على الأرض فكأنه سُطِحَ عليها.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يكن شيء من بني آدم يشبه سُطيحًا، إنما كان لحمًا على وضم، ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يُطوَى كما يُطوى الثوب من رجليه إلى عنقه ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه" وقال غيره: "إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس. وكانا يزعمان أن لهما تابعًا من الجن يلقى إليهما بالأخبار، ويعرفان الأمور بمقدمات الأسباب، ويدَّعيان معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة ونحو ذلك"، وكان الكُهَّان في الجاهلية يُرَوجون لأقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب، ويستصغون إليها الأسماع. وكان العرب تسمى كل من يتعامل علمًا دقيقًا كاهنًا، ومنهم من كان يسمى المنجم والطبيب كاهنًا (4).
كما ورد تعريف الكاهن في مصادر أخرى: أنه هو من يخبر بالغيب، وقيل هو كل من يتعاطى علماً دقيقًا. ومن العرب من كان يسمى المُنَجِم والطبيب كاهنًا، وعند اليهود والنصارى من ارتقى به إلى درجة الكهنوت، وعند أصحاب الديانات الأخرى من غير المسلمين من ساغ له أن يقدم الذبائح والقرابين، ويتولى الشعائر الدينية. ورجال الكهنوت هم رجال الدين عند اليهود والنصارى ونحوهم، فالكاهن اسم فاعل من كَهَنَ، إذا قضى بالغيب وحَدَّث به، وهو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويَدَّعى معرفة الأسرار، ومطالعة الغيب، والجمع كَهَنَة وكُهَّانْ. وقيل الكاهن هو خادم دين، أو هو الشخص المخصص لتقديم القرابين (5). وبنفس المعنى تقريباً قيل: الكاهن هو الذي يكرس نفسه لخدمة الدين متوسطًا بين الله والناس، وهو من يقوم بتقديم الذبائح لله على وجه الخصوص (6).
وقد عرف اليونانيون الكهانة، وأشهر كُهَّان اليونان "أبوللو" إله الشمس، والذي كان يُعَد إلهاً للإخبار بالغيب، لأنه رمز الشمس التي تلقى بالضوء على طريق المستقبل المظلم، ويقتل وحش الظلام، لأنه يمنع استطلاع الغيب (7). وكانت العرَّافات إمَّا عجائز أو فتيات يعشن في كهوف في الصحاري، ويقدمن النصائح من خلال كلمات غامضة على أنها إيحاء من الشيطان، وأشهر العرَّافات في هذا الوقت "سيبيل"، والتي كانوا يعتبرونها حلقة الاتصال بين الإنسان والشيطان، ويبدو أن اليونانيين أعطوا الشيطان أكثر من قدره باعتباره شيطان خير ورحمة، وليس شيطان شر ورذيلة(8)، وجاء عنها في مصادر أخرى أن "سيبيل" هي إلهة الطبيعة عند شعوب آسيا الصغرى القديمة، وانتقلت عبادتها منها إلى بلاد اليونان، حيث وجد الإغريق شبهًا بينها وبين إلاهتهم "ريبا"، كما أطلق الرومان عليها "الأم الكبرى للآلهة" (9).
وجاء تعريف الكاهن على لسان الكثيرين من فلاسفة العلماء العرب في الألف الأولى من الهجرة، منهم، فقال محمد بن حبيب الهاشمي": "ولا يكون الكاهن كاهنًا حتى يكون معه شيطان من الجن" (10). وقال "ابن تيمية الحَرَّاني" في لفظ كاهن: "وهذا الاسم ليس بذم عند أهل الكتاب، بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم، ويُسَمون هارون عليه السلام وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا الاسم، والقدر المشترك: العلم بالأمور الغيبية، والحكم بها، فعلماء أهل الكتاب يُخبَرون بالغيب ويحكمون به عن الوحى الذى أوحاه الله لهم، وكُهَّان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشيطان" (11)، وقال "ابن الأثير": "الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويَدَّعي معرفة الأسرار، والعرب تُسَمى كل من يتعاطى علماً دقيقًا: كاهنًا" (12)، وقال المؤرخ التركي "طاشكبري زاده": "علم الكهانة: هو مناسبة الأرواح البشرية مع الأرواح المجردة من الجن والشياطين، واستعلامها منها الأحوال الجارية في الكون خاصةً ما يختص بالأمور المستقبلية" (13). فالكهانة عند العرب: الإخبار عن الغيب عن طريق تابع من الجن، وهي بهذا التعريف تختلف عن العيافة التي هي زجر الطير، والتفاؤل والتشاؤم بأسمائها واصواتها، وجهة طيرانها، وعن القيافة التي تتبع الأثر، وعن العرافة التي هي الاستدلال ببعض الحوادث الحالية على الحوادث الآتية بمناسبة بينها (14).
وحيث أن تشوق الانسان لمعرفة ما غاب عنه هو أمر فطري، جاءت الشرائع بإجابات للناس، فكان الكلام في الشرائع عن الموت، وما بعد الموت، وعن السماوات وما فيها، وعن العالم الآخر. ولمَّا لم يكن للعرب في جاهليتهم شريعة يحتكمون إليها، ولا رسالة ورُسُل تجيبهم عمَّا يتطلعون إلى معرفته مما أدى إلى تعظيم أمر الكَهانة، وكَثُرَ فيهم الكُهَّان. يقول العلامة ابن خلدون: "اعلم إن من خواص النفس البشرية التشَوُّف إلى عواقب أمورهم، ومعرفة ما سيحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر، سيَّما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مُدَد الدول أو تفاوتها، والتطلُّعُ إلى هذا طبيعةٌ للبشر مجبولون عليها، ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام، والأخبار من الكهان لمَنْ قصدَهم بمثل ذلك من الملوك والسُّوقة معروفة... وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلَّع إليه الأمراء والملوك في آماد دولهم، وكل أمةٍ من الأمم يوجد لهم كلامٌ من كاهنٍ أو منجِّم أو وليٍّ في مِثل ذلك؛ من مُلكٍ يرتقبونه، أو دولةٍ يحدّثون أنفسهم بها..، وكان في العرب ،»... الكهان والعرّافون يرجعون إليهم في ذلك، وقد أخبروا بما سيكون للعرب من المُلك والدولة ثم ذكر تأويلَ شِقّ وسَطيح رؤيا ربيعة بن نصر، وتأويلَ سطيح رؤيا الموبذان (15).
عجائب الكهانة عند العرب في الجاهلية:
وهى أمور كانت العرب عليها في الجاهلية، بعضها يجرى مجرى الديانات وبعضها يجرى مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجرى مجرى الخرافات، وجاء الإسلام بإبطالها، وهى عدة أمور من أهمها "الكهانة" وكان موضوعها عندهم الإخبار عن أمور غيبية بواسطة استراق الشياطين السمع من السماء، وإلقاء ما يستمعونه من الغيبيات إليهم. وقد كان في العرب قبل البعثة عدة كَهَنَة تعتمد العرب كلامهم، ويرجعون إلى حكمهم فيما يخبرون به. ومن عجيب أخبارهم في هذا الشأن:
خبر هند بنت عتبة بن ربيعة: كانت "هند بنت عتبة" عند "الفاكه بن المغيرة المخزومي" وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلى ذلك البيت يومًا واضطجع الفاكه وهند وقت القائلة، ثم خرج الفاكه في بعض حاجاته، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة ولى هاربًا، فأبصره الفاكه وهو خارج مهرولاً من البيت فأقبل إلى هند فضربها برجله وقال من هذا الذي كان عندك قالت: "ما كان عندي أحد وما انتبهت حتى أنبهتني"، قال: "الحقي بأبيكِ" وتكلم فيها الناس فقال لها أبوها: "يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فبيني نبأك فإن يكن الرجل عليك صادقًا دسست له من يقتله فينقطع عنك الفاكه وإن يك كاذبًا حاكمته إلى بعض كهان اليمن"، فحلفت له بما كانوا يحلفون به "أنه لكاذب عليها" فقال للفاكه: "يا هذا إنك رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن" فخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرجت معهم هند في نسوة معها فلما شارفوا البلاد قالوا نرد على الكاهن فتنكر حال هند وتغير وجهها فقال لها أبوها: "إني أرى ما بك من تنكر الحال وما ذاك إلا لمكروه عندك أفلا كان هذا قبل أن يشهد الناس مسيرنا" فقالت: "لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه ولكن أعرف أنكم تأتون بشرًا يُخطئ ويُصيب ولا آمن أن يسمني بسمة تكون علىَّ سُبةٌ في العرب" فقال: "إني أختبره من قبل أن ينظر في أمرك".. فَصَفَّر بفرسه حتى أدلى ثم أخذ حبة من بر فأدخلها في إحليله وأوكأ عليها بسير، فلما صبحوا عند الكاهن أكرمهم ونحر لهم فلما تغدوا قال له عتبة: "إنا قد جئناك في أمرٍ وإني قد خبأت لك خبيئًا أختبرك به فانظر ما هو" قال: "تمرة في كمرة" قال: "أريد أبيَن من هذا" قال: "حبةٌ من بُر في إحليل مهر" قال: "صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة" فجعل يدنو من إحداهن ويضرب كتفها، فدنا من هند وقال لها: "قومي غير وحشاء ولا زانية ولتلدن غلامًا يقال له معاوية"، فقام إليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده وقالت: "إليك، فوالله لأحرصن على أن يكون ذلك من غيرك" فتزوجها أبو سفيان بن حرب فولدت له معاوية، فكان من أمره ما كان إلى أن انتهت به الحال إلى الخلافة.
تفسير رؤية ملك اليمن "نصر بن ربيعة"، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم:
في إحدى الليالي؛ رأى ملك اليمن "نصر بن ربيعة" رؤيا أرعبته وأهمَّته وشعر أنها تدل على شيء مخيف، فلم يترك عرَّافًا ولا كاهنًا ولا منجمًا من أهل مملكته إلا وأتى به وأخبره الخبر، وعندما كانوا يسألون الملك عن تفاصيل الرؤيا حتى يخبروه بتأويلها، كان يقول إنه لا يمكنه الوثوق بتأويل الرؤيا إذا أخبرهم بها، فمن يعلم الرؤيا من دون ما يخبره بها، سيكون بلا شك عالم بتأويلها؛ فقالت له الناس: "عليك بشق وسطيح، فلا أحد أعلم منهما بهذا الأمر، فبعث إليهما".
فوصل سطيح قبل شق، فقال له الملك :"إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فإن أنت أصبتها أصبت تأويلها"، فقال له سطيح: "رأيت حمحمة، خرجت من ظلمة فأوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة"، ومعنى كلام سطيح أن الملك رأى جمرة من نار خرجت من أرض مظلمة بالقرب من البحر فوقعت بأرض منخفضة، فأكلت كل ذات روح، فقال له الملك: "ما أخطأت في شيء منها يا سطيح، فما عندك في تأويلها". فأخبره سطيح الكاهن أن تأويل هذه الرؤيا أنه سيهبط في أرضهم الحبش، ويملكون من أبين إلى جرش باليمن، فسأله الملك عن موعد تحقق ذلك، فأخبره أنه بعد ستين أو سبعين سنة، ثم سأله هل يدوم ملكهم، فأخبره أنه سينقطع، وسيخرجون منها هاربين، فسأله من سيقطع ملكهم، قال إرم بن ذي يزن، فسأله هل يدوم ملكه، فأخبره أنه سينقطع بنبي كريم من ولد فهر بن غالب بن مالك بن النضر، وأن الملك سيكون فيه لآخر الدهر. فسأله: "هل للدهر من آخر؟" فقال: "نعم، يوم يجمع الأول والآخر". وجاء شق فأخبر بمثل ما أخبر به سطيح الكاهن، مع اختلاف في الألفاظ، وطريقة التعبير، فتأكد الملك أن هذا هو التأويل الصحيح الرؤيا؛ وبالفعل فقد تحقق ما قاله سطيح وشق في هذه الرؤيا، وقد ذكر ابن هشام في غير موضع من سيرته تحقق كلامهما. ولمَّا بُعِثَ النبى صلى الله عليه وسلم حُرِسَت السماء، ومُنِعَت الشياطين من استراق السمع كما ورد بالقرآن الكريم: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) الجن- 9 (16).
الغراب والزجر والطيرة والعيافة:
الزَّجر في الأصل: المنع والنهي والانتهار، وزجرتُ البعير حتى ثار ومضى، وزجرتُ فلانًا عن السوء فانزجر، وهو كالردع للإنسان، وأمّا للبعير فهو كالحثّ بلفظ يكون زجرًا له، وقد نقل ابن منظور عن الليث قوله: " الزّجر أن تزجر طائرًا أو ظبيًا سانحًا أو بارحًا فتطَّيّر منه", ونقل عن الزَجَّاج قوله: "والزّجر للطير وغيرها التيمن بسنوحها والتشاؤم ببروحها".
العيافة: للعيافة معنيان؛ الأول كراهية الطعام والشراب، وعاف الرجل الطعام أو الشراب يعافه عيافًا أي كرهه فلم يشربه. والثاني حَوَمان الطائر في السماء وهو ما يعنينا هنا، قال الأزهري: "عاف الطير على الماء وغيره، يعيف عيفًا إذا حام عليه"، وعاف الطائر: حام في السماء. قال ابن منظور: "عافت الطير إذا كانت تحوم على الماء وعلى الجِيَف تَعيف عيفًا وتتردّد ولا تمضي تريد الوقوع فهي عائفة" (17).
وبوجه عام فإن الزجر والعيافة هي أن تعتبر بأسماء الطير ومساقطها وأنوائها، فتتفاءل أو تتشاءم، والعائف هو المتكهن بالطير أو غيره. (18)، فقد كان الواحد منهم إذا همَّ بأمر لجأ إلى طائر فزجره، أي أشار إليه مطاردًا، فإن طار إلى يمينه استبشر، وإن طار إلى يساره تشاءم وتوقع الضرر، وقد شاع في العرب زجر الطير والوحش، وإثارتها، فما تيامن منها سموه "سانحًا"، وما تياسر سموه "بارحًا"، وما استقبلهم سموه "الناطح"، وما جاء من الخلف سموه "القعيد"، ولم يكن التطير بالطيور كلها وإنَما غلب بعضها على بعض، فكان الغراب مثلاً مصدر ثراء للشعراء العرب في شكله وصوته، وصار رمزًا للشقاء والشؤم، ونذيرًا بالفراق والدمار وصورة للخيانة والغربة والاغتراب (19). يقول الجاحظ: "ليس في الأرض بارح، ولا نطيح، ولا قعي، ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه" (20).
أشكال الكهانة:
الكهانة بفتح الكاف أو كسرها هي "ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق الجني السمع من كلام الملائكة فيلقيه أذن الكاهن، وجاء في بلوغ الأرب أنها على أصناف:
1 - ما يتلقونه الكهنة من الجن: فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم أكتاف بعض إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع كلام الملائكة فيلقيه للذي يليه حتى يتلقاه الاخير فيلقيه في أذن الكاهن. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصًا في العرب لانقطاع النبوة فيهم، فلَمَّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرِسَت السماء من الشياطين وأُرسِلَت عليهم الشهُب، فبقى من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه للأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وعلى ذلك يشير قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) الصافات 10.
2 - ما يخبر به الجني من يواليه من الغيبيات التي لا يطلع عليها الإنسان غالبًا، أو يُطلِع عليه من قَرُبَ منه لا من بَعُدَ.
3 - ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوةً مع كثرة الكذب فيه.
4 - ومن هذا القسم الأخير ما يضاهى السحر وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم(21).
وقد ورد رأى ابن خلدون في مقدمته على المدركات الغيبية ومنها الكهانة، ومن فيها أنه قال: "وأما الكهانة فهي أيضًا من خواص النفس الانسانية وذلك أن للنفس الانسانية استعدادًا للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك ..." (22).
الهوامش:
(1) دكتور/ جواد علي، كتاب: تاريخ العرب قبل الإسلام – ج1، الناشر: جامعة بغداد، 1993م، ص261 وما بعدها.
(2) دكتور/ أحمد عبد المنعم حالو، كتاب: الزجر والعيافة والطيرة في الشعر الجاهلي، جامعة البعث، حمص بسوريا، بدون تاريخ، ص 420.
(3) حسين أسود، كتاب: الكُهّان الجاهليون وبشراهم بالنبوة، الناشر: لا يوجد، 2017م، ص 107.
(4) المبارك بن محمد الجزري بن الاثير مجد الدين أبو السعادات، كتاب: النهاية في غريب الحديث والأثر ج4، المكتبة العلمية – بيروت، 1979م، ص 214- 215.
(5) دكتور/ عماد الدين عبد الله طه الشنطي، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد الحادي والعشرون، العدد الأول، الناشر: كلية اصول الدين، غزة، يناير 2013، ص38.
(6) زكى شنودة، كتاب: المجتمع اليهودي، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، بدون تاريخ، ص127.
(7) حميدة عبد الرازق، كتاب: شياطين الشعراء، الناشر: مكتبة الانجلو المصرية للطبع والنشر، القاهرة، 1956م، ص82.
(8) حسن نعمة، كتاب: ميثولوجيا واساطير الشعوب القديمة، الناشر: دار الفكر اللبناني ببيروت، بدون تاريخ، ص 288.
(9) منير البعلبكي، معجم أعلام المورد، الناشر: دار العلم للملايين ببيروت، 1992م، ص 248.
(10) أبى جعفر محمد بن حبيب الهاشمي، كتاب: المَحبَرْ، الناشر: المكتب التجراري للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت، بدون تاريخ، ص 390.
(11) تقى الدين أبو العباس أحمد الحَرَّاني، المشهور بابن تيمية، كتاب: النبوءات، الناشر: عمادة للبحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 2000م، ص 1048.
(12) ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، كتاب: النهاية في غريب الحديث والأثر ج4، الناشر: المكتبة العلمية – بيروت، 1979م، ص 280.
(13) أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبري زادة، كتاب: مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم – ج3، الناشر: دار الكتب العلمية ببيروت، 1985م، ص 340.
(14) ياسين عبد الله جمول، كتاب: أسجاع الكُهَّان الجاهليين وأشعارهم، الناشر: جامعة دمشق – رسالة ماجستير، 2013م، ص 22- 25.
(15) المصدر رقم (1) الكُهَّان الجاهليون ...، ص 110.
(16) الشيخ أبى العباس أحمد القلقشندى، كتاب: صُبح الأعشى ج1، الناشر: دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1922م، ص 398، 399.
(17) دكتور/ أحمد عبد المنعم حالو، كتاب: الزجر والعيافة والطيرة في الشعر الجاهلي، مجلة: مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 86، ج2، بدون تاريخ، 421- 422.
(18) مجد الدين محمد بن يعقوب، كتاب: القاموس المحيط – ط8، الناشر: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بيروت، 2005م، مادة عيف.
(19) دكتور/ حسين جمعة، كتاب: الحيوان في الشعر الجاهلي، ط2، الناشر: دار مؤسسة رسلان للطباعة بدمشق، 2010م، ص 155.
(20) ابى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب: الحيوان – ج2، الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1965م، ص 316.
(21) السيد محمود شكري الألوسي البغدادي، كتاب: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب – ج 3: الناشر: دار الكتاب المصري – القاهرة، 2012م، ص 270.
(22) المصدر السابق، ص 271.
تغريد
اكتب تعليقك