هل المجتمعات البدائية في إفريقيا أكثر تحضرًا من المجتمعات الغربية؟الباب: مقالات الكتاب
د. أشرف فؤاد عثمان أدهم باحث في الحضارة الأفريقية ومقارنة الأديان |
كان يلفت نظري دائمًا تلك الأفكار والمعتقدات الغريبة والمتوارثة شفويًا من جيل إلى جيل بين أفراد القبائل بمنطقة غرب إفريقيا، ومدى تنوع صور الحياة الدينية الوثنية القديمة والحديثة فيها، وما يسودها من اعتقاد بالقُوَى الحيوية، وما يقترن بهذه المعتقدات من طقوس وممارسات خاصة، ومن مُحَرَّمات ووسائل تَطَهُّر، ومدى اعتقادهم بالترابط الوثيق بين الأحياء والأموات، وشيوع المعتقدات الوثنية بوجود قوُى حيوية لا تخص الإنسان الحي وحده، بل تَعُم الأموات أيضًا، وهي تَدور في الطبيعة بأجمعها فتسري فيها بين كل مخلوقاتها كأنها سيال كهربائي يربط بينها جميعًا. فهي طاقة مُوَزَّعة بين الحيوان والنبات وكل الأشياء التي تُعمر كافة أرجاء الطبيعة، وحتى الكائنات فيما وراء الطبيعة "كائنات غير مادية"..... وهذه القوى الحيوية وظيفتها أن تصون كيان الجسم الذي يحملها، فتتضح مظاهرها مثلاً لدى الإنسان في كافة أشكال الحياة كالحركة، والكلام، ...الخ وهي إما موقوتة فيه فيُعرَض له الموت، وإمَّا دائمة فَيُكتَب له الخلود تبعًا لمعتقداتهم.
كما تعتقد بعض القبائل أن أرواح المَوتى مَرهوبة الجانب بشدة، وأن السحرة يتصلون بها ويخاطبونها. والبعض يَزعُم أن من هذه الأرواح ما يُصبِح مُفترسًا، لذلك يُقَدِّمون القرابين لجثة الميت عندما تُحمَل إلى مثواها الأخير، لاعتقادهم بتعدد الانفُس، كما يعتقدون بأن الاضطرابات العقلية التي قد تُصيب أحد الأشخاص بالقبيلة إنما ترجع إلى تنافس روحين للحلول في جسده. فتعتقد بعض القبائل الكينية كقبيلتي كيكيو، ولوهيا أن لكل شخص نفسين تنفصل إحداهما عن الجسد عند الموت لتنضم إلى نفوس أسلافها، والأخرى نفسٌ جماعية، وهي جزء من روح الأسرة التي تحل في جسد أحد أعضائها بصفة موقوتة إلى أن تحل فيما بعد في جسم مولود جديد في هذه الأسرة. كما وُجِدَ أن الزنوج في حوض نهر الكونغو – قبائل البانتو- لا يُفرِقون بين الطبيعة، وما وراء الطبيعة، فالكون عندهم وحدة واحدة لا تتجزأ، وهذا ما يُضفي على معتقداتهم الوثنية سمات الجمال والشاعرية، بدلاً من أن يحصروا كل اهتمامهم في نفع الإنسانية وحدها وإهمال كل ما دونها، فهم لا يميزون بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، ولا بين المادة والروح، لأنهم يؤمنون بأن القوى الحيوية الكونية تسري في الخليقة بأجمعها.
وعلى الرغم من تغلغل الإسلام في هذه القبائل، منذ نهاية القرن السابع عشر، والمسيحية في بدايات القرن التاسع عشر، إلا أنَّ آثار هذه الديانات الوثنية لا تزال راسخة في أفكارهم، خاصةً كبار السن منهم، ومستمرة في التأثير على المجتمع من خلال بعض الممارسات الدينية سواء لمعتنقي الإسلام أو المسيحية على حدٍ سواء، كما هو واضح جليًا في العديد من الشعوب البدائية والتي لا تزال تتمسك بالماضي، كالدوجونيين في مالي، أو شعب يوروبا في دولة بنين، وقبائل الإيوى في توجو، وغيرهم، والذين يعتقدون بضرورة التمسك بالتواصل مع القوى الروحية الموجودة في الطبيعة سواء في الكائنات الحية وأحيانًا غير الحية كالجبال، والأحجار الغريبة الشكل وما شابه ذلك للحفاظ على نظام حياتهم واستقرارها، وضمان ازدهارها. ولا يزال في أعماقهم أيضًا بعض المعتقدات القديمة، بأنه رغم وجود يد الله العليا والمهيمنة على الكون، إلا إنهم يعتقدون بوجود آلهة الطبيعة التي تؤثر على حياتهم بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل آلهة الماء، والأرض، والبراكين، والزلازل، والصخور، والأمراض، ...ألخ، والتي تنبثق من الإله الأعظم، وهم يلجؤون إلى هذه الآلهة للحماية، واستمرار الحياة في سلام، باعتبارها وسيلة الاتصال المباشرة بينهم وبين هذا الإله الأعظم والذي يعتبرونه بعيدًا جدًا عنهم لا يستطيعون الاتصال به بشكل مباشر. كما يعتقدون بوجود علاقة قوية بين هذه الآلهة وأرواح الأسلاف المتوفيين، خاصة من كانوا على خُلق ومكانةً عالية في القبيلة في حياتهم، وهم يحاولون التقرب دائمًا إلى هذه القوى المتصلة ببعضها سواءً بالرقص بالأقنعة، أو نحت التماثيل لها وتعظيمها، أو عزف الموسيقى في طقوس دينية والتي لا تزال تُمارَس في بعض القبائل بغرب ووسط إفريقيا حتى الآن. كما يعتقدون بالنسبة لأرواح الموتى أن أرواحهم تبقى مستقرة في عالم الروح في مكان بين الجنة والنار، وتتصل أحيانًا بعالم الأحياء، لتقوم بدور الوسيط بين الأحياء وآلهة الطبيعة.
وأود أن أوضح أهمية هذا المقال "من وجهة نظري" والتي تعتبر أن دراسة الأديان من الضرورات التي لا جدال في أهميتها، خصوصًا في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وأصبح التواصل والحوار مع الأخر ضرورة ملحة، وبالتالي أصبحت معرفة دين الآخر واحترام معتقداته مهما كانت تخالف معتقداتي من ضرورات الحياة بسلام ووفاق. فالأديان تشكل المكون الأساسي من ميراث الإنسانية الثقافي والحضاري، ومن ثَمَّ فإنه لا يمكن فهم الحضارات والثقافات المعاصرة وقيمها ومفاهيمها ومواقفها إلا إذا فهمنا الأديان التي تنتمي إليها، لأن الدين هو أحد المحركات الرئيسية للجنس البشري. وقد صار التفاهم المشترك والتعايش السلمي بين شعوب القرية الكونية أمرًا في غاية الأهمية، ليعيش الجميع بسلام وأمان. هذا بالإضافة إلى أمكانية نشر مفاهيم الإسلام السمحة والبسيطة بين هذه الشعوب البدائية، وتنقية الإسلام في القبائل التي دخلها الإسلام بالفعل مما يشوبه من بعض الموروثات الثقافية والدينية الوثنية، والتي لاتزال موجودة في بعض الشعوب بغرب إفريقيا حتى الآن. كما نؤكد أيضًا على أهمية دراسة هذا الموضوع من حيث أن تراث القبائل الافريقية التقليدية يُعتبر من التراث الشفهي الغير مُسجَّل، باعتبار أن هذه الشعوب البدائية تتوارث المعتقدات الدينية والثقافية شفهيًا، على أساس أن لغتهم للتحدث فقط وليست للكتابة، مما يؤكد على ضرورة حمايتها كتراث إنساني من الضياع.
وتهدف النظريات الأنثروبولوجية الحديثة إلى تقسيم الظواهر الاجتماعية والبيولوجية للشعوب بإعتبار أن الارتقاء يكون دائمًا بشكل خط مستقيم من الأدنى إلى الأعلى، وبصيغةٍ أخرى من البدائية إلى الرقي والتحضر، وقد كان للفيلسوف الإنجليزي "هربرت سبنسر" أثر مباشر لظهور مذاهب التطور والارتقاء في مجال الأنثروبولوجيا بصورة أكثر عدالةً ومصداقية بين الشعوب. فقبل ظهور كتاب "داروين" في أصل الأنواع وإحداثه ثورة في علم البيولوجيا، قال "سبنسر" بالتطور على أنه المبدأ الذي يحكم التغير، ويقول في هذا الشأن: "إن التحرك من البسيط إلى المركب، عبر عملية متسلسلة من التغير المتتابع، ويمكن ملاحظته في تطور الإنسانية فيما لا يحصى من النواتج الفكرية والمادية للنشاط الإنساني". وبعد أن نشر داروين نظريته في أصل الأنواع، دخل المفهوم التطوري في صلب التفكير للإنسان الحديث ونظرته إلى الأمور، وصرنا ننظر إلى كل ماهو قديم باعتباره الأدنى في سلم التقدم، وإلى كل ما هو حديث باعتباره الأعلى في سلم التطور الصاعد، والذي ساهم في تأكيد مفهوم الأدنى والأعلى وتلك الرسوم البيانية النشوئية الخاصة بتطور الأنواع والتي ابتدرها داروين، حيث تُرسَم الأشكال الأقدم في الجزء الأدنى من الرسم، والأشكال الأحدث في الجزء الأعلى منه. وبذلك استقر في تفكيرنا تدريجيًا أن القديم هو الأدنى والحديث هو الأعلى. وترافق ذلك، كما هو متوقع مع حكم قيمي يربط الأدنى في سلم التطور بالتدني، أي ما هو أسواء، ويربط الأعلى بالسمو، أي ما هو أفضل. كما توسع مفهوم التدني ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخلقية، فضلاً عن الناحية البيولوجية. ومما سبق يعتبر "انسان نياندرتال"، و"الأسترالي الأصلي"، أحط من الناحيتين الثقافية والبيولوجية من الإنسان الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور. وهي الصورة التي يرسمها عادة علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية لشجرة نسب الإنسان من الاسلاف القرديين وتتموضع عليها صعودًا المجموعات المختلفة من الرئيسيات، ويكون الإنسان الأبيض كآخر وأعلى فروع الرسم البياني، بينما تظهر الأجناس الأخرى وهي تتفرع من المناطق الدنيا "طبقًا لنظرية داروين"....
وقد قادت المفاهيم السابقة للتطور إلى تأكيد مصطلح "البدائي" باعتباره الإنسان الذي عاش في "بداية" عملية النشوء والارتقاء، والذي يمثله إنسان القبائل البدائية، الذي يعتبره علماء التطور أقرب إلى الإنسان الأول في عصوره الحجرية، واعتبرت ثقافته بمثابة بقايا متحجرة من الثقافات الابتدائية الأصلية. وصار الحديث عن "الدين البدائي"، و"الأخلاق البدائية"، و"المجتمعات البدائية" باعتبارها مفاهيم متدنية للإنسان. وهو حُكم غير دقيق.
ومما لا شك فيه أن السهم الذي يُطلق من أنبوبة النفخ لصيد الفرائس أكثر بدائية من السهم الذي يُطلق بواسطة القوس والوتر، وأن المحراث أكثر بدائية من الجرارات التي تحرث الأرض للزراعة. ولكن من يستطيع القول أن "الحكم الاستبدادي" الذي ساد في "الحضارات الكبرى" أكثر تطورًا من الحكم القَبَلي القائم على الحرية والاحترام الشديد للكبار، وحتى احترام حياة الحيوان حتى أن صيادي الغزال على سبيل المثال في قبائل البوشمن يعتذر للحيوان قبل أن يذبحه متعللاً بأن أسرته في حاجه شديدة للطعام، ومن يقول أن معتقداتهم بأن كل ما خلقة الله هو ملك للجميع بدون أي تنافس على الموارد المتاحة هي أفكار بدائية متخلفة؟؟، وفي المقابل من يقول أن الحضارات المتأخرة ذات الحكم الاستبدادي والتي يمتلئ تاريخها بالاضطهاد والتعذيب والقتل لمن يختلف معهم في الفكر والرأي والدين، ناهيك عن الحروب الشاملة بين كافة الحضارات والتي استمرت سنوات طويلة، وما سببته من دمار وخراب للإنسانية !!! من يقول ان هذه الشعوب أكثر تطورًا من الشعوب البدائية وأديانها البدائية التي تسمح بالتسامح والقبول بحرية الأديان بين جميع القبائل، بل والاحترام الشديد لديانات ومعتقدات الآخرين، ناهيك عن الاحترام والتقدير لدور المرأة كأم وزوجة....
ونستخلص مما سبق أن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورًا في النواحي التكنولوجية ولكنها أكثر تطورًا فب نواحي أخرى عن المجتمعات المتقدمة. فالبدو في الصحاري الرملية والاسكيمو في الصحاري الجليدية هم أكثر ودًا، وإخلاصًا، وتعاونًا، واحترامًا لفكر ومعتقدات الآخرين مقارنةً بالمجتمعات المتقدمة. ولقد قادت المراجعة الشاملة للمفاهيم القديمة حول "البدائية" إلى ظهور جيل جديد من الأنثروبولوجيين أخذ يرى بوضوح خلال القرن العشرين، أن المجتمعات التي ندعوها "البدائية" ليست مرحلة طفولية من مراحل التطور كما هو شائع، بل إنها شكل كامل من أشكال الحياة الإنسانية الناضجة. ويقول الأنثروبولوجى البارز "آشلي مونتاجيو": "عن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الثقافات البدائية هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيًا مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافتراض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بنفس المقدار أيضًا، وهذا مقياس غير عادل.
فعندما اكتشفت المنحوتات البرونزية النيجيرية الرائعة لشعب النوك مثلاً، وغيرهم، قال البعض أنها لا يمكن أن تكون من صنع الزنوج، ولكنها من صنع فنانين ذو خيال راق رفيع المستوى وعبقرية متميزة".
كما يأتينا البرهان على رقي نواح معينة من ثقافات العصر الحجري الموصوف بالبدائية، وهو رقى يدفعنا إلى مقارنته بنظائرها في حضارتنا الحديثة. فيقول عالم الأنثروبولوجى البريطاني "آشلي مونتاغيو" أيضًا في هذا الشأن: "فإنسان ما قبل التاريخ في العصر الحجري القديم، كان قادرًا على إنجاز أمور عجز غيره منذ ذلك الحين التفوق عليه فيها..."، ومن الأمثلة البارزة على ذلك فنون العصر الحجري التي قال عنها الأديب والفيلسوف الإنجليزي السير "هربرت ريد": "إن أفضـل رسومات الكهوف بالتاميرا بإسبانيا ولاسـكو بفرنسا، وكهوف الطاسيلي بشمال الصحراء الإفريقية جنوب الجزائر والتي تكشف عن مهارة لا تقل عن مهارة الرسام الإيطالي العظيم "بيزانيلو"، أو الرسام والنحات العبقري الإسباني "بابلو بيكاسـو"، وبالإضافة إلى المهارة الفنية فإن أعمالهم تُظهر قدرًا كبيرًا من الحيوية وقوة التعبير، قل أن نجد نظيرها في العصور الحديثة....
ولا شك أن الأفراد القادرين على تطبيق مثل تلك المهارات كانوا يتميزون بدرجة عالية من الذكاء لا تقل عن تلك التي يمتلكها الإنسان المتمدن المعاصر. ولما كانت كلمة "بدائي" لا تؤدي إلى طمس هذه الحقيقة فحسب، بل إلى حجب قُدرتنا على فهم المغزى الحقيقي للوقائع، فإن علينا التحلي بأقصى درجات الحيطة إذا أردنا استخدامها. كما يذكر أحد الباحثين في فنون الشعوب البدائية وهو "أندرياس لوميل": "إن تفسير تلك النوعية المتقدمة لفن الكهوف هو أمر يتأبى علينا .... فإذا كان الإنسان البدائي قادرًا على انتاج مثل هذه الأعمال الفنية الرفيعة المستوى، والبعيدة عن البساطة، بما توافر لديه من أدوات حجرية وعظمية بسيطة، فإن هذا الإنسان لم يكن بدائيًا بالمعنى الفني والفكري، بل لابد أنه وصل في هذه المجالات إلى ذروة لم يتم تجاوزها منذ ذلك الوقت". وهذا ما يقودنا غلى القول، بأن التطور الفني والعقلي لا يتماشى بالضرورة مع التطور المادي للحضارة. ولا شك بأن قبولنا بهذا الرأي، من شأنه تغيير نظرتنا السائدة إلى التطور الإنساني باعتباره خطًا صاعدًا في طريق مستقيم.
ولقد أدت هذه الرؤية الجديدة لمعنى "البدائية" إلى إعادة النظر في هذا المصطلح، ومحاولة استبداله بمصطلح بديل لا يوحى بفكرة التدني من ناحية التطور، فاقترح بعض الباحثين مصطلح "الشعوب" أو الجماعات "اللاكتابية" بدلاً من "الجماعات البدائية، وهناك مصطلح استخدمه مؤرخ الأديان الروماني "ميرتشا إلياد" الذي استبدل كلمة البدائي بالتقليدي باعتبارها مجتمعات بطيئة التغير بالمقارنة بالمجتمعات الإنسانية الأخرى حيث أنها مجتمعات محافظة إلى حد بعيد، وتتمسك بتقاليد وثقافات الآباء والأجداد.
وبالنسبة للديانات الإفريقية التقليدية فهي ليست أبدًا ديانات بدائية، لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها من الأديان. إنها ثمرة تفكير استمر قرونًا مديدة، ونتاج لتجارب الكثيرين منهم من خلال مواجهتهم وجهًا لوجه مع قوى الطبيعة.
تغريد
اكتب تعليقك