مهزلة روبوت المحادثة شات جي بي تي (ChatGPT)الباب: مقالات الكتاب
عبد السلام اليوسفي المغرب |
الفيلسوف الفرنسي غيوم فان دير وايد*
(Guillaume Von Der Weid)
ترجمة: عبد السلام اليوسفي
يسيل روبوت المحادثة شات جي بي تي (ChatGPT)، الأحدث في مجال الذكاء الاصطناعي، الكثير من الحبر، وبخاصة حبر تلك الصحف التي ينذر بموتها من خلال قدرته على توفير حلول لجميع المشكلات، والتعليق عليها، والاضطلاع بالعمل الذي يناط بالصحافة، في الوقت نفسه.
يستطيع هذا البرنامج، الذي يشبه كاتدرائية من الخوارزميات، التي شيدت بإسمنت معلومات شبكة الإنترنيت الشاملة، أن يستوعب الأسئلة التي تطرح عليه ويصوغ الأجوبة وفقًا لمعايير المحادثة، وبفقرات منطوقة تعبر كل منها عن فكرة، وتتناول تباعًا الأوجه المختلفة لسؤال، ليخلص، باستخدام السخرية أحيانًا، إلى استنتاجات دقيقة.
إنها لتجربة رائعة أن نرى آلة، أي جزءًا من مادة، تشرح لنا ما يجب أن نفكر فيه. قال الفيلسوف بليز باسكال (Blaise Pascal): "عندما يسحق الكون الإنسان، سيكون الإنسان أكثر نبلاً من ساحقه، لأنه يدرك نهايته وميزة الكون عليه، في حين أن الكون لا يعرف شيئًا عن هذه الميزة". يسحق روبوت المحادثة (ChatGPT) الإنسان شارحًا له السبب.
ولكن من شأن هذا الأمر أن يخلط بين المعلومة والمعرفة. ليست المعرفة هي امتلاك معلومات عن العالم فحسب، كأن نعرف مثلاً اسم عاصمة البرازيل أو آلية الهضم أو أسباب اندلاع الحرب في أوكرانيا أو سرعة الضوء، بل هي امتلاك فكرة عن السبب وراء طرح مثل هذه الأسئلة، أي تصور وجود حقيقة نهائية أو لغز كامل، تكون الأسئلة الخاصة داخله قطعًا تسمح لنا بفهم العالم في مبادئه.
المعرفة، بتعبير آخر، ليست "بيروقراطية المظهر" حسب إتيان كلاين (Étienne Klein): فهي لا تعني جعل المعلومة مفهومة فقط، ولكن تعني صوغ فرضيات حول اللغز نفسه، وطبيعة الحقيقة، وبالتالي، التخيل بدل التوليف والإبداع بدل التعميم.
خدع معلوماتية
هذا الالتباس له سبب وقوة دافعة: السبب هو ظهور الآلات التي يتهيأ لنا أنها تنتج أفكارًا في حين أنها لا تقوم إلا بإجراء عمليات حسابية وفقا للمعايير التي نضعها لها نحن - على طريقة التولد الذاتي الذي ادعى القائلون به، قبل اكتشاف باستور للميكروبات، بأن الحياة نشأت في أوعية احتوتها سلفًا بطريقة خفية. وهكذا، فإن "ذكاء" أجوبة روبوت المحادثة ChatGPT موجود سلفًا في خوارزمياته المصغرة. هل يقال عن السبورة إنها ذكية لأن معادلة رياضية كتبت عليها بالطباشير؟
سيقال إن الذكاء الاصطناعي أنتج المعادلة من تلقاء نفسه، عن طريق التركيب بين البيانات الرياضية التي لا يمكن لنا استنتاج شيء منها. إن هذا الاستخراج للحقائق المخفية، بالتحديد، هو الذي يؤسس الادعاء بذكاء أجهزتنا المعلوماتية. اللهم إذا كان الأمر هنا يتعلق فقط بدمج البيانات، وليس إنتاج الأفكار، أي التفكير حول ماهية تلك البيانات.
إن عزو القدرة على التفكير إلى هذا الشكل الحاسب له أيضًا قوة دافعة: النزعة التجسيمية (l’anthropomorphisme) التي تخلع صفات بشرية على ما يدق خفاه عن الفهم. يبدو لنا أن هذه الآلات تتمتع بالقدرة الخيميائية على تحويل المعلومات إلى معرفة. وبما أننا نجهل مبدأ اشتغالها، نقوم بإسقاط أفكارنا عليها، كما كنا، في عصر آخر، نسقط النوايا الإلهية على الظواهر الطبيعية الغامضة.
وهذه مهزلة شجع عليها تجسيم إجابة روبوت المحادثة ChatGPT. لأن الجدة التي أتى بها هذا البرنامج لا تكمن في توليف المحتوى، وهو ما كنا نجيد بالفعل القيام به، بقدر ما هي في تقديم الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه "بلغة طبيعية". عين الله ناظرة إلينا من خلال سر الطبيعة، وذكاء الخدعة من خلال محاكاة الكلام البشري.
الذكاء الاصطناعي: اسم لغير مسمى
تخيل بورخيس مكتبة تحتوي على جميع الكتب الممكنة، من خلال القيام بتركيبات عشوائية وشاملة بين جميع الكلمات والعبارات الممكنة. وبالتالي، لن يملك الكاتب إلا اختيار "كتابه" من بين كمية الكتب القابلة للكتابة. وبالمثل، ليست لعبة الشطرنج سوى اختيار، عند كل تفرع للنقلات، لعبة واحدة من بين العديد من اللعبات الممكنة. دعنا نذهب إلى أبعد من ذلك: أليست حياتنا كلها اختيار نمط حياة حقيقية بين جميع أنماط الحياة الممكنة؟ وفي كلية الممكن المكتوب سلفًا، ألا يظهر لنا روبوت المحادثة ChatGPT أفضلها؟
نصادف الالتباس هنا مرة أخرى. إننا نخلط الشيء بعلته، والعلامة بالفكرة التي تحيل عليها، واللحظات الماضية بفسحة الإبداع داخلها. إلا أن المهم في الكتاب ليست الحروف التي كتب بها، بل الأفكار التي تولدها الحروف فينا، لأنها تصدر عنها. هذا ما يميز دليل المستخدم الذي يصف اشتغال الآلة، أو الكتاب، الذي لا تشير كلماته إلى عدد صغير من العمليات الواضحة، ولكن إلى الأفكار التي هي دائمًا عبارة عن تكييف لحقيقة مطلقة تتجاوز الوجود المادي، وحيث تلامس المعرفة البعد الروحاني. أعظم الكتب، التي تكاد قيمتها الإخبارية لا تذكر، هي بالتحديد تلك التي تقودنا حركتها نحو المطلق. بيد أن هذا المطلق هو هدف، وليس توليفة لما هو معروف بالفعل.
لهذا السبب فإن الذكاء الاصطناعي هو اسم على غير مسمى. وكي نوفر الحبر، ونتجنب الشعور بالقلق من أن نزهد في الكتابة، يجب أن نتحدث عن الخدع الذكية، وهو تعبير يشدد على مادية الجهاز أكثر من الذكاء الذي ينبع منه. مادية بلا حياة، وبالتالي بلا هدف، قادرة فقط على الاستفادة المثلى من كتلة المعلومات الهائلة. "لا يمكن أن يكون المستقبل ماضيًا مُحَسَّنًا، ولا الذكاء اجترارًا بلا نهاية لما أنتجه بنفسه". ويظل كل شيء في حاجة للكتابة.
الهوامش:
* غيوم فان دير وايد؛ أستاذ الفلسفة ومستشار استراتيجي سابق للبنوك وشركات التأمين، حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة باريس 1 بانثيون- سوربون (Panthéon-Sorbonne) (1994-1997)، ودرجة الماجستير في البحث والتدريس من معهد الدراسات السياسية بباريس Sciences Po 1998-2000.
المصدر:
https://www.nouvelobs.com/opinions/20230219.OBS69747/pourquoi-chatgpt-est-une-mascarade.html
تغريد
اكتب تعليقك