التنبؤ بمتاهات الأمة رواية (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ نموذجًاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 18:55:42

د. أحمد الزعبي

قسم اللغة العربية وآدابها، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ جامعة الإمارات العربية المتحدة

رواية (ثرثرة فوق النيل) علامة فارقة في روايات نجيب محفوظ في أسلوبها وبنائها وقضاياها. فبدت في ظاهرها عبثية مراوغة: كتابة وفكرًا، ولكنها كانت جادة ملتزمة في إيحاءاتها ودلالاتها وسيميائياتها، كما سنرى عند التحليل.

ربما تكون «ثرثرة فوق النيل» من أعمق الروايات العربية المعاصرة طرحًا للقضايا الفلسفية التي تلح بأسئلتها وألغازها على ذهن الإنسان المعاصر. وتجسد الرواية الإحساس العميق بالعبث والاغتراب وانعدام المعنى أو القيم الروحية أو الإنسانية في هذا العصر المتناقض. فشخصيات أو أبطال الرواية الضائعون «المسطولون» المعزولون عن العالم في عوامتهم في عرض البحث، يعانون العبث والقرف والاغتراب واللايقين، إذ يتجمعون في هذه العوامة في أعماق نهر النيل ويغرقون في الخمرة والحشيش والنقاش الفلسفي والوجودي، انطلاقًا من واقعهم المأساوي وانتهاء بمآسي الإنسان في كل مكان وفي كل عصر. فكل الإشارات والدلالات في عالم الرواية تنتهي إلى رؤية كاشفة تتلخص في أن أمة بلا وعي هي أمة ضائعة.. وأن شخصيات غائبة عن الوجود والواقع لن تفلح ولن تنجح... وطبعًا نحن فهمنا ما يقصده نجيب محفوظ بعد هزيمة 1967وأعدنا قراءة الرواية التي نشرت قبل الحرب بأشهر قليلة (1966) لندرك أن الروائي قال لنا ماالذي سيحدث ... وكشف لنا عن المستقبل المفجع من خلال الحاضر المتهاوي...ولكن كان الأوان قد فات ومات.

ولتعزيز فكرة الرؤية الكاشفة لدى الكاتب المفكر، فإن نجيب محفوظ نفسه ... وبعد سبع سنوات فقط (في عام 1973)، أي قبل انتصار أكتوبر بقليل، وفي إحدى مسرحياته القصيرة بعنوان (المطاردة) في مجموعته القصصية (الجريمة) المنشورة عام 1973.. قبل الحرب بقليل) قال: (كيف فاتنا طيلة هذا العمر أن نبادر نحن بمهاجمة العدو (... بالتأكيد كنا سندحره...وهو ما حدث فعلا حرب 1973...حين بادرنا المحتل بالهجوم وهزمناه. وتلك هي قراءة الكاتب الواعية للعالم وللواقع من حوله التي تفضي لاستشراف المستقبل واستكشافه قبل وصوله.

وتجسد «ثرثرة» الشخصيات في هذا المكان المظلم المعزول، ظلمة الإنسان المعاصر وانعزاله وغربته عن نفسه وعن العالم المحيط به، كما تطرح هذه «الثرثرة» أسئلة وجودية ساخرة تعكس أزمة الإنسان المعاصر فكريًا ونفسيًا وروحيًا، والاقتباسات التالية من الرواية تمثل جزءًا من «الثرثرات» الساخرة العميقة المريرة:

«لم يكن عجيبًا أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقًا بأنه آله»

«الجد الهزل اسمان لشيء واحد».

«كل شيء يهون إلا جريمة القتل».

«لا علاقة بين شيء وشيء».

ثم يقول آخر:

«خطوة خطوة، لقد بدأ الإنسان بأظافرة وانتهى بالصاروخ، لفوا لها سيجارة»، «نحن لا ننتمي لشيء إلا هذه العوامة».

ثم يجري هذا الحوار الساخر:

«- أتساءل عادة لماذا أحيا

- عال، وبماذا تجيب؟

- انسطل عادة قبل أن أجد الفرصة».

وحوار آخر:

«- ما اسمك الكامل: أنيس زكي، ابن آدم وحواء

- وظيفتك: بروموثيوس مسطولاً».

وهكذا تستمر الحوارات والإيحاءات العميقة الساخرة في ثنايا الرواية كلها لتعكس معاناة الإنسان المعاصر وضياعه وانهياره في عصر غائم «مخمور» معتم، إنسانه مطحون مسحوق غريب.

وتسيطر فكرة الموت واللامعنى على عالم الشخصيات وأعماقها وذهنها، وهي أكثر الإشكالات الفلسفية التي تدفع الشخصيات إلى اليأس والعبث، فإذا لاحت أية بارقة أمل لدى إحدى هذه الشخصيات بالتغير أو الانتماء لذات مرة، فإن مجرد ذكر الموت وحضوره الدائم المباغت يدفع الشخصية إلى العبث والإحباط مرة أخرى. وقد دار الحديث و«الثرثرة» بين الشخصيات في مرات عديدة حول فاجعة الموت التي لا تقاوم ولا يفر منها أحد يقول أحدهم: «هل أخبرتهاـ أي الصحفيةـ إن الذي يجمعنا هنا هو الموت»، فلا أحد يعرف الآخر في هذه العوامة (أو العالم)، فالموت يجمعهم معًا، إذ لا علاقة اليوم بين شيء وشيء «ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان»، يقول آخر «إذ أن الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة»، و«ثمة موت يدرك وأنت حي»، وهكذا تسيطر فكرة الموت على عالم الشخصيات وتهدد أمنهم واستقرارهم حتى يغرقوا في حالة «الموت وهم أحياء» ويعانوا الأرق والقلق والموت قبل حدوثه.

وتطرح الرواية فكرة الموت وعبثية الأشياء كمصدر تهديد دائم للإنسان، فالموت قادم لا مفرّ، في أية لحظة وأي مكان ولكنه لا يعرف أين ومتى، إنه مأساة لا يمكن تجنبها أو تفاديها، والموت يسهم إسهامًا فعليًا في تنغيص حياة هذه الشخصيات وصنع مشاعر الشقاء واليأس والعبث واللامبالاة في هذه الحياة المؤقتة التي قد تمضي في غمضة عين.

وحياة الشخصيات في الرواية، حياة ضائعة لا معنى لها ولا مسؤولية فيها. مثل هذه الحياة لابد أن تمضي إلى هوة سحيقة وإلى نهاية مأساوية، كما يعتقد الكاتب، لذلك ينهي نجيب محفوظ هذه المرحلة العبثية وهذا الضياع الكامل في حياة شخوصه بجريمة يرتكبونها في أثناء عودتهم في آخر الليل بسيارتهم وهم بلا وعي أو إدراك بسبب المشروب وتدخين الحشيش. وتفر المجموعة بعد الحادث تاركة وراءها جثة تنزف خشية انكشاف أمرها وتعرضها للعقاب.

وتشكل حادثة الموت أو القتل في الرواية، المصير المأساوي الذي لابد أن تؤدي إليه طبيعة حياة تلك الشخصيات الضائعة. والكاتب هنا يوظف حدث الموت ليشير إلى أن هذه الحياة العدمية اللامسؤولة لابد أن تقود إلى العبث والقتل ودمار المجتمع.

وبشكل أشمل، فإن الكاتب يشير إلى أن العالم المعاصر أو الإنسان المعاصر الذي يمضي بلا قيم ولا مثل ولا أهداف، لا بد أن يسقط في هوة سحيقة ويؤول إلى مصير مظلم يكون الموت والدمار والمأساة محطته الأخيرة.

وعلى الصعيد الداخلي في مصر فإن الرواية تجسد حالات اليأس والخوف والإحباط التي سيطرت على المجتمع بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية القاسية ودفعت بكثير من الناس إلى الانهيار والاغتراب «والانسطال». فلم تكن الثورة بمستوى الطموحات التي توقعها المجتمع، وبقيت كثير من المشاكل الاجتماعية والفكرية والسياسية كالفقر ومصادرة الرأي والقمع والتعذيب، بقيت قائمة، تدفع الناس إلى الضياع والسقوط الذي يجسده الكاتب في هذه الرواية.

أما على الصعيد الإنساني، فإن «ثرثرة فوق النيل» تطرح الموقف العبثي أو «اللامعقول» للوجود الإنساني، الذي شاع في كتابات اللامعقول بعد الحرب الثانية. يقول أحد النقاد:

«ومن الواضح أن نجيب محفوظ في (ثرثرة فوق النيل) قد تأثر بفلسفة كامو حول الاغتراب والعبث».

فكل شخصيات الرواية من الطبقة المثقفة المتعلمة، لكن خيبة أملها وفشلها في التعامل مع الواقع أو قبول الحالة المزرية المنهارة للإنسان المعاصر المحاصر بالشك والحرب والضياع وانعدام القيم قد دفعها إلى وضع عدمي هدمي في آخر الأمر.

فالإنسان، كما تطرح الرواية، ما دام منسلخًا عن واقعة يائسًا مضطهدًا مغرّبًا فاقدًا ابسط القيم والحقول الإنسانية، فإنه سائر لابد نحو الدمار والجريمة، دمار نفسه وغيره. وحادثة الموت التي يختتم بها الكاتب حياة شخصياته العابثة، هي تجسيد رامز لهذا المصير المأساوي، وكأن محفوظ يحذر الإنسان المعاصر وينبهه إلى المصير المرعب الذي يسير إليه العالم اليوم أو الذي ينتظره، لكي ينقذ ما يمكنه إنقاذه ويصلح ما يمكنه إصلاحه قبل أن يفوت الوقت ويدمر الإنسان نفسه بحرب ثالثة مثلاً أو أسلحة فتاكة لا تبقي ولا تذر. ويتم ذلك بالاستفادة من أخطاء الماضي والحاضر وجرائمهما، يقول أحدهم:

- علينا أن ننسى الماضي.

- كيف ننسى الماضي ووراءنا قتيل.

حيث يشير المؤلف إلى أن المأساة ستستمر ما لم يوضع لها حلّ حقيقي.

إن الموت بمعناه الفلسفي لا يتعارض مع الحياة في «ثرثرة فوق النيل»، إنه جزء هام وواقع لا مفرّ منه وميزة من ميزات الحياة الإنسانية، إذْ يُحدث فيها معادلات متوازنة عديدة، لا يمكن تحقيقها لو لم يكن هناك موت أو نهاية لكل حي. فعلى ما في الموت من حسّ مأساوي ونهاية مفجعة، إلا أنه يعطي للوجود استمراره وللحياة قيمتها وأهميتها. وهذا ما كان يدور في النقاش الفلسفي في العوامة حول فكرتي الموت والحياة. والوجود والعدم، «فالجد والهزل إسمان لشيء واحد» كما تقول إحدى الشخصيات.

لكن فكرة الموت تختلف عندما تنتقل من الجدل الفلسفي إلى الواقع الفعلي، كما يرى المؤلف، فعندما حدثت حادثة الموت في الحقيقة، تلاشت الفلسفات والنظريات حول مسألة الموت، ولم تعد «غير متعارضة» مع الحياة كما كانوا يظنون في طرحهم النظري الفلسفي، وإنما أصبح الموت مأساة حقيقية وجريمة كبيرة، سيدفعون ثمنها غالياً بعد أن دفع القتيل ثمنًا غاليًا آخر وهو حياته. والذي يركز عليه هنا نجيب محفوظ أن التنظير للموت والعبث شيء والموت الفعلي شيء آخر، وأن رؤية هذه الشخصيات للحياة وعدم اكتراثها بها والعيش بهذه العبثية المطلقة والغيبوبة عن العالم المحيط بها، كل هذا يؤدي إلى الدمار. وعندما يستفيق هؤلاء من عالمهم الخيالي يكتشفون أن الموت مختلف عن الحياة، وإنه قد حولهم إلى مجرمين، وإن تهيؤاتهم وأوهامهم قد ذابت وتلاشت أمام الإعدام والموت الفعلي الذي ينتظرهم.

ويربط نجيب محفوظ فكرة الموت هذه ببعديها الفلسفي والواقعي بالموقف العبثي من الحياة الذي تبناه كثير من كتاب العبث واللامعقول في الغرب. لكنه يرى أن العبثية تلك موقف فلسفي لا واقعي، ويعطي مثالاً على هذه المسألة بـ«صمويل بيكيت» أشهر كتاب العبث، ويقول:

«إن العبث يقتصر عادة على الأدمغة، أما في الحياة الحقيقية فإن بيكيت نفسه أول من يسارع بإقامة الدعوة على ناشره إذا أخل بشرط من شروط العقد الخاص بأي كتاب من كتبه العبثية».

لذلك فإن نجيب محفوظ لا يحجر على العقل أن يفلسف الموت والحياة وينتهي نظريًا إلى ما يريد، ولكن إذا تحولت هذه الفلسفة أو النظرية إلى فعل الموت أو القتل في الواقع فإنه يرفضها رفضاً مطلقًا. لهذا يضع حدًا لشخصياته الغائية عن الوعي من خلال حادثة الموت التي تحولت من الكلام الفلسفي إلى الواقع المأساوي. ومثاله عن بيكيت مقنع ساخر ذات دلالة عميقة في هذه القضية.

فمحفوظ في «ثرثرة فوق النيل» ليس كاتبًا عبثيًا بالمفهوم الغربي، لكن روايته ربما كانت محاولة عبثية لرفض العبث، ومصير شخصياته العبثية يثبت موقفه هذا. وهذا ما نقصده بثنائية العبث والالتزام في فكر نجيب محفوظ. فالعبثية لدى الغربيين مفهوم فلسفي، كما يقول أحد أقطابها يوجين يونسكو، ويضيف:

«العبثية إحساس بعدم وجود هدف أو غرض في حياة الإنسان المعاصر الذي انقطع عن الدين والغيبيات وجذوره وتاريخه. فهو إنسان ضائع. وغدت كل أفعاله بلا معنى ولا جدوى ولا أهمية».

كما يتفحص كامو في «أسطورة سزيف» ظروف الموقف العبثي الذي شاع بين كتاب جيله ومن تلاهم من أدباء اللامعقول والرفض، يقول:

«في عالم حرم منه الإنسان فجأة من الأمل والنور، أحس الإنسان المعاصر بالغربة والعزلة... فهذا الانسلاخ أو الانفصال ما بين الإنسان وواقعه، ما بين الممثل وأقواله، أحدث فعلاً الشعور بالعبثية واللامعقول».

أما مفهوم العبث في «ثرثرة فوق النيل» فإنه يسيطر على الشخصيات ليس فقط بسبب أزماتها الفكرية ومعاناتها الوجودية، وإنما بسبب المحن السياسية والاجتماعية والمادية التي تحاصر هذه الشخصيات وتطحنها وتقذفها إلى دوامة اليأس والعبث واللامبالاة. وهذا هو الفارق بين موقف محفوظ وموقف الأدباء الغربيين حول فلسفة العبث. فشخصيات نجيب محفوظ كان يمكن ألاّ تكون عابثة لو كانت ظروفها الحياتية مريحة ومستقرةـ سياسيًا واجتماعيًا وماديًاـ أما شخصيات بيكيت مثلاً، فإنها ترى أن الإنسان والوجود والعالم عبث في عبث، إذ يقول أحد النقاد الغربيين عن بيكيت «إنه عدمي كوني... إلى أبعد حد». أما نجيب محفوظ فإنه هو نفسه يرفض أن يقال أنه كاتب عبثي، يقول:

«أنا لست كاتبًا عبثيًا، أما بيكيت فإنه كذلك. عندما أتحدث عن العبث فإني أحاول عقلنته ومحاربته وتجنبه».

إن العبث الذي يقود إلى الموت في الرواية هو الفكرة المحورية التي تدور حولها الأحداث. ولقد وظف محفوظ الموت للتحذير من أن العبث الفلسفي إذا تحول إلى عبث واقعي فإنه يصبح موقفاً تدميريًا. وخطر العبثية يحدق بأصحابها وبالآخرين، الذين يصبحون ضحايا لعبثية هؤلاء وفوضويتهم. فالكاتب، يقول محمود أمين العالم:

«يقدم صورة بشعة لضياع الإنسان المعاصرة وعزلته وسلبيته المطلقة تجاه تقدم الحياة وتطورها».

وكأن محفوظ في خاتمة الرواية المفتوحة يشير إلى أن المرء حر في تفكيره ومعتقداته، لكن هذه الحرية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، فما بالك إذا كانت هذه الحرية انتهت إلى قتل الآخرين، فهي فوضى وتدمير إذًا لا حرية ذاتية أو فكرية، فلا حرية بلا حدود، ولا حرية دون مسؤولية وإلاّ ستُبيح كل شيء.. وسقطت كل القيم ودمّر الإنسان نفسه بنفسه، وهذا هو العبث الحقيقي والمأساوي الذي يعكس متاهات الانسان المعاصر بعد عشرات السنين من نشر الرواية كما تنبأ الكاتب.


عدد القراء: 3358

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-