صراع المنفى والذاكرة في قصائد أحمد عبدالمعطي حجازي في الغربة الباب: مقالات الكتاب
د. أحمد الزعبي قسم اللغة العربية وآدابها، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ جامعة الإمارات العربية المتحدة |
مقدمة:
أصبحت الهجرة إلى الغرب في العصر الحديث حلمًا يراود الكثيرين من أبناء المجتمعات التي لم تتهيأ لها ظروف التطور والتقدم والتحرر التي حظيت بها الدول المتقدمة ونقصد بها أوروبا وأمريكا. ودوافع هذه الهجرة كثيرة ليس المجال هنا لبحثها، لكن هذه الدوافع والظروف قد امتدت إلى طبقات المجتمع كافة، فطبقة العمال لها دوافعها وطبقة الأثرياء لها طموحاتها وطبقة المتعلمين لها أحلامها وكذلك طبقة الأدباء والمفكرين والفنانيين لها ظروفها وأسبابها المتعددة أيضًا.
والطبقة المثقفة ومنها الشعراء ومنها أيضًا شاعرنا أحمد عبدالمعطي حجازي هاجرت أو هجّرت لأسباب كثيرة أهمها:
أولاً: البحث عن مكان يتحمّل فكر هذه الطبقة وموقفها ورأيها في شتى مناحي الحياة بحرية واحترام متبادل.
ثانياً: محاولة اللحاق بركب الحضارة والتطور الذي قطعت فيه الدول المتقدمة أشواطًا كبيرة، وذلك من لحال الاقتراب والمعايشة الحقيقية لبؤر ومراكز هذه الحضارات.
وسواء كان هذا الرحيل هجرة أم تهجيرًا، أيْ كان اختيارًا من الأديب نفسه أو اجبارًا أو نفيًا أو هروبًا….. إلى غير ذلك، فإنه، أي الشاعر أو الأديب أو المفكر، يبدأ الرحلة مع المنفى والاغتراب والابتعاد عن الجذور، حيث تبدأ بعد ذلك الصراع النفسي بين الذاكرة والماضي ومشاعر الشوق والحنين إلى الوطن، من جهة، وبين الواقع الجديد والقيم الجديدة وأجواء الغربة التي قد لا ينجو منها أحد، من جهة أخرى.
وتتفأوت مشاعر الغربة أو الحنين أو الصدام بين الذاكرة والمنفى عند المهجرين الجدد تبعًا لظروفهم الحياتية المختلفة (السياسية والاجتماعية والفكرية….) وتبعًا، كذلك، لظروفهم النفسية وبنياتهم العقلية وطموحاتهم وتكوينهم الشخصي – المادي والروحي – إلى غير ذلك من حالات دقيقة خاصة تكاد تجعل لكل مهاجر وضعًا خاصًا أو ظرفًا خاصة لغربته يختلف عن غيره من المهاجرين.
وأحمد عبد المعطي حجازي واحد من أفراد تلك الطبقة المثقفة المبدعة في مجال الشعر، وواحد من هؤلاء الذين انتهى بهم المطاف إلى المهجر الفرنسي وإلى باريس عاصمة الثقافة والحضارة والنور، كما يقال.
وهجرة حجازي من القاهرة إلى باريس كانت أقرب إلى الهروب من واقع بدأ يحاصره إلى حدّ الاختناق، فهو ابن المرحلة الناصرية بأبعادها القومية وطموحاتها الثورية وأناشيدها الوطنية، ولكنه يكتشف بعد رحيل عبدالناصر ورحيل القيم الثورية والقومية معه- إلى حد كبير- أن عليه أن يدير عقارب الزمن إلى الوراء- ما قبل ثورة 1952م- وأن يجلس مع عدوه في الخندق الذي كان يقاتله فيه قبل قليل وأن يسير مع الركب نحو الغرب أو اليمين، كما يقال، وهو الذي، لزمن طويل كان يغني أمجاد الأمة وثورات العرب في دمشق والجزائر (وأوراس) وبور سعيد….. عند ذلك بدأ الحصار يشتد عليه والاختناق يكتم أنفاسه، وكان يحس ذلك من اللحظة التي رحل فيها عبدالناصر إذ قال في مرثيته في قصيدة "الرحلة ابتدأت":
ومشت رياح الأرض، أوراق الجرائد فيك
بالنبأ الحزين
فإذن هو النبأ اليقين
ديوان حجازي ص495، ط2، دار العودة/ بيروت/1982م
واناصراه ! (ص 497 الديوان).
وأجهشت كل المدينة بالبكاء….
……. يا أيها الحزن مهلاً واهبط قليلاً قليلا
أيامنا قادمات وسوف نبكي طويلاً (الديوان 495).
وبالفعل هبط الحزن على الشاعر وعلى الأمة، وبالفعل جاءت الأيام السوداء المحزنة المبكية التي تنبأ بها حجازي لتغطي سماء هذه الأمة وتجعلها تتردى إلى هذه الأوضاع المحزنة التي نعايشها جميعًا.
ولجأ حجازي أخيرًا إلى باريس، وترك محبوبته (مصر) رغمًا عنه، وكان كعاشق ينتظر حبيبته الأسيرة، يظن في كل عام أنه سيعود اليها حين تتخلص من قيود الأسر، لكن السنين جرت السنين، وطال البعاد والهجران، واغترب سبعة عشر عامًا (من 1974-1990م) رافقه في هذه الهجرة الطويلة صراع مرير، هو صراع الذاكرة والمنفى، الذي جعلناه لهذه الدراسة.
نماذج الصراع بين الذاكرة والمنفى
سنناقش في هذه الدراسة نماذج من الصراع بين الذاكرة والمنفى ظهرت في شعر أحمد عبدالمعطي حجازي في المهجر أو في المنفى أو في المرحلة الباريسية، كما يسميها جابر عصفور. وتقدم هذه النماذج صورًا متنوعة لطبيعة هذا الصراع الذي رافق حجازي طيلة سنوات الغربة تلك، وقد جاءت صور هذا الصراع على نوعين رئيسيين هما:
1 - صور الصراع المباشر.
2 - صور الصراع غير المباشر.
1 - صور الصراع المباشر:
وقد ظهرت صور الصراع المباشر في أشعار حجازي بين الذاكرة والماضي (في مصر) وبين الواقع والمنفى (في باريس) في أغلب قصائده التي كتبت في المهجر، وإن كان حضورها يتفأوت من قصيدة لأخرى.
ومن الطبيعي أن يظهر هذا الصراع أو الصدام قويًا في البدايات، أو في المرحلة الأولى من اغتراب الشاعر عن وطنه، حيث تكون صدمة الواقع الجديد شديدة وحيث يكون حضور الذاكرة وأصداء العمر الماضي قريبًا ممتدًا متواصلاً في أعماقه وذهنه.
فهو يقرر منذ البداية وبشكل مباشر أنه سيدفع ثمنًا غاليًا لهذا المنفى، قد يكلفه حياته كلها في آخر الأمر، ولذلك يقول:
أنا والثورة العربية
نبحث عن عمل في شوارع باريس
نبحث عن غرفة
نتسكع في شمس أبريل
أن زمانًا مضى
وزمانًا يجيء
قلت للثورة العربية
لا بد أن ترجعي أنت
أما أنا
فأنا هالك
تحت هذا الرذاذ الدافيء
( الديوان ص275).
فمنذ البداية يعلن حجازي بوضوح ومباشرة أنه ينفصل عن الثورة العربية وأحلامها التي بدأ اندثارها يلوح في الأفق. وأحس حجازي أنه ضائع لا محالة في المنفى، وأنه سيضيع معه حلم الثورة العربية القديم، فيفصل نفسه عن ثورته، ويطلب منها العودة إلى الوطن لعلّ آخرين يحملون شعلتها ثانية بعد أن بدأ خطواته في المنفى ولا يريد أن تُنفى معه أو تضيع معه، فهو يرى في أفق الغربة "أنه هالك"، أما الثورة فيجب أن لا تهلك معه ولا تتسكع معه على أرضية الطرقات في باريس بلا مأوى أو أمان أو استقرار.
وتتضح بذور الصراع بين الذاكرة والمنفى سنة بعد سنة، ويشتد ويحتد هذا الصراع في أعماقه كلما أوغل في غربته وداهمه الحنين وغلبه الشوق، يقول:
وأظل أهرب
ضائعًا بين القطارات التي مدت على جسدي الحديد
ومزّقني في الميدان
راحلاً في غير عمري
أراك تختلطين بالغيم المسافر راجعًا لبلاده……. (الديوان 128).
وقد كان حجازي يفرّ في الماضي ويهرب من الاختناق والتمزق والحصار وانعدام الحرية في وطنه…. لكنه يقع فيما هو أكثر اختناقًا وتمزيقًا واغترابًا في المنفى يتعلق بغيمة ترجع إلى وطنه ويظل هو بعيدًا غريبًا عن هذا الوطن وتلك الذاكرة.
إن حجازي يفصح عن مشاعره وعذاباته في هذه الصور الشعرية المباشرة مضطرًا ومنسجمًا مع اللحظة الوجدانية والعاطفية التي تداهمه وتسيطر عليه. وقد لا يستطيع الشاعر دائمًا أن يخضع تعابيره الشعرية للبنية الرمزية والمجازية أو الشفافية الغامضة في كل حين، وإنما تفلت مثل هذه الصور البسيطة المعبرة عن حزن عميق قد لا يحتاج إلى أقنعة فنية ومراوغات أسلوبية، وإنما ينفجر هذا الحزن على سجيته وطبيعته بشكل مؤثر سريع مباشر، بعيدًا عن الصور المركبة أو المعقدة أو الرامزة التي سنراها في النماذج القادمة.
2 - صور الصراع غير المباشر:
وقد تنوعت الصور الشعرية عند حجازي التي ترصد مرارة الصدامة بين الذاكرة والمنفى، في بنياتها وتراكيبها وأساليبها وتشبيهاتها حتى غدت صورًا تعبيرية غير مباشرة، تشير إلى الصراع وتوحي به وتعمد إلى التلميح لا التصدع في حالات كثيرة، يقول:
فالحزن التي هطلت
عليّ أمطاره يومًا
فصرت إلى طير،
وسافرت من حزن الصبي إلى
حزن الرجال. فكل العمر أسفار. (الديوان 380).
إذ تجسد هذه الصور الشعرية حالة صدام الذاكرة والمنفى، ولكنها تتقنع بقناع التعبيرية، حيث تعبر الصورة عن الضيق والألم والحزن الذي يسكن الشاعر، ويشير إلى هواجسه المحزنة التي تشكلت من زخات الحزن التي تهطل عليه ومن شروده وشتاته الدائمين كطير دائم الترحال لينتهي إلى حالة النفي والاغتراب والرحيل الدائم (فكل العمر أسفار) كما يقول.
ويتضح من الصور الشعرية السابقة تبرم الشاعر وسخطه وضيقه من هذا التيه والترحال لسنوات طويلة، مضنية، وتكشف ثانية هذه الصور اشتداد الصراع في ذهن الشاعر وتفاقمه بين الماضي والحاضر، إذ لم يخف هذا الحنين ولم يهدأ هذا الصوت الذي تزداد حدته في رأسه ليعيده إلى الذاكرة والماضي والأرض البعيدة، رغم كل هذا الصخب الباريسي والتحرر والتحضر والانعتاق من كل قيود الشرق التي أدمت يديه في الماضي.
وتتكرر صور التعبير غير المباشر التي تجسد أزمة حجازي في المنفى كثيرًا في أشعاره الممتدة الموزعة على سنوات الغربة، يقول في مقطوعة أخرى:
كنت أرى طائرًا
صالبًا نفسه في شبّاك التوهج
كنت أراقبه، فمتى يستفيق
ويكتمل الخط من نقطة البدء حتى الوصول
ومع أن دلالة الطير واضحة في شعر المنفى بعامة حيث تزداد مناجاة الطائر المسافر أبدًا نحو الوطن البعيد- كما يرى الشعراء- وحيث يتشابه الطائر مع المنفيّ في ديمومة الارتحال والسفر، إلا أن حجازي يرى هذا الطائر – أو يرى نفسه – مصلوبًا نائمًا دون حراك بعيدًا عن وطنه، وأنه بانتظار صحوته أو استفاقته كي يعود إلى وطنه ويحقق حلم الوصول الذي طال انتظاره في المنفى البعيد.
والطائر يصلب نفسه، يرى حجازي، وكأنه يشير بشكل خفي إلى أنه شارك هو نفسه بصنع هذا المنفى، وأن عليه أن يخطو خطوة حاسمة ويتخذ قرار العودة الذي طال وطال. غير أن ألم الماضي وصدى الأوجاع التي دفعته إلى المنفى تقف حائلاً بينه وبين القرار الأخير لكيلا يندم ثانية ويهاجر ثانية رغمًا عنه. فهو لذلك في انتظار قرار راسخ ثابت لا رجعة عنه مهما كان الظرف أو الثمن أو الألم الذي سيواجهه، وهذا القرار لم يحن اتخاذه بعد، مثلما الطائر المصلوب لم يستفق بعد.
وكانت رحلة حجازي في باريس تبحر نحو المجهول، وشيئًا فشيئًا ينخرط في صخبها وأضوائها ومعالمها الحضارية ويحس وكأنه انتقل من كوخ صغير إلى قصر كبير، ولكن ظنين الذاكرة وأحلام الماضي وأصوات المبادئ تطارده أبدًا وتدوي في ذاكرته. فقد أشار حجازي إلى أن تجربته في باريس "تنبئ عن تطور جديد" ولكن هذا التطور لا يشكل "انقلابًا" كاملاً في شعره، لأن التقاليد المتشكلة في ذهنه الماضي، يقول "لا يستطيع منها فكاكًا إلا بمقدار".(1)
فالشاعر بدأ يتفاعل في البيئة الجديدة وبدأ شعره يتأثر بموجات حداثته في الفكر والأدب والفن، وبدأ يوازن أو يلائم بين جذور الماضي وثمار الحاضر، ويشتد إذن الصراع بين الذاكرة والمنفى أو الواقع الجديد. وظهر هذا الصراع في صور كثيرة تشكلت في قصائده في مرحلة الغربة، وربما كانت قصيدته "طردية" من أهم القصائد التي جسدت هذا الصراع الشرس في أعماقه بين الذاكرة والمنفى، يقول:
هو الربيع كان، واليوم أحد
وليس في المدينة التي خلت
وفاح عطرها سواي
قلت اصطاد القطا
كان القطا يتبعني من بلد إلى بلد
يحط في حلمي ويشدو
فإذا قمت شرد ( الديوان 240).
وهذه الطردية على الصعيد الرمزي تلخص رحلة حجازي من وطنه إلى المنفى وترسم أبعاد صراع الذاكرة والغربة في عالمه النفسي والشعري. فإذا افترضنا أن القطا الذي اختاره بدقة من بين الطيور يرمز إلى حلم الشاعر أو حريته أو طموحه مثلاً فإنه التعبير المنسجم مع فكرة الأحلام التي تطارده ويطاردها دون وصول. بمعنى آخر، يهاجر الشاعر بحثًا عن أحلامه وحريته "يطارد القطا" مدفوعًا بخيالات الأحلام الكامنة فيه وتدفعه نحو تحقيقها كالقط تبعه من "بلد إلى بلد".
وثنائية الفعل للحلم أو القطا واضحة في هذه الصور المعبرة عن حالة صراع الذاكرة والمنفى عند حجازي، فهو يطارد القطا لاصطياده والقطا يطارد الشاعر أيضًا، مثل أحلام الشاعر تمامًا تدفعه وتلاحقه وتطارده ليلاحقها ويطاردها ويصطادها، فعلى الرغم من ثنائية الفعل الضدية فالدافع واحد والهدف واحد.
غير أن النتيجة فاشلة، يرى الشاعر، ولكني "لم أصد"، يقول:
وربما عدم تمكنه من الصيد راجع إلى موضوع المنفى والاغتراب حيث ابتعد عن الوطن أو الذاكرة، يقول:
ومذ خرجت من بلادي
لم أعد...
ففشله في الصيد مرتبط رمزيًا بفشله في تحقيق أحلامه التي في النهاية لا يمكن تحقيقها، كما يرى، خارج أرضه ووطنه.
كما يحاكم حجازي زمنه المتقلب، هذا الزمن الذي يساهم إسهامًا كبيرًا في إشعال الصراع الشرس الدائر ما بين الذاكرة والمنفى، فالماضي يطارده في الحاضر، ينغص عليه حياته ويشده إلى طفولته وأحلامه وعلاقاته الدافئة، والحاضر يدفعه نحو صخب الحياة والتحرر من أسر الذات والذكريات والانطلاق نحو جنون العصر وسرعته وضجيجه في باريس التي لا تنام ولا تهدأ. فالزمن ما بين الطفولة والكهولة، يرى حجازي، "ينقر في رأسه" وينكأ جراحه، ويصلبه ويضر به ويدفعه نحو "السقطات الخبيثة"، لكي يكثف حمة الصراع في أعماقه ما بين الذاكرة والمنفى، يقول:
زمن واقف
…. كيف يحسب وقت الرحيل
بعيداً عن الشمس واللحظات الدفيئة.
زمن كالشتاء
وكان دجاج الطفولة ينقرني في الصباح الندى
…. زمن كالأفول
….. زمن كالخطيئة
وأنا لم أزل بعدُ طفلاً
وها أنا كهل تتعتعني الخمر
تنكأ في لحم روحي المذلات
والسقطات الخبيثة (الديوان ص230).
فأزمنة الشتاء والأفوال والخطايا، أزمنة تتراكم وتتداخل وتتشابك في رأسه وتصيبه بالدوار، فالذكرى تشتبك مع اللحظة الحاضرة، واللحظة الحاضرة ترتد إلى الذاكرة وتتداخل هذه اللحظات أو الأزمنة لتحدث هذا الدويّ الصاخب في ذهنه وتزيد من هذا الصفير الممتد من الطفولة إلى الكهولة دونما استقرار أو هدوء أو أمان.
وألم المنفى عند حجازي عميق مستنفر لأن هواه أصلاً لم يكن "غريبًا" فجذوره وآرائه ومبادئه كانت "شرقية" ناصرية، إذ صح التعبير، وجاء منفاه القسري بعد رحيل عبدالناصر، وهذا يشكل ألمًا داخليًا عميقًا عند حجازي لأنه حزّن في أعماقه مشروع أحلامه الوطني والقومي والعربي إذا الذي شكل عالمه الشعري قبل الرحيل. وهذا يعني أنه لم ينغمس في المرحلة الباريسية أو مرحلة المنفى إلى الحد الذي ينقلب يفه على ذاكرته أو ماضيه أو موقفه القومي واليساري والوطني….. إلى غير ذلك.
وربما لهذا السبب اختلف عن كثيرين في المنفى أو المهجر الجديد ممن بهروا في الحضارة الجديدة وبدأت أواصر الاتصال والارتباط بوطنهم أو شرقيتهم تضعف وتتلاشى، فقلّ طبقًا لذلك، المهم وخفت معاناتهم، وتجاوز بعضم كل أحلام الماضي ونقرات الذاكرة التي استمرت قوية تنقر في رأس حجازي في منفاه.
ولم يكن حجازي محتفيًا بمرحلة المنفى، على الرغم من كل مغرياته وجمالياته وتحرراته كما يفرضها الواقع الحضاري في باريس، وعلى الرغم من انفتاح الآفاق الفنية والثقافية التي طورت تجربته الشعرية والفكرية، نقول لم يكن يحتفي بهذا الواقع أو الحاضر أو المنفى لأنه كان سكونًا بإصداء الذاكرة وبأعباء الماضي وبالحنين إلى الوطن وأحلام الثورة وخيالات المد القومي والوحدة العربية ومشاعر الانتماء التي تصاعدت بقوة وانتحار في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن.
ومأساة حجازي في المنفى تتركز في إحساسه بالتيه والضياع والتعفن في أصقاع الأرض، كما يشير جابر عصفر، إذ يقول:
"…. وتكشف القصيدة عن اغتراب بلها في المدن الأجنبية….. فدخول اللحد عودة مشابهة إلى الرحم الذي ينفي الضياع والتعفن في المدن الأجنبية…. فيدخل كمرآة صباه… ويستدعي الوطن/الرحم….. ولذلك يتحد هذا الوطن بصورة الأم التي لا يفارق طيفها الابن في كل مكان يرتحل اليه في غربته"(2).
وقد جسّد حجازي حلم العودة النجاة من المنفى والاغتراب في غلب قصائده في المرحلة الباريسية كما يسميها المقالح أيضًا، حيث لم يستطيع في سنوات المنفى الطويلة (التي زادت على 17 سنة) أن يتغلب على حالة صراع الذاكرة والمنفى وسيطر عليه طوال تلك الفترة شعور العودة من السفر كالطير الذي لن يهدأ الا بالعودة إلى عشّه.
فهاجس الرحيل والسفر والاغتراب يسيطر على أعماق حجازي في أغلب قصائده في المنفى، ويصبغ صوره بعامة بهذه الصبغة التي تتسلل إلى القصائد مهما تعددت موضوعاتها أو بنياتها أو أفكارها. وكأن حالة الاغتراب والترحال أصبحت جزءًا مباشرًا أو غير مباشر من تكوين القصيدة أو جوها العام أو بنائها أو فضائها الفسيح، ويختصر حجازي هذا الهاجس أو هذه الأزمة بقوله:
ضائعًا في شوارعها
أتحسس لحمي الذي يتعفن فيها
وأدخل في الليل لحدي (الديوان، ص265).
فحجازي يضيق بهذا العمر لذي تحول إلى ارتحال وهجران ومنفى فضيّع الاستقرار واغترب عن شمسه إلى ظل المنفى البعيد، وغدت حياته انتظارًا للعودة إلى شمسه وطفولته وأحلامه في أرضه ووطنه. ولا بد أخيرًا أن يعود من منفاه إلى حضن أمه وإلى شمسه الدافئة وهوائه البعيد حيث يقرر:
هذا النهار نهاري
وهذه الشمس شمسي (الديوان، ص340).
وفعلاً يعود الشاعر بعد طول غياب ويضع حدًّا لمنفاه ويتصالح مع ذاكرته ويوقف صراع المنفى والذاكرة ولو إلى حين ليبدأ الشاعر بعد ذلك صراعًا جديدًا، صراع المنفى في داخل الوطن، ولكن لهذا حديثًا آخر ومرحلة أخرى.
الهوامش:
1 - ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي، بيروت، دار العودة، ط3، 1982م.
2 - مجلة إبداع 7 / 1991م، ص58/القاهرة، وكذلك "فصول" 3/1996م.
3 - مجلة فصول، مجلد 15، عد 3، خريف 1996 (القاهرة)، ص315-320.
تغريد
اكتب تعليقك