عاشقة الثقافة العربية.. آنّا ماري شيمل الباب: مقالات الكتاب
د. محمود فرغلي شاعر وناقد مصري |
رغم حدة التقاطب بين الغرب والشرق، ورغم الأرض المحروقة التي خلفها كثير من المستشرقين عبر عدة قرون وما نتج عن ذلك من بلورة نظرة أحادية للشرق الإسلامي تم تغذيتها والبناء عليها بإلصاق الافتراءات بكل ما هو إسلامي سواء أكان أشخاصًا أو أفكارًا؛ برغم كل هذا فإننا لا نعدم من بين هؤلاء المستشرقين ثلة كان الإنصاف ديدنها والتحري والبحث عن الحقائق هدفها وهو ما وسم دراساتها بكثير من الدقة والموضوعية، كما ظهرت لها مواقف رائعة في كثير من القضايا التي تخص الشأن الإسلامي، ودافعت ضد محاولات التنميط المستمرة التي وضعت المسلمين دائمًا في خانة المتهم، وأسقطت التهمة على الدين الإسلامي ذاته، ومن هؤلاء المستشرقة الألمانية أنا ماري شيميل (1922 - 2003).
نذرت شيميل حياتها لمد جسور التعارف بين الشرق والغرب، وجابت أربعة أقطار الدنيا في دأب لم يفتر وبحث مستمر، ببصيرة مؤمن بالتعارف البشري، والتسامح الإنساني فلم تشغلها رحلاتها المتواصلة على التأليف والكتابة، انسجمت مع الشعوب المسلمة في تركيا وباكستان ومصر وسوريا، وفتنت بالسودان، ولم تألف أمريكا على طول إقامتها بها، وكأن علاقتها بالشرق تحولت إلى رباط روحي جعلها ترى في الشرق موطنها الأصلي، فتقول عن عودتها من الولايات المتحدة بعد رحلة طويلة عملت خلالها بجامعة هارفارد: "أكان هذا خطأ الطائر الغريب الذي يشتاق من منفاه الغربي أن يعود إلى وطنه في الشرق" .
ولع مبكر باللغة العربية
بدأت علاقة شميل بالعربية في سن الخامسة عشر، ولم تلتفت إلى المذاهب الفكرية السائدة في هذا الوقت مثل الوجودية وغيرها، كانت أوروبا تصطلي لهيب الحرب، وفي ألمانيا كان الرايخ الثالث على وشك السقوط، فهل وجدت الفتاة الصغيرة أنا ماري شيميل خلاصها في حضارة أخرى؟ لقد بدأت علاقتها بالثقافة العربية الإسلامية من التاريخ، فنالت درجة الماجستير عن دراستها للقضاء والخلافة في مصر الفاطمية والملوكية وهي رسالتها للماجستير، ثم كانت أطروحتها للدكتوراه حول بنية الطبقة العسكرية في مصر إبان الحقبة المملوكية، ومن التاريخ دلفت إلى التصوف، وسحرها على وجه الخصوص جلال الدين الرومي، وكان للفترة الطويلة التي قضتها في باكستان وتركيا أثرا في هذا التوجه، وخصته بعدد كبير من الدراسات والمترجمات أشهرها كتابها الشمس المنتصرة، كما أفتتنت بالشاعر محمد إقبال، وترجمة مجموعة من أشعاره إلى الألمانية.
كما أتقنت آنا ماري شيمل عدة لغات شرقية منها الفارسية والتركية والأُردية والهولدنية، وساعدتها الكلية الفلسفية في برلين أن تحصل علومًا شتى، علمية وإنسانية، إضافة إلى العلوم الاستشراقية، ومن ثم سمحت لها ثقافتها الموسوعية أن تصدر ما يزيد عن مائة كتاب، جلها في المعارف الإسلامية، بخاصة التصوف، تحكي في سيرتها الذاتية أنها أثناء دراستها للحصول على الدكتوراه كانت تعمل في مصنع للهواتف وكان أول ما اشترته من راتبها الأول هو (المثنوي) لجلال الدين الرومي، وكان مدارا لدراسات وترجمات عديدة في إنتاجها العلمي، ومع شهرتها الواسعة كانت الأسئلة تتبعها حيثما حلت، كيف لفتاة صغيرة من أسرة غير أكاديمية أن تغدو مستشرقة، وكيف لها أن تحصل على الدكتوراه في التاسعة عشرة، وعلى الأستاذية في الثالثة والعشرين؟ وكيف تحصل امرأة غير مسلمة على كرسي أستاذية في كلية الإلهيات في جامعة أنقرة؟ هذه الأسئلة أجابت عليها همة متوقدة وذهن يقظ، وقلب محب للبشرية، ومؤمن بضرورة التواصل الخلاق.
مستشرقة منصفة
لقد ظهر الاستشراق في ظرف حضاري طارئ على الحضارة الإسلامية وأسهم في تشكل وجة نظر مسبقة لكل ما هو عربي أو مسلم، لذا وصفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق بقوله: "إن واقع الاستشراق معاد للإنسانية ومستمر بإلحاح، وإن نطاقه مثل مؤسساته وتأثيره النفاذ الشامل لا يزال قائما حتى وقتنا الحاضر" ، وقد خرجت شيمل وعدد قليل منهم عن هذا النسق، فهي صاحبة مشروع ضخم وتجربة فريدة في مجال الاستشراق والتصوف، وهي من المستشرقين القلائل في القرن العشرين الذين أرسوا قواعد صحيحة في دراسة الشرق، فقد وهبت الرؤية الاستشراقية حقَّها، ونطقت بحقيقتها، بلا أدنى مغالطات أو تشويه، وبعيدًا عن استعلاء الغرب على الحضارات الأخرى، كما هو سائد لدى العديد من المشتغلين في حقل الاستشراق ممن تحول الإسلام علي يدها إلى "صورة لم تعد وظيفتها تكمن في تمثيل الإسلام ذاته بقدر تمثيله لعيون المسيحين" ، أما أنا ماري فقد استطاعت أن تكون نموذجًا راقيًا للموضوعية فأنصفت الثقافة العربية والإسلامية في أكثر من محفل، ودافعت عن الإسلام وعن رسونا الكريم في أكثر من مناسبة.
وقد حطت رحال شميل في كثير من الدول العربية، وصنعت معارف وتلاميذ وصداقات لا تحصى عددًا، في كل بلد نزلته، فزارت الكويت ومتاحفها والبحرين ومصر وسوريا والسودان وقامت بالتدريس في لبنان، وتونس والمغرب، وشغفتها باكستان حبًّا، وفي كل هذه الدول كانت تقوم بزيارة المتاحف والمساجد والأضرحة وتلقي المحاضرات وتعقد اللقاءات، تتابع الندوات، وتستقبل حفاوة بالغة وتلقى التكريم والعناية حيثما حلت، ومن المحطات الرئيسة في حياتها العلمية إصدار مجلة باللغة العربية، لتوطيد العلاقة بين الشرق والغرب، وبمرور الوقت أصبحت هذه المجلة تصدر في طبعة أنيقة مرتين في العام تتضمن لوحات ومقالات وترجمات من من روائع الفن والثقافة الإسلامية، واستمرت في تحرير تلك المجلة عشر سنوات عرفت الغرب فيها بكثير من أدباء الإسلام وشعراء العرب الإسلام قديما وحديثا.
ولع بالخط العربي
في مرحلة من مراحل حياتها البحثية بهارفارد التي استمرت خمسة وعشرين عامًا، وبالتحديد في عام 1982 عينت شيمل مستشارة لشؤون الخط الإسلامي، في متحف نيويورك المتروبوليتان لعقد كامل، ومن هنا نبع اهتمامها بالخط العربي وراحت تكشف عن تأثيره على الفن في أوروبا، في الوقت جرفت ريح العولمة اهتمام مؤسستنا به، لكنها أدركت عمق هذا الفن وأصالته فكانت تنظم معارض متوالية عن الزخارف الإسلامية، تقول شيمل: يا لها من بهجة أن يحمل المرء بين يديه الأعمال الزخرفية ذات النقوس الفارسية أو العربية، وأن يمسح على الأوراق الناعمة جدا لأحد مجلدات الشعر المزينة وأن يحدد صفحة قرأن مبكرة على رق".
فاتحة الختام
في أوائل العام 2003 وقف الشيخ أحمد زكي اليماني يقرأ سورة الفاتحة على قبر المستشرقة التي أنفقت جل حياتها في دراسة تراث الإسلام وحضارته ترجمةً ونشرًا وتحقيقًا وتحليلاً، وتركت بصمة لا تزول في سفر المنصفات رحلت أنا ماري شيمل بعد أن أوصت بعقد منتدى للحوار الديني والثقافي يكون همه الأساسي مد جسور التفاهم وبناء العلاقة بين الغرب والإسلام والمسلمين على أساس من التعارف البعيد عن التعصب والنزعات، ولا شك أننا نفتقد شخصية مثل أنّا بعد أن عاد الاستقطاب بصورة أكثر توحشًا وتغوَّل التعصب في أربعة أرجاء الأرض.
تغريد
اكتب تعليقك