بيان الصمتالباب: مقالات الكتاب
د. محمود فرغلي شاعر وناقد مصري |
يقف الصمت بين حدي الفراغ والامتلاء، وعلى امتداد المسافة بينهما تتشكل أنواع منه تعبر عن تنوعه بصورة لا نلتفت إليها كثيرًا وسط ضجيج اللغة وفتنة القول، والصمت في كل هذا يعبر حالات النفس وفوراتها المختلفة حيال الآخرين وحيال العالم المحيط؛ لذا كثيرًا ما يكون الصمت أبلغ من الكلام، وكثيرًا ما يكون تأثيره أشد وقعًا.
قديمًا استعاذ الجاحظ من فتنة القول، ربما لأن القول مشغلة وإغراء، وربما لأنه مشغلة عما وراءه ولما يتركه من آثار، وما قد يجنيه التواصل على الفاعل، وإذا كانت البلاغة ملاصقة للقول فإن للصمت نصيبه منها وهو ما لفت انتباه الباحثين فعرفنا بلاغة الصمت، الذي يتمظهر بوصفه نسقًا خفيًا داخل الخطاب، ولا شك أنه ليس كل صمت بليغًا، كما إن بلاغته في النص الأدبي تتوافر لها خصوصيتها عبر تساوقه داخل الخطاب وتنوع دلالالته وقدرته على توجيه تلك الدلالات؛ ليبرز بوصفه رغم الخفاء فاعلاً ويظهر أثره جليًا في متلقي الخطاب، فنحن في مقام الأدب لا نستطيع الحديث عن بلاغة الصمت إلا في إطار خفائه في خطاب أو وقوعه كفضاء رحب بين كلامين يمارس فيهما تأثيره ويتأثر بهما، فالصمت تخاطب لا يتولد عنه رموزًا وأصواتًا ودوالاً، ولكن يتولد عنه فراغًا نصيًا يستدعي من المتلقي أن يملأه، فالصمت موجه للمتلقي دون غيره، فإذا كان هو صنيعة المؤلف، فإن المؤلف قال ما أراده وأخفى ما أراد، لكن آلته الكلامية قد تتعطل لسبب ما عن وعي أو عن غير وعي، فقد يعجز اللسان عن البيان وتتعطل لغة الكلام، وقد يقصد لذا إدراكًا منه لأدوار الصمت البلاغية التي لا يؤديها بالقول، وهنا لا بديل عن صمت ليشغل حيزًا من الفراغ القائم، فالطبيعة ذاتها تكره الفراغ، وكل فراغ يتركه المؤلف لابد أن يشغله المتلقي تأويلاً ودلالة من عنده، ولذا يظل الصمت عنصرًا له دوره الفاعل في الخطاب، ومعطى تداوليًا ونسقًا خفيًا في الأنواع الأدبية المختلفة، كل بطريقته، وربما تكمن خطورة الصمت في أنه يصعب الإمساك به، كما لا تظهر بلاغته إلا من خلال خطاب وسياق تداولي بين طرفين، ولذا لا يكون الصمت بليغًا في ذاته، إنما يكتسب بلاغته من سياقه التواصلي ومن نوعه الأدبي.
وإذا كان الصمت أنماطًا عديدة تبدأ من العي ولا تنتهي عند القهر والإسكات، فإن بلاغته داخل الرواية ترتبط بمستويات السرد المختلفة وعناصره جميعًا، فكل من المؤلف والراوي والشخصيات له نصيبه من الصمت، فالأول يتسرب إليه من لا وعيه، وهنا تبرز بلاغة الصمت بوصفها" انبثاقات تلح في خلفية الوعي أو بمعنى آخر في جب اللاوعي. لا يتعمدها الكاتب ولا يؤطرها، وربما لا ينتبه لها القارئ، لكنها تكتنز بطاقة جمالية، أكبر من اللفظ والمعنى معًا. حتى لو كانت غامضةً" فيما تتشكل بلاغة الصمت في مستويات أخرى من الخطاب وعناصره من خلال وعي المؤلف ذاته، وعليه فإن شعرية الصمت تتوقف على النوع الأدبي أو الفني.
ويُعزى إلى فان دان هيفل أنه انتقل بالصمت من مستوى البنية السردية حيث يؤشر إليه بالقطع أو الوقفة الوصفية إلى مستوى الخطاب وإدراجه في تحليل الخطاب، إذ يرى "إن كل كلام متولد من الصمت راجع إليه. وهذه بديهية بعينها. ففي تحليل الخطاب تكون هذه المسألة قاعدة تحليل لافتتاحية النث وخاتمته، وليس هذه هي المسألة التي تعنينا في المقام الأول. إننا نصطدم على الدوام بعدم الاستراسال الداخلي للخطاب الأدبي، وإذا نظرنا في الأمر من زاوية التلفظ، أدركنا قصور التفسيرات التي قدمتها البنيوية التي تعتبر وقفات الصمت والفراغات بمثابة صور بناء"
وإذا نظرنا إلى تراثنا العربي يبرز أمامنا الجاحظ بوصفه أهم من توقف أمام ثنائية الصمت والنطق، وله في ذلك رسالة كاملة، كما إن آراءه في هذا الموضوع متناثرة في كتابيه البيان والتبيين والحيوان، وواضح من رسالة الجاحظ المشار إليها أنه يتحج لأفضلية النطق على الصمت، فقد جاءت الرسالة ردا على من فضل الصمت، وقامت رسالة الجاحظ على جملة "الاستراتيجيات الحجاجية التي نهجها في معظم خطابه المنتصر للنطق" ولكن يلاحظ على حجج الجاحظ أنه نفعية بصورة تؤكد" أن ظاهرتي الصمت والنطق لا تمتلكان في ذاتهما قيمة مطلقة فقيمتهما في الاثار الناجمة عنهما" . ويرتبط تفضيل الكلام بالعمومية، فعام الكلام خير من عام السكوت.
بيد أن الجاحظ لم ينزع عن الصمت كل فضيلة، بل جعل له قيمة بلاغية، وإنما كان مدار التفضيل لديه بمثابة تفضيل العام على الخاص، فيقول" مع إني لم أنكر فضيلة الصمت، ولم أهجّن ذكره إلا أن فضله خاص دون عام، وفضل الكلام خاص وعام، وإن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضل كان حظهما أكثر، ونصيبهما أوفر من الواحد، ولعله أن يكون بكلمة واحدة نجاة خلق، وخلاص أمة" ، فالحديث يدور حول الصمت والنطق في العموم دون ارتباط بسياق معين، وإنما في إطار التواصل البشري عامة، وفي سياق المواقف الحياتية الشفاهية، ومن ثم فإنها خارج نطاق النص المكتوب، إذا يضطلع الصمت بوظائف مغايرة، لها سياقاتها النوعية المختلفة، في إطار وجوده كفراغ بين كلامين.
كذا شغل أمر الصمت المتصوفة، وكان انشغالهم مبنيًا على رؤيته للغة وطبيعتها، والتجربة الصوفية ومقتضياتها، والرؤية التي تتسع حتى لا تحيط بها العبارة، إذ تعجز عن إدراك كنه التجربة ومن ثم تصل في مرحلة من مراحلها إلى العماء أو الفراغ التام، فهم نظروا إلى الصمت في إطار تجاربهم ومجاهداتهم، ولا تستطيع اللغة العادية – في رأيهم- أن تعبر عن عالمهم شديد الخصوصية. ومن ثم فإن التجربة الصوفية تجربة في البحث عن لغة جديدة بنفس مقدار بحثها عن مقامات وأحوال ومكاشفات، والصوفي محكوم بالمنطق وبقوانين اللغة في مجمل حياته، باستثناء تلك الفترات الخاص بحيوية التجربة. وهو ما يتضح بجلاء في إشارات التوحيدي حيث لا يشكو مطلقًا من اللغة في بدء رسائله، إنما يأتي ذلك في لحظات فوران عاطفية تشير إلى بلوغ التجربة ذروتها، حيث ينتقل من بلاغة الكلام إلى بلاغة الصمت
وخلاصة الأمر أن التراث العربي له موقفان من الصمت متباينان، لا يرتبطان بالصمت بوصفه دالا لا يقل عن الدال اللغوي، إنما يرتبطان بسياقات ومقامات خطابية تعطيه أهميته أو تنزعها منه، وهذا يقترب من أبعاد قضيتنا حول بلاغة الصمت التي ترتبط بالنوع الأدبي وسياقات إنتاجه، فبلاغة الصمت في الشعر تختلف عنها في الرواية عنها في المسرح عنها في السينما... إلخ، ولكن بلاغة أدواتها وآلياتها التي تتحقق من خلالها هذه البلاغة.
الهوامش:
1 - سيد الوكيل، بلاغة الصمت عند إبراهيم أصلان، صدى: (ذاكرة القصة المصرية)،
https://sadazakera.wordpress.com/2020/08/06
2 - أحمد الجوة، الصمت، أنواعه ووظائفه في الشعر العربي الحديث، أعمال الندوة العلمية الدولية: الصمت، صفاقس تونس 2007، ص25-60
3 - محمد مشبال، بلاغة رسالة" في تفضيل النطق على الصمت" للجاحظ، مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، المغرب ع1-2012، 99-108
4 - المرجع السابق.
5 - الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979، ج4/233
تغريد
اكتب تعليقك