القصيدة البحرية.. قراءة نقدية في قصيدة نزار قبانيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 22:24:03

أ. د. أحمد زياد مُحَبِّـك

أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة حلب

في حياة كل إنسان رغبة في الانعتاق من الحس والمادة والمكان والزمان والجاذبية والانطلاق في عالم من الفضاء الحر المطلق، ليسبح في فضاءات غير محدودة، وهذا ما يحققه الفن، نحتًا وتصويرًا وغناءً وشعرًا وموسيقا، فالفن يطلق طاقات الإنسان، ويحرر قواه، ويخلصه من المحدود والجزئي، وهذه الرغبة ذات مستويات وأشكال متنوعة ومختلفة بحسب العمر والاستعداد والتربية والثقافة والبيئة والعصر، وهي رغبة موجودة، تتحقق بشكل من الأشكال، حتى سائق الشاحنة، يحس بلحظة من اللحظات بالتحرر والانطلاق وصوت المسجل إلى جواره يصدح بأغنية، وحتى الحجَّار الذي يضرب الحجر بمعوله ليفلقه، يصدح بأغنية وهو يضرب الحجر، وكذلك الحداد والخياط، وكل إنسان له لحظة يتحرر فيها من الواقع وينطلق في آفاق، ومما لا شك فيه أن أعلى أشكال الانعتاق تكون أمام الجمال، ولا سيما جمال المرأة، ومنها يكون الانطلاق.

وفي شعر نزار جانب لم يلتفت إليه النقاد ولا الدارسون، وهو الانعتاق والانطلاق، فقد استقر في رُوع أكثر المتلقين لشعر نزار تصوُّرٌ يتلخص في أنه شاعر المرأة، وهذا التصور صحيح، ولكنه وحده غير كافٍ، ولا بد من أن يضاف إليه تصوُّر آخر يتلخص في أنه شاعر الوطن، ويحتاج بعد ذلك كلٌّ من التصوُّرين إلى مزيد من الشرح والتوضيح والتفصيل.

ففي التصور الثاني هو شاعر الوطن حقيقة، ونعني به وطنه بلاد الشام، ولا سيما سورية، ووطنه بلاد العرب، أي الأقطار العربية، ولا سيما فلسطين، فقد تغنى بحب الشام، وتضمن هذا الجانب في شعره جوانب من الحب والتمجيد والتعظيم، وجوانب من النقد والانتقاد والعتاب، لأن من يحب يصدق في حبه فينتقد، لأنه يريد للمحبوب ما هو أفضل وأرقى وأعظم، وهذا هو ديدن المثقف، إذ يملك دائمًا طموحات عالية، فينتقد أكثر مما يمجِّد، بل قد ينتقد ولا يمجد.

وفي التصور الأول هو شاعر المرأة حقيقة، أيضًا، ولكن هنا لا بد من وقفة، فقد رسخ في التصور على أنه شاعر الجسد والجنس والإباحة، وهذا وحدَه غير كاف، ولا بد هنا من التفصيل، ففي شعره إحساس بجمال الجسد، وتصوير لمفاتنه، ووصْفٌ، وفي شعره تعبير عن رغبات جنسية صريحة، وهو تعبير عن قوة الحياة واندفاعها، ولكنْ في شعره أيضًا إحساسٌ بجمال المرأة وسِحْرها وتألُّقها، وفي شعره تعبير عن عواطف ومشاعر متنوعة، من طرف الرجل، ومن طرف المرأة، وفي شعره بعد ذلك كله نزوع نحو جمال كلِّي مُطْلق في المرأة لا يُحَدُّ ولا يقاس، ورغبة في الانطلاق معها وفيها من كل ما هو محدود ومقيد، وإذا هو صوفي في تعلُّقه بالجمال، يعبر عن رغبة الإنسان في الانعتاق والتحرر والذهاب إلى عوالم غير محدودة، وهذا الجانب لم يقف عليه أحد من الدارسين والنقاد، ويمكن التمثيل له بقصيدة له عنوانها "القصيدة البحرية".      

*

إن الشعر انعتاق وخلاص، هو حرية، مثله مثل الحق والخير والحب والجمال، في هذه القيم يجد المرء ذاته، ويحقق وجوده، فيها يطمئن، وإليها يرتاح ويسكن، وهو يبحث عنها دائمًا، ويراها كالمطلق الذي لا يكاد يتحقق، لأن هموم الحياة اليومية تشغله، وتسلبه ذاته، ولكنه يظل يحنّ إلى الجمال الكلي الرائع السامي الذي لا يُحدّ، لأنه يتطلع إليه، ويتغنَّى به. وهذا ما عبر عنه نزار قباني في غير قصيدة، منها "القصيدة البحرية"1:

في  مــرفــأ  عـيـنـيـك  الأزرق

أمـطــار  من ضــوء مســموع

وشمــوس  دائـخــة  وقـلــوع

ترســم رحـلـتـهــا للمــطـلـق

 

في مـرفـــأ  عــيـنـيــك  الأزرق

شُــــبَّــاك  بــحـري  مــفـتــوح

وطــيـور  في  الــبـعـــاد  تلـوح

تبحث  عن  جزر  لم تخلــق

 

في مـــرفـأ  عــيـنـيــك  الأزرق

يتـســاقــــط  ثـلـــج  في  تموز

ومــراكـب  حـبـلى  بالـفـيروز

أغـرقـت  البـحـر  ولم  تغـرق

 

في مــرفــــأ  عـيـنـيــك  الأزرق

أركض كالطفل على الصـخر

أسـتنـشـق  رائــحــة  الـبـحـر

وأعـود  كــعــصــفــور  مرهـق

 

في مـرفــأ  عــيـنـيــك  الأزرق

أحـلم  بالـبـحــــر  وبالإبـحــار

وأصـيد  مــلايـيـن  الأقـــمــار

وعقــود  اللــؤلــؤ  والـزنــبــق

 

في مــرفـأ  عــيـنـيــك  الأزرق

تتكـلم  في  اللـيل  الأحـجار

في  دفـتر  عـيـنـيك  المغلق

من  خبـأ  آلاف  الأشـــــعـــار

 

لـو  أنــي  لــو  أنــي  بـــحــار

لـو  أحـــــد  يمـنـحـنـي  زورق

أرسـيت  قلــوعي  كل  مساء

في مــرفــأ  عــيـنـيــك  الأزرق

والقصيدة تتألف من سبعة مقاطع، فهل هي البحار السبعة؟ وهل هي السموات السبع؟ وهل هي الأيام السبعة؟ وما هي في حقيقتها سبعة ولا سبع، بل هي أكثر من مضاعفات السبعة، فالأيام تترى، إلى غير ما نهاية، وِفق ما نحس ونرى، وكذلك السموات ننظر فيها فإذا هي تعلو وتعلو، وتمتد وتمتد، وكذلك البحار تتسع وتتسع، وتمتد وتمتد، إلى ما لا نهاية، فالكون كله في اتساع وتمدد، فإذا الرقم سبعة مجرد رمز لما هو غير نهائي، وكذلك المقاطع في عددها، فهي توحي باللانهاية، كأنها شمعة بين مرآتين متقابلتين متوازيتين. والمقاطع في تعدُّدها، والبحار في تعددها، والسموات في تعددها، هي قصيدة واحدة، وبحر واحد، وسماء واحدة، وهذه هي الوحدة في التنوع، وهذا هو التنوع الذي تضمه وحدة، وهي حقيقة الكون، وحقيقة الشعر. 

وكل مقطع يتألف من أربعة أسطر، والمقاطع قصيرة، سريعة، متلاحقة، فكأنها مويجات بحر هادئ، أو كأنها رفات رموش في عيون، بل كأنها ومضات شعاع في منارة مرفأ. واختار الشاعر اللون الأزرق لأنه لون البحار والسماء، ولاسيما عندما نرى السماء والبحر ممتزجين متعانقين متداخلين عند خط الأفق، فنحس بعظمة هذا اللون واتساعه ورحابته، فهو يشملنا ويحيط بنا، من تحت ومن فوق، ونحن ندخل فيه ونبحر ونغوص، ونذوب فيه ونغيب ونتلاشى، ولا سيما عندما نبحر في عرض البحر، فلا شيء سوى ماء وسماء، هنا نكون في قلب الأزرق، وهو ممتد من فوق ومن تحت، ومن أمام ومن وراء، هو محيط بنا، يستغرقنا، وهو مستمر إلى ما لانهاية.

*

والشاعر لم يذكر العينين، إنما ذكر مرفأ العينين، وبذلك يكون قد أحال العينين إلى مرفأ، وفي العينين سر الحياة، وفيهما تتلامح المشاعر والعواطف والانفعالات، والعينان تتكلمان وتقولان أكثر مما يتكلم اللسان، فالعينان هنا مرفأ، وقد كرَّر الشاعر اللازمة "في مرفأ عينيك الأزرق"، في مفتتح كل مقطع، ليوحي أيضًا بالامتداد اللانهائي، ولم يكرِّر اللازمة في مفتتح المقطع الأخير، بل جعلها في نهاية المقطع، أي في ختام القصيدة، فإذا قوله "في مرفأ عينيك الأزرق"، هو افتتاح واختتام، وبذلك يلتقي الختام بالبدء، ولتنتهي القصيدة بالمرفأ، وهي من المرفأ بدأت، أي تدور الدائرة ويلتقي المنتهى بالبدء في حركة دورانية مستمرة لا نهاية لها، ولتؤكد أن الغاية من العينين ليس اللون، وإنما الغاية هي كونهما مرفأ. والمرفأ ليس مدينة إقامة واستقرار، ولا سيما بالنسبة إلى البحَّار، والشاعر هنا يتمنى لو كان بحَّارًا ليرسو كل ليلة في هذا المرفأ ولينطلق في الصباح، فالمرفأ ليس مكان استقرار، إنما هو مكان نزول مؤقت، ثم ليكون منه انطلاق جديد في بحار جديدة، وفي حالات جديدة، وفي مغامرات جديدة، فهو لا يقصد إلى الإقامة في هذا المرفأ إنما يقصد إلى النزول فيه كل مساء، ليعاود الانطلاق، بل إنه لا يقصد إلى ذلك، بل يحلم به، إذ إنه تائه ضائع في البحار، مثله مثل الملاح التائه، ويتمنى لو أن لديه زورقًا، ليرسو كل مساء في مرفأ عينيها الأزرق، ثم ليعاود رحلة التشتت والضياع في البحار، وهذا ما عبر عنه الشاعر بصدق وفن في المقطع الأخير:

لو أني لو أني بحار

لو أحد يمنحني زورق

أرسيت قلوعي كل مساء

في مرفأ عينيك الأزرق

 وهكذا فالقصيدة رحلة بحث عن مرفأ، لاستراحة مؤقتة، من أجل انطلاقة متجددة، في بحار المغامرة، وهذا هو دأب الإنسان، يملّ من الترحل والانتقال، ويودّ لو يستريح، ولكنه لا يريد الاستقرار، بل يريد الانطلاق، وهذا هو مفتاح القصيدة: الانعتاق والانطلاق، والشاعر يبحث عن المستحيل، بل يحلم بما هو مطلق، ومعجز، وبعيد المنال، وبما هو غريب وفريد ومتميز، لا ينتمي إلى عالم الواقع والحس، إنه يطلب مرفأً عجائبيًّا، وقد عبَّر عن هذا في المقطع الأول مستعملًا كلمة صريحة وهي "المُطْلَق"، فهو يسعى إلى المطلق واللامحدود، ويتجاوز العادي والمألوف والمحدود.

ولذلك أتى بأوصاف وصور عجائبيّة لمرفأ عينيها الأزرق، ففيه أمطار من ضوء، وهذا الضوء مسموع، وبذلك يحرِّض ثلاث حواس، ويجعلها تتداخل وتتراسل وتتجاوب، فثمة أمطار، تثير حاسة اللمس وتوحي بالنداوة والبلل، وهي خصب وخير وحياة، وهي مياه عذبة تنضاف إلى ماء البحر المِلح، بل تعود إليه صافية عذبة، وهي التي خرجت منه، وهي أمطار من ضوء، ينبِّه حاسة البصر، والضوء نور يغمر الكون، وهو حياة، وهذا الضوء مسموع، ولا يكون هذا التراسل بين الحواس إلا في ذروة التوتر والإحساس بوحدة الكون والكائنات، والدخول في غمار التجربة والمعاناة والانصهار.

وثمة شموس في مرفأ عينيها ترسم رحلته للمطلق، وهذا كله دليل على عجائبية ذلك المرفأ وسحره، وبذلك يتجاوز نزار مسألة الجسد واللذة والحس، ليعبِّر عن رغبة في الانطلاق في رحاب الكون، من خلال مرفأ عينيها، وليعانق المطلق، ولكن لا ليفنى فيه، ويحل، ويذوب، بل ليأوي إليه كل مساء، ثم يعود إلى الرحلة والضياع والاغتراب، ليتجدد، كالعنقاء، كما صرَّح في الختام، وهو الذي من غير زورق.

ويؤكد هذا المطلق بحث الطيور في المقطع الثاني عن جُزُر لم تُخْلَق، وتؤكده مراكب حبلى بالفيروز تُغرِق البحر ولا تَغرق، وتؤكده رغبته في أن يعود طفلًا، وعصفورًا، ويؤكده حلمه بالبحر والإبحار وصيد ملايين الأقمار وعقود اللؤلؤ والزنبق، وهو بذلك يريد أن يجمع الماء والسماء والأرض بما فيها من زنابق، وثمة في مرفأ عينيها الأزرق بعد ذلك حجارة تتكلم، ودفاتر مغلقة تخبئ آلاف الأشعار، أي أنه يرى في مرفأ عينيها الأزرق: الأرض والتاريخ والثقافة والحرية والإبداع والحضارة. وعودته طفلًا هي عودة إلى البراءة والطهر والنقاء، وعودته عصفورًا هي عودة إلى الحرية والسماء والروح، فالطير عند المصريين والفرس والعرب رمز للروح.  

وهكذا فمرفأ عينيها ليس كأي مرفأ، هو مختلف، هو مرفأ عجائبي، يشمل الكون والكائنات، بما فيها من ماء وضوء وصوت ونبات وثقافة وتاريخ وحضارة، ومثل هذا المطلب دليل سَأَمٍ من اليومي والعادي والمكرر، ودليل بحث عن خلاص من الوحدة والغربة والضياع، ودليل بحث عن استراحة ولو مؤقتة في رحلة الحياة المتعبة، ومحاولة للتطهر والعودة إلى البراءة والروح. ويلاحظ حضور الماء والهواء والتراب، وغياب عنصر النار، وهذا طبيعي لأن القصيدة بحرية، والشاعر تائه في البحار، وهو لا يريد النار، بل يريد اليابسة، والزنبق، والحجارة الناطقة، والأشعار، والضوء والأقمار، والهواء، ولا يريد النار. وبذلك تتضح وحدة القصيدة، على الرغم مما فيها من تنوُّع غنيٍّ، وتتأكد وحدتها من خلال ذلك التكرار الذي لا يُمَلّ، لأنه تكرار يؤكد الأزرق، وينشر اللون، على طول القصيدة، مثلما هو منتشر في الماء والسماء، بل مثلما هو متَّحد في الماء والسماء، فهو اللون الذي ينسج القصيدة ويمنحها لونها.

*

ويبدو عنوان القصيدة "القصيدة البحرية" أنسب ما يكون لها، وهو مفتاح فهمها، فهي عن بحَّار يريد أن يستريح من البحار كل مساء في مرفأ العينين، ليعاود رحلته في الصباح، وليس مرفأ العينين هنا مكان استقرار، وعلى هذا كان العنوان القصيدة البحرية، وليس: "القصيدة الزرقاء" مثلًا، ولا "عينان زرقاوان" ولا "مرفأ عينيك الأزرق".

وتظل القصيدة مفتوحة على قراءات لا تنتهي، فهي تفتح آفاقًا، وتطلق خيال المتلقي، فثمة مراكب حبلى بالفيروز، تغرق البحر ولا تغرق، وثمة دفتر مغلق، يحتاج لخيال ليفتحه، ولا يعرف مَن خبأ فيه آلاف الأشعار؟ وما هذا التمني في الختام أن يكون بحارًا؟ وما هذا الرجاء من أحد يمنحه زورقًا ليبحر في مرفأ عينيها؟ هل هو الرغبة في البعد عن هذا المرفأ؟ هل هو الحرمان منه؟ هل يبحث الشاعر عما هو ساحر ومعجز ومختلف؟ هل يبحث عما هو مطلق؟

هذا هو سر القصيدة، فما هي كما تبدو للوهلة الأولى تغزُّلًا بزرقاء العينين، وما هي بالقصيدة الحسية، وإنما هي قصيدة بحرية يتمنى فيها الشاعر أن يكون بحَّارًا، وأن يمنحه أحدٌ زورقًا، كي يبحر إلى ذلك المرفأ البعيد، الغائب في الزرقة بين السماء والأرض، الغائب في الزرقة الأبدية، الزرقة التي توحد السماء والبحر وتشمل الكون.

إن الشاعر لا يقف عند مرفأ العينين الأزرق ليتأمل فقط، وهو لا يحلم بأن يستقر في هذا المرفأ، إنما يرغب في أن ينطلق منه إلى عالم بديع مبتكر لا وجود له، إلى عالم مختلف، يتحرر فيه، ويتمنى لو كان بحارًا، أي يتمنى لو كان يعيش حالة من الانعتاق من أسر المادة، ويرغب في أن يمتلك وسيلة هذا الانطلاق وهو الزورق، وذلك من أجل أن يبلغ ذلك المرفأ الذي هو حلم ببلوغ الكل المطلق الشامل، وهو يدرك أنه لا يمكن الاستقرار فيه ولكن يكفي أن يعود إليه كل مساء.

إن اللون الأزرق ليس هو المقصود، وليست العينان الزرقاوان في حد ذاتهما بالمقصودتين، فثمة نساء كثيرات لهن عيون زرق، إنما المقصود هو صاحبة هاتين العينين الزرقاوين اللتين تملكان هذه الإيحاءات، والقوى الفاعلة والمؤثرة، ولذلك لا يمكن الزعم بأن الشاعر يتغزل بصاحبة عينين زرقاوين لأنه كان يعيش في لندن، فهذا تفسير سطحي، من خارج القصيدة، وقد يصح، وقد لا يصح، ففي كل مكان من العالم نساء ذوات عيون زرق، ولكنه تفسير لا يغني القصيدة في شيء، ولا ينبع من داخل القصيدة، والشاعر لا يتغزل بالمعنى المألوف للغزل، إنما هو ينطلق من صاحبة هاتين العينين إلى تلك الآفاق الرحبة.

والأزرق في هاتين العينين لا يعني الأزرق نفسه، أي ما ليس هو بأسود أو أصفر أو أخضر، إنما يعني الأزرق الذي يمتلك تلك الإيحاءات، فالكلمة في الشعر ليست هي نفسها في الحياة اليومية، لأنها في الشعر تملك معنى المعنى، بل تملك إيحاءات المعنى، وتملك دوائر تنداح من الكلمة وتتسع وتتسع إلى ما لا نهاية، والكلمة في الحياة اليومية تملك معنًى واحدًا، ولا يمكن أن تملك غيره، ويؤكد ذلك النص نفسه، وليست كل ذات عينين زرقاوين تملك القدرة على بعث مثل تلك الإيحاءات، إنما هي امرأة بعينها.

يقول الشاعر بول كلوديل2:

الكلمات التي أقولها

هي نفس الكلمات التي تقال كل يوم

ولكنها ليست على الإطلاق نفس الكلمات 

*

وليست هذه القصيدة الوحيدة التي يعبر فيها الشاعر عن طموحه نحو الانعتاق من الواقع الحسي والمادي، والانطلاق نحو ما هو غير محدود، بل نحو ما هو أبدي وخالد، وليست هي الوحيدة التي يذكر فيها اللون الأزرق، إذ نجد قبل "القصيدة البحرية"، في مجموعاته الشعرية خمس قصائد يذكر فيها اللون الأزرق، ويسعى فيها أيضًا نحو الانعتاق والانطلاق. فثمة قصيدة عنوانها "وشوشة" [مجموعة طفولة نهد 1948]، يعبِّر فيها عن الانعتاق والانطلاق، ويذكر اللون الأزرق، انطلاقًا من وشوشة من الحبيبة، فقد همست له، ومن همسها انطلق نحو فضاء أزرق أيضًا، فقال3:

في ثغرها ابتهال

إلى انعتاق أزرق

نشرد تياري شذا

أنا كما وشْوَشْتِني

مخدَّتي طافية

يهمس لي تعال

حدودُه المُحال

لم يخفقا ببال

ملقى على الجبال

على دم الزوال

وقد ذكر أنه يريد انعتاقًا حدودُه المُحال، أي لا حدودَ له، وجعل مخدته طافيةً على دم الزوال، فكأنه يريد أن ينحر الزوال، ويمتلك الأبد والبقاء، وهذا تعبير عن رغبة في الانعتاق والانطلاق من خلال المرأة، فهي بالنسبة إليه حرية وانطلاق لا يحد.

وليس ورود الأزرق في القصيدتين مصادفة، ولا ضرورة شعرية، فبإمكانه أن يقول: أبيض أو أصفر أو أخضر، فلا ينكسر الوزن، في القصيدتين، وإنما هو دليل رسوخ الأزرق في لا شعور الشاعر على أنه مجال خصب للتحرر والانعتاق والانطلاق.

وفي قصيدة ثانية عنوانها "لو" [مجموعة طفولة نهد 1948] يحكي عن لقائه صبية في حفل، سقط منها منديلها، فالتقطه، ودعاها إلى الرقص، فاستجابت، وهو يصف لحظة سقوط المنديل والتقاطه بأنها زرقاء، ثم يجعلها لحظة انطلاق الحب، واتساعه، هي لحظة فيض، وإشراق، فقد عاد بعد تلك الهنيهة إلى غرفته حالمًا، ولولا تلك اللحظة لما كتب وأبدع، ولَمَا امتلأ قلبه بالنبض والدفء، فهو يصف تلك الهنيهة بأنها انطلاقة في عالم الحب والشعر والفن والحياة، ويصفها بأنها هنيهة زرقاء. يقول في قصيدة "لو"4:

هنيهة زرقاء لو أفلتت

من ذلك التاريخ جاء الهوى

ليلتها عدت إلى حجرتي

حاولت أن أنسى فلم يغتمض

لو لم يكن ما كان لم ترتعش

وظل قلبي موحشا يابسا

مني لم أعرض ولم تعرضي

وقبل لم أعشق ولم أبغض

وبي عبير منك لا ينقضي

جفني وجفن الحب لم يغمض

لي ريشة والشعرَ لم أقرض

لم يعرف الدفء ولم ينبض

والشاعر يمنح اللون الأزرق للهنيهة من الزمن، وهي لحظة سقوط المنديل، والهنيهة هي قيمة معنوية وفكرة مجردة، وبذلك يُكْسِبها حضورًا حسيًّا، إذ تصبح الهنيهة ذاتَ حضور، وهو حضور واسع عريض ممتد بما يحمل من لون أزرق، تكتسبها من امتداد السماء واتساع البحر، فكأنها هي السماء والبحر في الاتساع والامتداد والشمول، ويتأكد هذا الاتساع بما كان نتيجة هذه الهنيهة من حب، فهي التي منحته الحب ونبض القلب وصنعت لحظة تاريخية فاصلة ومنحته عبيرًا لا ينقضي، وهنا يظهر الطموح نحو الانطلاق، فالعبير لا ينقضي. وهكذا تتسع الهنيهة لتصبح تاريخًا، والذي يساعد على صنع هذا الإيحاء هو وصفها بأنها هنيهة زرقاء.

وثمة قصيدة ثالثة يظهر اللون الأزرق فيها، إذ يصف العصافير باللون الأزرق، عنوانها "وشاية"5  [مجموعة أنت لي 1950]، وفيها يقول:

أأنتَ الذي يا حبيبي نقلتَ

فجاءت جموعًا جموعا تدق

وتغرق مضجعنا زقزقات

وهل قلت للورد حتى تدلى

ومن قص قصتنا للفراش

سيفضحنا يا حبيبي العبير

لزرق العصافير أخبارنا؟

مناقيرها الحمر شباكنا

وتغمر بالقش أبوابنا

يزركش بالنور جدراننا

فراح يلاحق آثارنا

فقد عرف الطيب ميعادنا

ويظهر الانطلاق في انتشار قصة الحب بين الشاعر والمرأة، فقد عرفت العصافير قصة حبهما، فجاءت جماعات جماعات لتغرق مضجعهما بالعطر وتملأ بالقش الأبواب، وفي هذا انطلاق لقصة الحب وانتشار واتساع، واختيار اللون الأزرق يوحي بكثرة هذه العصافير، وكأنها قادمة من السماء تحمل لونها، وتدل كثرتها وكونها جماعات على اتساعها مثل اتساع السماء والبحر.  

وفي قصيدة رابعة يتغنى نزار بخطاب جاءه من حبيبته في قصيدة عنوانها "خطاب من حبيبتي"6 [مجموعة حبيبتي 1961]، فيقرؤه أربعين مرة أو أكثر، ويتمنّى لو يقرؤه للكون كله، ثم يصفه بأنه أزرق، واسع الطيف، أغنى من البحور وأوسع، فيقول:

عندي خطاب منك... يا لَلْنبأ المثير

داخت به وسائدي

داخت به ستوري

أود لو قرأته للنهر للنجمة للغدير

للريح للغابات للطيور

عندي خطاب أزرق

ما مر في ذاكرة البحور

ويؤكد وصف الخطاب بأنه أزرق دلالة الأزرق على الرحابة والاتساع، والانطلاق في رحاب واسعة، لأن الخطاب غني بالمعاني والمشاعر والعواطف التي تتجدَّد ولا تنفد، والتي تتوالد ولا تموت، ولذلك يقرؤه أربعين مرة، ويعيد قراءته، ورقم أربعين لا يعني مجرد العدد، إنما يعني اللانفاد واللانهاية، فكأنه متوالية هندسية لا نهاية لها، ولذلك وصفه بالأزرق، دلالة على اللانهاية.

وفي القصائد الأربع (وشوشة ـ لو ـ وشاية ـ خطاب من حبيبتي) جاء الوصف باللون الأزرق عفويًّا، وطبيعيًّا، ولم يكن لإقامة الوزن، ولا من أجل ضرورة شعرية، ففي المواضع الأربعة كان من الممكن أن يكون الوصف بأي لون آخر، ولا يختل الوزن.

*

وقد يقال إن الشاعر في انطلاقه نحو المحال والكلي والمطلق إنما ينطلق من المرأة، من عينيها، ومن وشوشتها، بل من جسدها، وهذا لا يقدح في انطلاقه نحو المحال أو المستحيل، وتساميه، بل يؤكد أنه يرى في المرأة خلاصًا وانطلاقًا وحرية، ولا يراها مجرد وعاء شهوة وميدان لذة ومتعة، فالرجل والمرأة معًا يحققان الحرية ويصنعان الانعتاق ويؤكدان معنى الإنسان.

*

ويمكن تلمُّسُ النواة الحقيقية لـ "القصيدة البحرية" في قصيدة "رحلة في العيون الزرق" [مجموعة قصائد 1956]، وهي أسبق منها، وكأن هذه القصيدة هي الخيط الذي نُسِجَتْ منه "القصيدة البحرية"، فكل العناصر والمكونات المتوافرة في "رحلة في العيون الزرق" ظهرت في "القصيدة البحرية"، ولكن بفنية أعلى، وبنضج أعمق وأوسع، فالقصيدة الأولى، ونعني "رحلة في العيون الزرق"، نشرت في مجموعة قصائد 1964، وهي الأسبق، و"القصيدة البحرية" نشرت في مجموعة: "الرسم بالكلمات 1966، وجاءت بعدها، وليس بينهما غير سنتين، وهذا يعني أن الرحلة في العيون الزرق ظلّت هاجسًا في وجدان الشاعر، ولم يشعر بالرضا عن هذا الحلم بالرحلة في العيون الزرق، فكتب القصيدة الثانية، "القصيدة البحرية"، ليروي ظمأه الفني، ويحقق حلمه، وفيما يلي نص قصيدة "رحلة في العيون الزرق"7:

أسوح بتلك العيون

أنا فاتح الصحو فاتح

أشقُّ صباحا أشقُّ

وتعلم عيناك أني

أُكوِّن جُزْرًا وأُغْرِق

أنا أول المبحرين على

حِبالي هناك فكيف

أنا يوم غنَّت صواريَّ

تساءلتِ والفُلْكُ سكرى

أفي أبد من نجوم

قذفت قلوعي إلى البحر

ويسعدني أن ألوب

عزائي إذا لم أعد

على سفن من ظنون

هذا النقاء الحنون

ضميرًا من الياسمين

أجدف عبر القرون

جُزْرًا فهل تدركين؟

أزل من لحون

فكيف تقولين هذي جفون؟

تجرح صدر السكون

وبحَّارتي ينشدون

ستُبحر؟ هذا جنون

لو فكرتُ أن تهون

على مرفأ لن يكون

أن يقال: انتهى في عيون

وفي كلتا القصيدتين سفن من ظنون، ومراكب تغرق البحر ولا تغرق، وفيهما رحلة في العيون الزرق ومرفأ عينيك الأزرق، وفيهما ألوب على مرفأ لن يكون وفي مرفأ عينيك الأزرق، وفيهما أنا أول المبحرين، ولو أني بحار، وفيهما أكوِّن جُزُرًا وأُغْرِق جُزُرًا، وسفن أغرقت البحر ولم تغرق، وغير ذلك من العناصر والصور والمكونات اللغوية الواحدة، لا لأنها لشاعر واحد، ولا لأنها تكرار، بل لأنها تعبير عن رغبة في الانطلاق والانعتاق.

*

و"القصيدة البحرية" تنمّ عن انشغال بعينين زرقاوين لم يجد من سبيل إلى الارتواء منهما إلا بقصيدتين عن البحر والعيون الزرق، بينهما من الزمن عامان اثنان، مما يدل على قوة التأثر بهاتين العينين، وظلَّ اللون الأزرق يسكن في روحه، وظل الأزرق يوحي إليه بالانطلاق الحر الواسع في آفاق لا تنتهي، وفي كلتا القصيدتين يبدو الوصول إلى هاتين العينين أقربَ إلى الحلم بالمستحيل، وإنْ هما إلا حُلُم، ففي الأولى "رحلة في العيون الزرق" يُعلن أنه يلوب على مرفأ لن يكون، وهو يَعِدُ أن يغرق فيهما وألا يعود، وهو في الثانية "القصيدة البحرية" يتمنى لو كان بحَّارًا ولو أن أحدًا يعيره زورقًا، وهذا يدل على أن الوصول إلى هاتين العينين لم يتحقق، وإنما هو حلم بالمستحيل، وهنا يكمن سر هذا الانطلاق في حلم أزرق، وتبدو القصيدة الأولى "رحلة في العيون الزرق" أقرب إلى الغنائية والكتابة العفوية في حين تبدو القصيدة الثانية "القصيدة البحرية" أكثر إتقانًا، ولا تخلو من صنعة فنية وقصد، وبناء مصنوع بإتقان ووعي.

*

إن العينين الزرقاوين لم تحركا لدى الشاعر الرغبة الجنسية، ولم تكونا مثيرتين، بل كانتا دافعتين إلى الرغبة في الانطلاق نحو آفاق وآماد وأبعاد لا حدود لها، تتجاوز الحس والجسد، وتتجاوز الزمان والمكان، بل تتجاوز الأزرق نفسه. يؤكد ذلك عدم وجود أي إشارة إلى الجسد أو رغباته، أو أي ذكر لجسد المرأة أو رغباتها، وكل عناصر القصيدة لا تحمل في أعماقها أي احتمال للتفسير الجنسي. لقد انطلق الشاعر من عينين زرقاوين، ولكنه لم يحبس نفسه في إسارهما، بل وجد فيهما سعة الكون كله، سعة البحار والسموات، وتجاوز مسألة الحس أو الجمال الحسي الفرد المعين والمحدود ليعانق الجمال الكوني الكلي الشامل. وهذا هو سر إعجاب المتلقين بشعر نزار بصورة عامة، لأنه استطاع من خلال تعبيره عن رغباته أن يعبر عن رغبات الناس جميعًا، وهي رغبات كامنة في أعماق كل فرد، ولكنها غائمة، ولا يعيها، ولا يدركها بمثل هذا الوعي أو الوضوح، فكل فرد يريد شيئًا ما، ولكنه لا يعرف ما هو، ولذلك يصبح قلقًا، يعمل طوال اليوم، ويجني ويكسب ويدرك في النهاية أنه لم يحقق شيئًا، ويظل يبحث عن شيء آخر، قد لا يكون سُفُنًا حبلى بالفيروز، وقد لا يكون صيد الأقمار والزنبق، ولكن ما يبحث عنه فيه أطياف من هذا كله أو بعضه، ومن هنا يحقق الشعر حلم الإنسان، ويعبر عما لم يستطع التعبير عنه، وهذه هي جنة الشعر.

وقد عبر عن هذه القيمة العليا في النظر إلى المرأة محيي الدين بن عربي (560 - 638هـ = 1165 - 1240م) ورأى أن معرفة الله عزَّ وجل تنبع من معرفة الذات، وأن معرفة الذات حق المعرفة لا تكون إلا بمعرفة المرأة وحبِّها، ولذلك فإن أقرب طريق إلى حب الله، هو حبُّ المرأةِ الحبَّ الحقَّ، أي أن يحب الله فيها، ومَنْ لا يفعل، فلا يمكنه أن يحب المرأة الحب الحق، وإنما يحب فيها الجسد فقط، والرجل في هذه الحالة لا يمكنه أن يعرف نفسه ولا المرأة ولا ربَّه، لأنه لم يحبَّ الله في المرأة. ولابن عربي في هذا كلام طويل ومفصَّل، ومنه قوله8: "المرأة جزء من الرجل.... ومعرفة الإنسان لنفسه مقدَّمةٌ على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه، لذلك قال عليه السلام: "من عرف نفسه، عرف ربه".... فحنَّ (الرجل) إليها لأنه من باب حنين الكُلِّ إلى جزئه... وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه... ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة.......فشهودُه للحقِّ في المرأة أتم وأكمل....إذ لا يُشاهَدُ الحقُّ مجردًا عن المواد أبدًا....وإذا كان الأمر مِنْ هذا الوجه ممتنعًا فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله". ويتابع ابن عربي مؤكدًا أن الحب الحق للمرأة هو حب الله فيها، أما إذا لم يكن كذلك، فهو مجرد تَعَلُّقٍ بالجسد، لا يعرف صاحبُه نفسَه ولا المرأةَ ولا يعرف ربَّه، ويقول في ذلك9: "فمَنْ أحبَّ النساءَ على هذا الحدِّ فهو حبٌّ إلهي، ومَنْ أحبَّهُنَّ على جهةِ الشهوة الطبيعية خاصة، نقصه علْمُ هذه الشهوة، فكان صورةً بلا روحٍ عنده، وغابَ عنه روحُ المسألة، فلو علمها لعلم بِمَنِ التذَّ ومَنِ التذَّ وكان كاملاً".

وهذا يعني أن رحلة الحب ليست متعة جسدية، إنما هي رحلة إيمانية، وهي تعني أن الخلاص في هذا العالم قوامه الحب والإيمان، وهما شعوران متكاملان، فمن يحب يؤمن، ومن يؤمن يحب، وهذه هي حقيقة الرحلة، رحلة الحياة، وما الحياة إلا مكان له بدء ومنتهى، وحياة الإنسان بينهما مجرد ارتحال. وقد يختلف الناس في هذه الأمور، أو فهمها، أو في السبل إليها، أو في أشكال التعبير عنها وممارستها، وهذا أمر لا بد منه، ومُسَلَّمٌ به، ومتوقع، فالحب "تجربة شخصية، لا يمكن أن تكون لدى كل إنسان إلا بنفسه ولنفسه"10، ولذلك فلا بد من التعدُّد والتنوُّع، بل لا بد من الاختلاف، لأنه قانون الحياة، ولذلك لا بد من أن يكون في الحب ألوان.

ومما لا شك فيه أن نزارًا لم يقصد إلى ما قصد إليه ابن عربي بهذا الشكل من التحديد والدقة والوضوح، لقد قصد نزار إلى مجرد الانعتاق من اليومي والمحدَّد ومن الجسد والانطلاق إلى ما هو أغنى وأشمل وأوسع، وهو يلتقي في هذا الحد مع طموح كل إنسان إلى التحرر من الواقع اليومي المعيش والدخول في عالم رحب مما هو غير محدود. فالشاعر لا يعبر عن رغبة فردية خاصة، وإنما يعبر رغبة إنسانية، فكل إنسان يرغب في أن يرجع مساء إلى جنة يرتاح فيها ويطمئن، وجنة من الجمال الكلي، يتخلص فيها من أعباء الحياة اليومية العابرة التافهة، ليحس أنه في جُزُرٍ لم تخلق، أو ليرى أنوارًا من ضوء مسموع، أو يرى مراكب حبلى بالفيروز، أو يعود طفلًا، وهي حالات وعاها الشاعر واستطاع التعبير عنها، ولكن الإنسان العادي لا يعيها هذا الوعي، ولا يستطيع التعبير عنها، وقد لا يفكر في حالات من الانعتاق في مثل هذا المستوى الباهر والمطلق، ولكنه يحسُّ بها، ويحققها، يحس بها الإنسان عندما يرجع إلى بيته، ليلتقي الزوجة والأولاد، أو ليمضي وقتًا أمام التلفاز ينطلق فيه في عوالم وفضاءات، أو يمضي إلى المقهى أو المسرح أو يسهر مع الصحب ويبحر في عوالم ليست كالعوالم التي ذكرها الشاعر، ولكنها على الأقل عوالم تمنحه الحرية ويحس أنه بحَّار، أو يكاد، هي عوالم من الفن والجمال والموسيقا والغناء أو لقاء الصحب والسمر والتسلية والأنس، هي عوالم الجمال، تكسبه خبرات وتجارب جمالية. إن الحس والجسد والمادة لا يمكن أن تشبع وحدها رغبات الإنسان، رجلًا وامرأة، ولا يمكن أن تحقق وحدها طموح الإنسان إلى السامي والكلي والمطلق، بل لعله وهو في قمة انغماسه في المادة والحس والجسد يتوق أكثر فأكثر إلى ما هو روحي ومعنوي ومجرد، ويتطلع إلى ما هو كلي ومطلق.

ولقد عبر عن هذا التطلع إلى الانعتاق والسمو إلى ما هو روحي ابن الرومي، وهو منغمس في عمق المادة والحس، فقال11:

أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ

فألثمُ فاها كي تموتَ حزازتي

وما كان مقدار الذي بي من الجوى

كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه

إليها وهل بعد العناق تداني

فيشتد ما ألقى من الهيمان

ليَشْفِيَهُ ما ترشُفُ الشَّفَتانِ

سوى أنْ يرى الروحَيْن يمتزجان

وهذه حقيقة الإنسان، ليس روحًا خالصًا، ولو زهد وتصوف، فيظل يحنُّ إلى المادة والجسد، وليس جسدًا محضًا، ولو انغمس في المادة، فيظل يتطلع إلى السمو والروح، ولعل أجمل قصائد الزهد والتوبة والتوجه إلى الله هي قصائد أبي نواس، وببعضها يتغنَّى النسَّاك والمتعبدون، وينشدها المنشدون، وما يزال الإنسان متقلِّبًا بين حدَّيْن، وإذا تغلب أحدهما على الآخر، فإن الآخر لا يموت، بل يظل كامنًا، ولا بد له من تجليات يظهر فيها، بشكل من الأشكال، أجملها الظهور الفني الجمالي، وأقساها مرض نفسي وربما جسدي، وفي هذا تكمن حقيقة كونه الإنسان. 

 

الهوامش:

1 - قباني، نزار، الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الأول، منشورات نزار قباني، بيروت، لاتا، ص 477، من مجموعته الرسم بالكلمات، 1966.

2 - كوين، جون، اللغة العليا: النظرية الشعرية، تر. أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط. ثانية، 2000، ص 140، وينظر الصفحات التي تليها.

  قباني، نزار، الأعمال الشعرية، المجلد الأول، ص 100 ـ 101.

3 - المصدر السابق، ص 136

4 - المصدر السابق، ص 240

5 - المصدر السابق، ص 425 ـ 426

6 - قباني، نزار، الأعمال الشعرية، المجلد الأول، ص 297 ـ 298

7 - ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحِكَم، تح. أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لاتا، 215.

8 - المصدر السابق، 217 - 218.

10 - فروم، إريك، فن الحب، تر. مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار العودة، بيروت، 2000، ص 97. 

11 - ابن الرومي، ديوان ابن الرومي، تح. أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. ثالثة، 2002، ج. ثالث، ص 406.


عدد القراء: 3564

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-