تشابه الحكايات الشعبية في العالمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 18:14:52

أ. د. أحمد زياد مُحَبِّـك

أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة حلب

تتشابه كثير من الحكايات الشعبية على الرغم مما يكون بينها من تباعد في اللغة والمكان، فقد يسمع المرء حكاية في قومه وبلغته، ثم يسمعها هي نفسها، أو يسمع ما يشبهها شبهًا كبيرًا في قوم آخرين، وبلغة أخرى مختلفة، وبين القومين تباعد كبير واختلاف، فما سر ذلك التشابه؟ وما طبيعته؟ وما مرجعه؟

*

الحكاية الشعبية هي أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير متقيد بألفاظ الحكاية، وإن كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها ومجمل بنائها العام. والحكاية تقدم قصة ذات بداية وعقدة ونهاية، وتمتاز بالتكامل والتماسك، وقوة الحبك والبناء، وهي تعتمد على حوادث كبيرة فاصلة، وغالبًا ما تكون غريبة ونادرة، ولا يتم الوقوف فيها على الدقائق والتفصيلات.‏ وشخصيات الحكاية واضحة محددة، وهي على الأغلب شخصيات نمطية تتحدّد بموقعها في الأسرة، أو مكانتها في المجتمع، وهي غالبًا شخصيات كثيرة، منوعة، ولكن في قدر كبير من التوازن والانسجام، هو توازن الحياة نفسها، على الرغم مما يبدو فيها في الظاهر من تعدد وتناقض واختلاف. والحكاية تسعى إلى العظة والاعتبار، وهي تحث على الفضيلة، وتحقيق التلاؤم مع الواقع، ولذلك فهي غالبًا ما تقدم خبرة عامة، مشتركة، وتبتعد عما هو فردي وخاص، ولذلك كله كانت الحكاية تتصف بالعمومية والشمول، ومن هنا كانت كل عناصرها من زمان ومكان وشخصيات وحوادث عامة، فهي لا تتحدد بزمان أو مكان أو شخصية، فزمانها هو كل الأزمنة، ومكانها هو كل الأمكنة، وكذلك شخصياتها.

وعندما تسعى الحكاية إلى شيء من التحديد، يظل تحديدًا أوليًا، فالزمان هو قديم الزمان، والمكان هو مكان مجهول وإن امتلك اسمًا، كجزر الواق واق، أو هو عام، كالسوق أو القرية أو البحر أو الجبل، والشخصيات هي الملك أو الفقير والصياد أو الأمير وابنة الملك أو ابنة الفقير، ومرجع ذلك كله إلى تعبير الحكاية عن تجربة عامة، أولية، لا تعقيد فيها ولا عمق، ومعالجتها‏ لقضايا كبرى، كالصدق والكذب، والوفاء والخيانة، والحب والكراهية، والعدل والظلم، والغنى والفقر.‏ وكثيرًا ما تروى حكاية في بلد ما، وتشبهها شبهًا كبيرًا، حكاية أخرى، تروى في بلد آخر، وبين البلدين بعد كبير، واختلاف في اللغة والثقافة.‏

*

ومن ذلك حكاية الملك المغرور، الذي سأل بناته الثلاث أن تصف كل واحدة منهن حبها له، فتملقت اثنتان منهن غروره، فرضي عنهما، وزوجهما من وزيرين من وزرائه، وأبت الثالثة أن تتملقه، فغضب عليها، وزوجها من فقير يعمل وقادًا في حمام، فصبرت على الفقر والذل والهوان، ثم ساعدتها الجن، فاغتنت هي وزوجها، وابتنت قصرًا، ثم دعت والدها الملك إلى مأدبة أقامتها في قصرها، فتعرف إليها من خلال نوع من الطعام خاص أعدته له، ورجع عما كان فيه من غرور.‏ وهي تشبه شبهًا كبيرًا حكاية الملك في مسرحية "الملك لير" لمؤلفها وليم شكسبير1، وهذه نفسها مبنية على حكاية شعبية أيضًا، وبين الحكايتين مسافات في الزمان والمكان واللغة والثقافة.‏

والحكايتان تعالجان موضوعًا واحدًا، وهو غرور الأب العجوز، وخرفه، وحبه التملق، ورغبته في سماع الإطراء، والمديح، ولو رياء، وتقابله ابنته الصغرى، التي ترفض ذلك كله، ولا تعرف سوى الصدق والصراحة والوضوح، وتكون هي الأصدق والأوفى.‏ وعلى الرغم من اتفاق الحكايتين في الموضوع، فإن كلاً منهما تمتلك رؤية خاصة، كما تمتلك عناصر مختلفة، فالحكاية العربية متفائلة، تنتهي بما يسر الأطراف كلها، بخلاف الحكاية الأوروبية.

ومن ذلك أيضًا حكاية رواها باللغة الألمانية الأخوان غريم2 تتحدث عن امرأة عاقر، كانت تعيش مع زوجها، وتمنت ذات يوم أن ترزق بولد، ولو كان بطول الإصبع الواحدة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع والده في الحقل، وهو بذلك الطول، وذات يوم اشتراه من والده عنوة رجلان شريران، ولكنه هرب منهما، وضاع بين سنابل القمح، ورعته بقرة، وصار في جوفها، ثم ذبحت البقرة، وألقيت أحشاؤها على المزابل، والتهم ذئب تلك الأحشاء، والولد في داخلها، فأخذ يحدث الذئب عن بيت المؤونة في مسكن أبويه، ويغريه بدخوله، وطمع الذئب، ودخل بيت المؤونة، وتناول كثيرًا من الطعام، حتى أصبح لا يستطيع الحركة وعندئذ أخذ الولد ينادي أبويه، وهو في بطن الذئب، فحضر الأبوان، فقتلا الذئب، وخلصا الولد.‏ وتشبهها حكاية عربية تتحدث عن امرأة عاقر، تمنت الأمنية نفسها، في ظروف مشابهة، ورزقت بمثل ذلك الولد، وأخذ يعمل مع أبيه في الحقل، ويحمل إليه الزوادة على ظهر حمار، وذات يوم كان والده يحرث في الحقل، وهو يسير إلى جانبه، فانقلب عليه التراب الذي يشقه سن المحراث، ومات تحته. والحكايتان تتفقان في التعبير عن مشكلة العقم، والحاجة إلى طفل، وهما معًا تثيران مشاعر إنسانية، وتتصفان بطبيعة الحلم، وتحملان قدرًا كبيرًا من الإحساس باللامعقول.‏

*

إن الحكاية الشعبية تسعى دائمًا إلى تحقيق الشمول الكلي، بالتعبير عن جوهر التجربة الإنسانية منطلقة من الخاص إلى العام، مستعينة إلى ذلك بالحدث الكبير الفاصل، والشخصية النمطية المحددة، وبالفكرة الواضحة، والتعبير العفوي البسيط. ومن هنا كان تفسير ذلك التشابه بين الحكايات، إذ ليس من الغريب أن يعبر شعب ما في مكان ما عن مشكلة إنسانية عامة كالبخل مثلاً، ويعبر شعب آخر في مكان آخر عن المشكلة نفسها، فيأتي التعبير هنا مشابهًا للتعبير هناك، ما دامت المشكلة إنسانية واحدة.‏ ومثل هذا الفسير يبدو مقبولاً في تفسير بعض الجوانب المتشابهة في بعض الحكايات.

ومن ذلك مثلاً حكاية بلغارية عنوانها: "أرز بالحليب"3، وفيما يلي نصّها:‏ -هل أكلت الأرز بالحليب، يا أخي؟‏ -كلا، لم أذقه.‏ -إيه، أنت لا تعرف شيئًا، إنه شيء لذيذ جدًا.‏ -وهل أكلته أنت؟‏ -كلا، لم أذقه، ولكن أبي أخبرني أن أباه قد رأى مختار قريتنا الغني، وهو يأكله ذات يوم‏. وهي تشبه شبهًا كبيرًا حكاية عربية تروي أن فلاحًا زار المدينة ثم رجع إلى القرية ليخبر صديقه عن الحلاوة وطعمها اللذيذ، ولما سئل إن كان قد أكلها وهو في المدينة، فكان جوابه:‏ -لا، لم أذقها، ولكن عباءتي مسّت عباءة رجل كان يأكلها. والحكايتان تتفقان في التعبير عن فقر الفقير وحرمانه، وعيشه على الحلم والخيال، كما تتفقان في روح السخرية المرّة الشائعة في كل منهما، ولا تختلفان إلا بقدر قليل، يتمثل في مكان الرخاء، إحداهما تتصوره في قصر الإقطاعي، والأخرى تتصوره في المدينة.‏ ومن ذلك أيضًا حكاية من أستونيا عنوانها: كما تزرع تحصد4، وهي تروي أن رجلاً عجوزًا قرع الباب على امرأة غنية، وطلب منها أن تؤويه، فطردته، فقرع الباب على جارتها الفقيرة، فآوته لديها، ولما غادرها في الصباح قال لها: أبارك ما تفعلينه، وذهبت الفقيرة بعد ذلك إلى جارتها تستعير منها مترًا، وأخذت تقيس به قطعة قماش، كي تخيط لولدها قميصًا، وإذا القماش بين يديها يمتد ويمتد ويملأ الغرفة، ولما أعادت المتر إلى الجارة، حدثتها عما كان من أمرها مع ذلك الرجل العجوز ودعائه لها، فأرسلت الجارة الغنية إلى ذلك العجوز تدعوه إلى دارها، فأقام عندها ثلاث ليال، وهي ضائقة به ضجرة، تتمنى رحيله، وهو يغادرها، قال لها: أبارك ما تفعلينه. وكان أول شيء فعلته بعد ذهابه أن عطست، وظلت تعطس إلى المساء.‏

وتشبهها حكاية عربية تروي أن زوجة ضاقت ذرعًا بحماتها فطلبت من زوجها أن يأخذ أمه ويرمي بها في الفلاة ليتخلص منها وكان طوع زوجته، فأخذ أمه، ومضى بها إلى بستان، حيث قدم لها بعض الطعام، وأجلسها إلى جوار نهر، ثم اعتذر إليها، وأخبرها أنه ذاهب لأمر ما، وسيرجع إليها بعد حين، ومضى، وفي نيته ألا يعود إليها، وانتظرت الأم حتى كان المساء، فنهضت ورجعت عائدة إلى البيت، وبينما هي في بعض الطريق لقيها رجل عجوز سألها عن رأيها في الشتاء، فأجابت بأنه شهر الخير والبركة، فيه الأمطار، ولولاه لما كان الصيف، فشكر لها جوابها، ومضى في شأنه، ومضت هي إلى البيت، فلما فتحت لها كنتها الباب دهشت وسألتها كيف رجعت، وما إن فتحت الحماة فمها لتتكلم حتى‏ أخذت اللآلئ والجواهر تنحدر من فمها، فازدادت دهشة الكنة، وطلبت من زوجها أن يأخذ أمها إلى الموضع نفسه وأخذ الزوج حماته إلى حيث أخذ أمه، وتركه هناك، ولما كان المساء رجعت إلى بيتها، وبينما هي في الطريق لقيها شاب وسيم، سألها عن رأيها في الصيف، فأجابته ضائقة به نفسًا متذمرة مشمئزة: يا له من فصل مزعج، ليس فيه سوى الحر الشديد، والريح الساخنة، فتركها ومضى في سبيله، ولما رجعت إلى البيت وقرعت الباب على ابنتها، سألتها البنت على الفور عن أمرها، ولما فتحت الأم فمها لتتكلم أخذت الأفاعي والعقارب تنحدر من فمها.

وواضح أن الحكايتين تتحدثان عن الكلمة الطيبة وأثرها، وعن الخلق الحسن، والمعاملة اللطيفة، وما تجره على صاحبها من جزاء، ولكن كل حكاية اتخذت لنفسها أساليب وشخصيات وارتبطت بدلالات وأبعاد. ولكنهما تتفقان في الغرض وتتشابهان في العناصر والجزئيات.‏ ومن ذلك أيضًا حكاية الرجل ذي اللحية الزرقاء5 وهي مشهورة في أواسط أوربة، وتروي أن زوجاً ثريا تزوج أخوات ثلاثًا أو سبعًا، الواحدة بعد الأخرى، وكان يسلم كل واحدة منهن مفاتيح قلعته أو قصره، ويطلب منهن أن يفتحهن ما يشأن من أبواب، إلا بابًا واحدًا، غير أن زوجاته كنّ يخالفنه، واحدة بعد أخرى، فإذا فتحت إحداهن الباب المحظور رأت ما يفزعها، من جثث الموتى وأحواض الدماء، ويأتي الزوج، فيعرف الأمر، ويكون مصيرهن جميعًا، الواحدة بعد الأخرى، الموت، ثم تكون الأخت الصغرى آخر الزوجات، إذ تتغلب عليه بحيلتها وذكائها، ويساعدها على ذلك إخوتها الذكور.

‏وتشبهها الشبه كله حكاية عربية تروي أيضًا أن رجلاً ثريًا تزوج عدة فتيات، وكن جميعًا واحدة بعد الأخرى، يمتن في ظروف غريبة، ثم إنه تزوج فتاة ذكية، أعطاها مفاتيح قصره، وسمح لها أن تفتح أبواب الغرف كلها، إلا باب غرفة واحدة، ودفعها الفضول إلى فتحها، فرأت قطعة قماش بيضاء، كما رأت جثث زوجاته السابقات، فركبها الذعر، ولما رجع، اكتشف الأمر، ودعاها إلى معرفة سر قطعة القماش البيضاء، وما كان منه إلا أن لفها بها، ومددها على الأرض، ثم أخذ يدغدغ باطن قدميها، وهي تضحك، حتى أغشي عليها، وكان إخوتها قد اختبؤوا في غرفة مجاورة، ولما أحسوا انقطاع صوت أختهم أسرعوا إليها، فأنقذوها، وألقوا القبض على الزوج، وساقوه إلى القاضي فحكم عليه بالموت بالطريقة نفسها التي كان يميت بها زوجاته.‏ والحكايتان متفقتان في المغزى ومتشابهتان في العناصر، وإن اختلفتا في بعض التفاصيل والحكايتان تصوران في الحقيقة ظلم الرجل الغني وتعسفه وتظهران سيطرته وما يحمل من نزعة قوامها الرغبة في تعذيب الآخر. وهو في الواقع رمز لسيطرة الرجل على المرأة وتذويبه لذاتها وتدميرها، وهما تؤكدان خلاص المرأة بفضل ذكائها وحيلتها، وهما تشبهان في بنيتهما العامة حكاية شهر زاد التي تخلص نفسها كما تخلص بنات جنسها من سيف شهريار بفضل ثقافتها وذكائها.‏

ومن تلك الحكايات أيضًا حكاية عربية تروي أن ملكًا كان له في رأسه قرنان، وكان كلما دعا إليه حلاقًا قتله بعد أن يقص شعره، كي لا يخرج إلى الناس فيحدثهم عن قرنيه، حتى لم يبق في البلد سوى حلاق واحد، لم يقتله، وإنما أوصاه أن يكتم السرّ، وخرج الحلاق وحديث القرنين يعتمل في نفسه، حتى ضاق به ذرعًا، فمضى إلى حقل، وجلس بجوار أعواد القصب، وأخذ يهمس: للملك قرون، للملك قرون، فشعر بالارتياح، لإفشائه السر، بين أعواد القصب، ولما رجع إلى بيته، وجد حراس الملك بانتظاره،‏ فدهش، ولما صار بين يديه، أمر الجلاد بقطع رأسه، فأقسم له أنه لم يبح بالسرّ لأحد، ثم حدثه عن أعواد القصب، وعندئذ عرف الملك أن الريح هي التي حملت السر، وأن أعواد القصب هي التي باحت به، وأدرك أن الحقيقة لا بد من أن تظهر، فخرج إلى الناس، وكشف لهم عن قرنيه.‏

وتشبهها الشبه كله حكاية يوغسلافية6 ولا تختلف عنها في غير نقطتين، الأولى تتمثل في كبر أذني الملك، بدلاً من وجود قرنين في رأسه، والثانية تتمثل في بوح الحلاق بالسرّ وهمسه به داخل حفرة في الأرض. والحكايتان تؤكدان ظهور الحق وانكشافه، كما تدلان على ضيق الإنسان نفسًا بالسرّ وحتمية ذيوعه.‏

*

ومثل تلك الحكايات وغيرها كثير، مما هو متشابه، أو متماثل، أو متطابق، على الرغم من انتمائه إلى شعوب أو أماكن أو لغات مختلفة ومتباعدة.‏ وثمة تفسيرات كثيرة لمثل ذلك التشابه، منها القول بوحدة التجربة الإنسانية، والاتفاق في الموضوع العام، مما يساعد على نشوء حكاية في مكان ولدى شعب وبلغة ما، ونشوء حكاية أيضًا مشابهة في مكان آخر، ولدى شعب مختلف، وبلغة مختلفة، ومرجع ذلك إلى تلبية الحكاية لحاجة إنسانية وتعبيرها عن فكرة عامة مشتركة.‏ ومن تلك التفسيرات أيضًا انتقال الحكاية من مكان إلى مكان، ومن شعب إلى شعب، ومن لغة إلى لغة، عبر علاقات الجوار والحرب والتجارة. ومنها أيضًا عودة الحكايات المتشابهة إلى حكاية واحدة ثم انتشارها عبر العصور في أماكن متباعدة وتناقلها بين شعوب وثقافات ولغات.‏ وفي الحقيقة من الصعب الجزم بواحد من تلك التفسيرات، أو تأكيده، فكلها واردة، وقد يصح تفسير ما بالنسبة إلى بعض الحكايات، وقد يصح تفسير آخر بالنسبة إلى حكايات أخرى.

والمشكلة قائمة في الحكاية نفسها، إذ إنها تروى دائمًا شفاهًا، ونادرًا ما توثق كتابة، وهي تنتقل من جيل إلى جيل، من غير عناية بنسبتها إلى راويها، فليس لها إسناد، ولا يعرف راويها الأول. وإذا كانت بعض الحكايات تدور في بيئات متميزة كحكايات الصيادين والأسماك السحرية والكنوز، فهذا لا يعني بالضرورة أنها من نتاج بيئة بحرية، وإن كان هذا هو الأقرب إلى المنطق والعقل، ولكن لا بد من ذكر قوة إبداعية خلاقة، وهي الخيال، وفي بعض الحالات يبدو الخيال أقوى تأثيرًا ولذلك ليس غريبًا أن تكون بعض حكايات البحر والصيادين من إبداع بيئة بعيدة عن البحر نفسه.‏ ولذلك، يصعب الجزم بمكان نشوء هذه الحكاية أو تلك، مثلما يصعب معرفة الراوي الأول أو المبدع، كما تصعب معرفة اللغة الأولى التي ظهرت فيها هذه الحكاية أو تلك.‏ ومما تجدر الإشارة إليه ههنا هو العناصر الجزئية الشائعة في الحكايات الشعبية في العالم كله، وهي عناصر كثيرة مكرورة، منها على سبيل المثال الأبواب الأربعون التي يسمح بفتحها كلها إلا بابًا واحدًا لا‏ يسمح بفتحه، ومنها الولد الضائع، يغيب عن أبويه، ويلاقي اعنت والأهوال، ثم يرجع إليهما وقد خبر الحياة وعرفها، وأصبح أقوى وأذكى، ومنها أيضًا الوحش الرابض على عين ماء، لا يطلق الماء منه إلا بعد فدية ينالها، ثم يكون الخلاص على يد غريب يقتله ويظفر بابنة الملك، وهي، وغيرها كثير، عناصر شائعة في الحكايات الشعبية، وتنتقل من حكاية إلى حكاية، وكأنها حجر أساس فيها، وهي على ما يبدو نتاج خبرة إنسانية مشتركة لعلها ترجع في التاريخ إلى جذور بعيدة.‏

وربما كانت بعض تلك العناصر مستوحاة من القصص الديني كحكاية الأبواب الأربعين التي قد تكون مستوحاة من شجر الجنة الذي أبيح لآدم التناول من أي شجرة شاء ما عدا شجرة واحدة. وكحكاية الولد الغائب التي قد تكون مستوحاة من قصة يوسف الصديق عليه السلام وقد غاب عن أبويه ولقي العنت ثم التقاهما وهو أعز مكانة.‏ وربما كانت بعض تلك العناصر مستوحاة من الأساطير أو التاريخ، كحكاية الوحش الرابض على عين ماء، التي تشبه أسطورة أوديب وقتله الوحش على أبواب ثيبة.‏ ولعل ذلك كله يفسر انتشار الحكايات في العالم وتشابهها، فلعلها ترجع إلى ثقافة واحدة، انتشرت وتنوعت، وتم استيحاؤها والتحوير فيها بما يلبي حاجة الشعوب.‏

*

وإلى جانب ذلك كله ثمة حكايات شعبية عربية كثيرة يتشابه بعضها مع بعضه الآخر، وهي منتشرة في معظم الأقطار العربية، وهي من غير شك ذات أصل واحد، ومنشأ واحد، وبعدها عريق موغل في القدم، ولكن روايتها طرأ عليها تعديل هنا وتغيير هناك، بسبب التداول والانتقال من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.‏ ومن تلك الحكايات حكاية الراعي والأفعى. وكانت معروفة لدى العرب قبل الإسلام، وقد أشار إليها النابغة الذبياني في شعره. ثم يورد في شعره حكايتها وتتلخص في أن حية كانت تعيش في واد وكان الناس يخشون النزول فيه، ثم نزل في الوادي أحد أخوين، فرعى إبله، وذات يوم لدغته فمات، فنزل أخوه في الوادي ليقتلها، فعرضت عليه أن تعطيه دية أخيه دينارًا كل يوم، فوافق، وظل على هذه الحال زمنًا، إلى أن ذكر ذات يوم أخاه، فأخذ فأسًا، فضرب جحرها، فخربه، فقطت عنه الدينار، فخاف شرها وندم على ما فعل، ثم عرض عليها أن يعودا إلى ما كانا عليه، فقالت: كيف ذلك وهذا أثر فأسك؟‏7.

والحكاية نفسها معروفة اليوم بصورة لا تختلف عنها إلا قليلاً، فهي تروي أن راعيًا كان يعزف على نايه، فخرجت له أفعى، ورمت له بدينار تعبيرًا عن إعجابها بعزفه، وصار هذا شأنه وشأنها، يأتيها كل يوم، يعزف لها، فترمي إليه بدينار، حتى كان يوم مرض فيه، فأخبر ولده بأمر الأفعى، ثم طلب منه أن يفعل فعله، فأخذ الولد يعزف لها كل يوم، وأخذت ترمي له بالدينار، حتى كان يوم طمع فيه الولد، فتبعها إلى جحرها، حتى إذا بلغته، ضربها بفأس، فقطع ذيلها، ولدغته، فمات، وشفي الرجل من مرضه، ورجع إلى الأفعى، وأخذ يعزف لها، فلما خرجت إليه، عرض عليها أن يعودا إلى ما كانا عليه، فاعتذرت مؤكدة‏ له أنه لن ينسى ولده، وأنها لن تنسى ذيلها8.‏

وواضح أن الحكاية الأخيرة ليست إلا رواية جديدة للحكاية الأولى، مما يؤكد أنهما تنتميان إلى أصل واحد، ولا تختلفان إلا في ميل الحكاية الأخيرة إلى الإيجاز والتبسيط. ولعل هذا يدل على عراقة الحكاية الشعبية، وامتدادها بعيدًا في أعماق التاريخ واستمرارها إلى اليوم.‏ إن قيمة الدراسة المقارنة بين الحكايات الشعبية لا تكمن في معرفة الأصل، أو معرفة المبدع الأول والمقترض منه، إنما تكمن في اكتشاف أوجه الشبه في الحكايات المتماثلة، وما تعبر عنه من قضايا وموضوعات إنسانية مشتركة، وما تستعين به من عناصر وجزئيات متشابهة، تدل على وحدة التجربة الإنسانية، وهي وحدة تتجاوز التشابه في الموضوع، إلى التشابه في عناصر التعبير عن الموضوع.

*‏

إن مثل تلك الدراسات المقارنة يمكنها أن تدل على امتلاك شعوب العالم لغة تعبيرية واحدة، هي لغة الأحلام، ولغة اللاشعور الجمعي، وقوامها عناصر تعبيرية تتشابه في بعض الحالات وتتكرر في بعض الحالات الأخرى.‏ إن حكاية عقلة الإصبع، مثلاً، هي تعبير عن رغبة دفينة كامنة في أعماق الإنسان تتمثل في حاجته إلى الأطفال، ورغبته في الحصول عليهم، تحت أي ظرف، وضمن أي شرط، ومثل تلك الحاجة إنسانية، ولقد جاء التعبير عنها متشابهًا، بل واحدًا.‏ إن ذلك كله يؤكد وحدة الإنسان، في مشاعره وحاجاته وعواطفه، بل في تعبيره الفني، وما أحوج البشرية إلى تحقيق التعارف بين شعوبها، والوقوف على أوجه التشابه واللقاء، قبل الوقوف على أوجه الاختلاف والافتراق.‏ ولعل في الحكاية الشعبية ما يمثل الجذر الإنساني الواحد، الذي يغذي روح الإنسان، ويمده بنسغ ثقافي ومعرفي واحد.‏

 

المصادر:

1 - شكسبير، وليم، مأساة الملك لير، تر. جبرا إبراهيم - جبرا، روايات الهلال، دار الهلال، القاهرة، العدد 365 - يناير 1971.

2 - عدد من المؤلفين، جبل الدر، تر. ميخائيل عيد، وزارة الثقافة، دمشق،1979.

3 - فاليري، جيزيل، قصص الأخوين جريم، تر.

حنين حاصباني، وزارة الثقافة دمشق، 1982.‏

4 - كراب، الكزاندر هجرتي، علم الفلكور، تر. رشدي صالح، وزارة الثقافة، القاهرة،1967.‏

5 - كورشيجا، ندى، حكايا شعبية يوغسلافية، تر. موفق شقير، وزارة الثقافة، دمشق،1985.‏

6 - محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1999.

الهوامش:

1 - شكسبير، وليم، مأساة الملك لير، تر. جبرا إبراهيم جبرا، روايات الهلال، دار الهلال، القاهرة، العدد 365- يناير 1971.

2 - فاليري، جيزيل، قصص الأخوين جريم، تر. حنين حاصباني، وزارة الثقافة دمشق، 1982، حكاية الأصيبع ص7.‏

3 - عدد من المؤلفين، جبل الدر، تر. ميخائيل عيد، وزارة الثقافة، دمشق، 1979- ص79

4 - المصدر السابق، ص123‏

5 - كراب، الكزاندر هجرتي، علم الفلكور، تر. رشدي صالح، وزارة الثقافة، القاهرة، 1967، ص551‏

6 - كورشيجا، ندى، حكايا شعبية يوغسلافية، تر. موفق شقير، وزارة الثقافة، دمشق، 1985، ص25.

7 - النابغة الذبياني، ديوان النابغة الذبياني، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط. ثانية، 1985، ص 153

8 - سائر الحكايات الشعبية العربية المروية في البحث، ينظر: محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ويضم مئة وخمسين حكاية.


عدد القراء: 2507

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-