من روائع الأدب العربي.. قصائد النقائضالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 18:30:35

أ.د. عبد المقصود حجو

أستاذ زائر بالجامعات المصرية والعربية - مصر

يزخر الأدب العربي بمعين لا ينضب من كم هائل في شتى فنون وأنماط الأدب من شعر ونثر وروايات وقصص ومسرح وألوان من فنون اللغة والكلام لا يدانيه في ذلك أي أدب آخر على المستوى العالمي وكيف لا وأمة العرب هي أمة الكلام ولذا نجد إنه من بين النساء من كانت تقرض الشعر في الجاهلية, فالخنساء وعاتكة بنت عبد المطلب –عمة الرسول صلى الله عليه وسلم- كانتا من أجود الشاعرات في الجاهلية. ومن ثم عندما نزل القرآن الكريم تحدى الله تبارك وتعالى العرب بما تفوقوا فيه في المعاني والألفاظ والتراكيب اللغوية التي لم ولن يستطيعوا إلى قيام الساعة أن يأتوا بآية أو كلمة من مثل هذا الكتاب المعجز والبليغ والفصيح.

وحفل الأدب العربي في القديم بالكثير من الابداعات – في مختلف فروع الكلام من شعر ونثر- وكيف لا والعرب أمة امتازت وخصها -الله العلي القدير- عن غيرها من الأمم بالرقي والتقدم في اللغة وقد كانت هناك أسواق للشعر العربي في القديم –عكاظ وذي المجنة- وغيرها بل إن النساء كن يقرضن الشعر كالخنساء في مرثياتها  المشهورة عن أخيها صخر وكذا عاتكة بنت عبد المطلب في  رثائها لأبيها عبد المطلب جد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحفلت مصادر الأدب ودوواين الشعراء قبل الإسلام بمناقضات شعرية كثيرة حدثت بين أمرئ القيس وعبيد بن الأبرص, وعامر بن الطفيل, وزيد الخيل وغيرهم وفي عصر صدر الاسلام  وقف فريقان متناقضان, الأول فريق الإسلام الذي كان يستخدم معاني  إسلامية متأثرة بالدين الحنيف, والفريق الثاني فريق الشرك والكفر, وكانت معانيه جاهليه قبلية.

 طبيعة الشعر العربي ودوره في الثقافة

يعد الشعر واحدًا من أكثر الفنون رواجًا واستعمالاً حتَّى على مستوى الحياة اليوميّة، فالعديد من الأبيات الشعريّة صارت أمثالاً تُحكى في المواقف المناسبة لها، ويتميّز الشعر بإيقاعه الموسيقيّ الجميل، وتناسق مفرداته، وسهولتها، وجمال التشبيهات الأدبيّة فيه، فكل هذه الأسباب أسهمت وبشكلٍ كبير في نموّ حبّ الشعر عند الناس على اختلاف أصنافهم ولغاتهم.

اكتسب الشعر عند العرب أهميّة أكثر من غيره، فقد نال الشعراء عناية أكثر من غيرهم فأهميّة الشعراء من أهميّة الشعر نفسه، إذ إنّ للشعر مكانة عالية عند العرب، ولعلّ الدليل الأكبر على هذا الأمر أنّ القرآن العظيم جاء متحديًّا الكفار بلغته التي لا يمكن لأيّ بشر أن يأتي بمثلها، حتى لو كان أفضل شعراء عصره.

أهميّة الشعر

للشعر أهميّة كبيرة في كافّة المستويات، وفيما يلي بعض أبرز النقاط التي تبرز أهميّة الشعر بالنسبة للإنسان:

الأبيات الشعرية تحتوي على العديد من الحكم التي تشكل خبرات من نظمها ومن قالها، حيث يعمل الشعر على تزويد الإنسان بخبرات متراكمة في العديد من مجالات الحياة، فبعض الشعراء يتمتّع بفلسفة عجيبة، ونظرة غريبة وجميلة للحياة ينبغي الاطّلاع عليها والاستفادة منها. يستخدم أولئك الأشخاص الرومانسيون الشعر في تقوية علاقاتهم بمن يحبون، وذلك لما تحتويه الأبيات الشعرية من عاطفة جياشة، وإخراج لمكنونات النفس البشرية بطريقة عجيبة.

الشعر هو واحد من أهمّ الوسائل الإعلانيّة والدعائيّة التي كانت ولا زالت تستعمل لهذه الغاية، فالشعر -خاصة في البلدان العربيّة- من أكثر الأمور المستعملة في المناسبات والاحتفالات بكافّة أنواعها.

يعد الشعر وسيلة هامّة من وسائل التعريف بجماليات الدين، خاصة تلك الأبيات الشعريّة التي تمّ نظمها في الثناء على الله، ومدح رسوله الكريم، ووصف أحوال الصحابة، وما يحمله الدين من معانٍ راقية وإنسانيّة.

الشعر هو وسيلة من وسائل تقوية وزيادة العادات الإيجابية لدى العديد من الناس والأفراد، وذلك نظرًا إلى كون الشعر يبيّن ويبرز العديد من مكارم الأخلاق التي يجب على جميع الناس التحلي بها.

ولقد قام الشعر العربي بدور كبير في حفظ اللغة العربية من ناحية الظواهر الصوتية ومن ناحية التراكيب والمفردات، خصوصًا النادر منها وغير الشائع في الاستخدام، وقد برز استخدام الشعر كمصدر رئيسي من مصادر الاستشهاد والاحتجاج في فترة مبكرة من تاريخ التصنيف والتقعيد لقواعد اللغة العربية.

وقد أسرف الأولون في الاستدلال بالأبيات الشعرية على قواعد اللغة النحوية منها والصرفية، حتى إنهم ربما تتبعوا واستقصوا كل الأبيات الشعرية التي شذت وخالفت القواعد المضطردة مقابل شح كبير في الشواهد النثرية من الكلام المنثور؛ المرسلِ منه والمسجوعِ، واستخدموا الشعر – كذلك – بغزارة في قواميس ومعاجم اللغة وخصوصًا عند سرد المفردات نادرة الاستخدام، وثمت مجال ثالث – وإن كان أقل من المجالين المذكورين آنفًا – ساهم الشعر بدور كبير في حفظه والتأريخ له وهو مجال أصوات اللغة والظواهر اللغوية المتعددة لنطق الحرف العربي والتي تختلف تبعًا لاختلاف القبائل والجهات والمناطق؛ فالحرف العربي - وإن كان محصورًا من حيث الكتابة في التسع والعشرين حرفًا المعروفة – إلا إنه من حيث النطق به ربما يصل إلى نحو أربعين حرفًا صوتيًّا. وقد حفظ لنا الشعر العربي ظواهر متعددة من اللهجات العربية التي كانت سائدة في المنطقة.

والشعر العربي لما يمتاز به من سلاسة ووقع عند السامعين، ولما يتميز به من نفوذ بياني سيطر بلا منازع على ميدان الاحتجاج في قواعد اللغة العربية؛ فهو فنّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على التاريخ الأدبي عند العرب، إضافة إلى كونه وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم، فهو المرجع الموثوق به لأساليب العرب البلاغية والبيانية، والمصدر الأصيل لمفرداتهم اللغوية وطرقهم التعبيرية، فضلا عما يحويه من مآثر العرب ومفاخرها، وأحداث أيامها ووقائعها؛ فهو الوثيقة الرسمية الأولى التي دونت تاريخ العرب الوجداني والاجتماعي واللغوي.

منظومات الشعر العربي منذ العصر الجاهلي

يزخر الشعر العربي بكم وافر من الشعراء والقصائد على مدى تاريخه الطويل منذ العصر الجاهلي – المعلقات العشر – على جدار الكعبة المشرفة ومرورًا بصدر الاسلام ثم العصر الأموي فالعباسي فالعصور الوسطى حتى أفول الأمبراطورية العثمانية ثم العصر الحديث.

ماهي النقائض وما أثرها

النقيضة مصطلح مأخوذ في الأصل من نقَض البناء إذا هَدَمَه، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) النحل: 92.

وناقَضَه في الشيء مناقضةً ونِقَاضًا خالفه, والمناقضة في القول أن يتكلم بما يتناقض معناه، وفي الشعر أن ينقض الشاعر ما قال الأول، حيث يأتي بغير ما قال خصمه, والنقيضة هي الاسم المفرد يُجمع على نقائض.

تمثل النقائض مصطلحًا أدبيًّا لنمط شعري نشأ في العصر الأموي، وهي عبارة عن معارك شعرية دارت رحاها بين عدد من الشعراء في العصر الأموي، وكان فرسانها الأخطل وجرير والفرزدق، وكان الشاعر يكتب قصيدة في هجاء خصمه، فيرد الخصم (ناقضًا) هذه القصيدة بقصيدة أخرى لها نفس الوزن والقافية، وقد تركزت النقائض في العصر الأموي على غرض الهجاء تحديدًا حيث كان الشاعر لا يصبر على هجاء خصمه فيجيبه بقصيدة أخرى أكثر اقذاعًا وهجاءً.

نشأ فن النقائض في العصر الأموي واشتدت المهاجاة الشعرية بين الشعراء المتهاجين فلم يصمد في الميدان سوى ثلاثة من فحول الشعر هم: جرير والفرزدق والأخطل. وقد اشتهرت نقائض الفرزدق وجرير والأخطل، وقد كان أحدهم يتجه نحو خصمه بقصيدة هاجيًا، فيعمد الآخر إلى الرد عليه بشعر مثله هاجيًا ملتزمًا البحر والقافية والرَّوِيَّ الذي اختاره الشاعر الأول, ومعنى هذا أنه لا بد من وحدة الموضوع فخرًا أو هجاءً أو غيرهما, ولا بد من وحدة البحر، فهو الشكل الذي يجمع بين النقيضتين ويجذب إليه الشاعر الثاني بعد أن يختاره الأول, ولا بد كذلك من وحدة الرَّوي لأنه النهاية الموسيقية المتكررة للقصيدة الأولى، وكأن الشاعر الثاني يجاري الشاعر الأول في ميدانه وبأسلحته نفسها ونمو شعر النقائض له أسبابه الاجتماعية والعقلية وكان الناس يجدون فيه نوعًا من التسلية والترويح، أما النقائض بحد ذاتها فقد كانت تعبيرًا واضحًا عن نمو العقل العربي ومرانه على الحوار والجدل والمناظرة.

الهجاء بين العصر الجاهلي والعصر الأموي

تعريف فن الهجاء

يحتل الهجاء مكانًا واسعًا في ديوان الشعر العربي الكبير، فقد لا نجد شاعرًا، إلا تناول هذا الفن في شعره من قريب أو بعيد .. ولا نجد باحثًا قديمًا تحدث في فنون الشعر إلا جعل الهجاء في أبرز مكان فيها بعيد .. ولا نجد باحثًا قديمًا تحدث في فنون الشعر إلا جعل الهجاء في أبرز مكان فيها.

فالهجاء فن قديم قدم عاطفه البغض والغضب والميل الفطري إلى نقد النقائض والمعايب .. فهو من الفنون الأدبية الغنائية التي عرفتها الآداب العالمية، ووجدت في الأدب العربي منذ العصر الجاهلي .. وهذا فالوجود أمر طبيعي مرتبط بوجود أناس يستحقون الهجاء وهذا الفن ذو مجريين, شعري، نثري وإذا كانت الآثار الفنية ـ ومنها الهجاء ـ إفراغ طاقه عاطفيه فإن الشاعر يلجأ إليه ليتخفف عن طريقه عما يحسه في أعماقه من كبت وحرمان وأذى في الحياة كبير .. فهو وسيلة فنية يتوسل بها الشاعر لنفس ما تضيق به نفسه من معاناة، تثير فيه الغضب على المصاعب بل إنه يوجد الكثير من المستشرقين قاموا بدراسة هذا الفن من الأدب- الهجاء- منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم.

لقد تنوعت فنون الأدب وتعددت، ومن بين هذه الفنون فن النقائض، وهذا الفن لون جديد من ألوان الأدب والمناظرة الأدبية.

كما وأن فن النقائض يعد سجلاً تاريخيًّا أفادت منه العلماء في معرفة أنساب العرب وأيامهم ومثالبهم، وكان لها فضل على اللغة أمدتها بثروة من الألفاظ وأكسبت المعاجم مادة لغوية.

فأحببت أن أكتب في هذا النوع الفريد من الشعر العربي، وبعد قراءتي لبعض كتب الأدب خرجت بمعلومات عن هذا الفن وتكونت لدي الفكرة الكافية عنه. إن أول ظهور لمصطلح (النقض) كان في العصر الأموي، وتحديدًا فيما عرف بـ(النقائض)، وهي تلك المعارك الشعرية التي دارت رحاها بين عدد من الشعراء في العصر الأموي، وكانت ريادته في الأخطل وجرير والفرزدق، حيث يكتب الشاعر قصيدة في هجاء خصمه، فيرد الخصم (ناقضًا) هذه القصيدة مع التقيد بوزنها وقافيتها، وتتفق (النقائض) مع (القلطة) في عملية نقض ما يقوله الخصم، ولكن الفرق هو إن (القلطة) تتطلب المباشرة والسرعة في الرد، بينما لا يشترط ذلك في شعر النقائض، والذي يظل أقرب إلى الرديات التي تتم بين الشعراء هذه الأيام، وإن كانت النقائض قد تركزت على غرض الهجاء تحديدًا في العصر الأموي.

اعتمدت النقائض في صورتها الكاملة على عناصر أساسية في لغة الشعراء، منها النَّسَب الذي أصبح في بعض الظروف وعند بعض الناس من المغامز التي يُهاجِم بها الشعراء خصومهم حين يتركون أصولهم إلى غيرها، أو يدَّعون نسبًا ليس لهم. وقد كانت المناقضة تتخذ من النسب مادة للتحقير أو التشكيك أو نفي الشاعر عن قومه أو عدّه في رتبة وضيعة، وكذلك كان الفخر بالأنساب وبمكانة الشاعر من قومه وقرابته من أهل الذكر والبأس والمعروف أساسًا، تدور حوله النقائض سلبًا أو إيجابًا. فاعتمد الشعراء المناقضون على مادة النسب وجعلوها إحدى ركائز هجائهم على أعدائهم وفخرهم بأنفسهم. ومن أسباب ذلك أن المجتمع العربي على عصر بني أمية رجع مرة أخرى إلى العصبية القبلية التي كان عصر النبوة قد أحل محلها العصبية الدينية.

ومنها أيضًا أيام العرب التي اعتمدت النقائض عليها في الجاهلية والإسلام، فكان الشعراء يتَّخذون منها موضوعًا للهجاء ويتحاورون فيه، كما صور جزء من النقائض الحياة الاجتماعية أحسن تصوير، ووصف ماجرت عليه أوضاع الناس، ومنها العادات المرعية والأعراف والتقاليد التي يحافظ عليها العربي أشد المحافظة. فكانت السيادة والنجدة والكرم، وكان الحلم والوفاء والحزم من الفضائل التي يتجاذبها المتناقضون، فيدعي الشاعر لنفسه ولقومه الفضل في ذلك. وقد أصبحت النقائض سجلاً أُحصيت فيه أيام العرب ومآثرها وعاداتها وتقاليدها في الجاهلية وفي الإسلام.

نماذج من شعر النقائض بين جرير والفرزدق:

مثل قول الفرزدق في جرير:

يا صاحبي  دنا  الرواح  فسيرا

                        غلب الفرزدق في الهجاء جريرا

وهذا من قول جرير يقول:

فغـض  الطرف  إنك  من نمير

                         فــلا  كــعـــبًا  بلـغـت  ولا  كلابـــًــا

وكذا قول الفرزدق في جرير:

يا ابن المراغة  أين خالك إنني

                         خالي فضيل ذو الفعال الأفضل

ومنه قول جرير:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا

                          أبـشـر  بطول  ســلامــة  يا مـربع

والبيت الذى قاله جرير في الفرزدق:

هذا ابن عمى في دمشق خليفة

                          إن  شئت  ســاقـكم إلى قــطــينا

ولما بلغ ذلك –الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان تهكم على جرير بقوله ما زاد ابن المراغة إلا أن جعلني شرطيًّا انصاع لأوامره.

الخلاصة

إن هذه البغضاء والصراع الأدبي أنتج لنا معينًا زاخرًا من الأدب العربي تنهل منه الأجيال السابقة واللاحقة على السواء وذلك حفاظًا ودفعًا ورفعة للعربية التي أصبحت غريبة في ديار ومعاهد العلم والعلوم العربية.


عدد القراء: 11112

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-