التعريب للمعارف… والتقدم الحضاريالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-02-15 07:23:41

أ.د. عبد المقصود حجو

أستاذ زائر بالجامعات المصرية والعربية - مصر

1 - مقدمة

آتى على العالم بأسره حينًا - من الدهر – كانت اللغة العربية هي أم اللغات وعمدة الحديث, لما لها من تميز وازدهار بما تشمله من العديد من العلوم والثقافة في شتى ميادين المعرفة والمعلومات، مثل علوم الدين والإنسانيات والعلوم النظرية والأساسية والتطبيقية وغيرها.

ونبغ العلماء العرب – بفضل العربية – في الكثير من العلوم مثل ابن سينا في الطب وابن حيان في الكيمياء وابن الهيثم في الفيزياء والخوارزمي في الرياضيات.

بل امتد الازدهار العلمي لعلوم الثقافة والفن والآداب مثل الموسيقى فبرع الفارابي, والجغرافيا فكانت أول خريطة ترسم للعالم آنذاك بواسطة الإدريسي.

وكانت اللغة هي الدرع الواقي والحافظ لمختلف العلوم والثقافات.

فكيف تأتي – اليوم – الدعوات بتركها واللجوء للغات الأجنبية، بل والتقليل من شانها وتعليم النشء اللغات الأخرى.

وتمتاز  - العربية – دون سواها بغزارة معانيها وغنى ألفاظها ودلالاتها والجمل المكونة من حروفها وقدرتها الفائقة التي لا تدانيها لغة أخرى على التعبير الوجيز حروفًا والغزير معنى وإيضاحًا.

ونقطة أخرى وهي التشكيل ( فتحة, كسرة, ضمة, سكون) فتنفرد العربية دون غيرها من اللغات بهذه الميزة, فتعطي الكلمة الواحدة أكثر من معان متعددة وكثيرة مما يثري اللغة إثراء عظيمًا.

وحري بالعرب وهم على أبواب الألفية الثالثة أن يهتموا بلغتهم العربية، ليعيدوا لها مجدها الغابر، ويصلوا بها للتقدم المنشود.   

 إن العالم بدخوله الألفية الثالثة سوف يشهد قفزات علمية هائلة لم تكن في الحسبان, والدارس للاكتشافات العلمية يرى أن البحوث والابتكارات خلال القرن الماضي فقط تبلغ مئات أو آلاف المرات البحوث والاكتشافات في القرون الماضية مجتمعة, منذ نشأة الخليقة على الأرض.

وتلعب اللغة – دورًا محوريًّا ومتعاظمًا – في حركة التقدم التكنولوجي، لأنها المنوط بها التدريس والتعليم وتقل العلوم والمعرفة وحفظها.

ولقد ازدهرت في العصور الإسلامية الأولى – الدولة الأموية والعباسية – وكانت التراجم والتأليف من الحضارات الأخرى مثل اليونانية والمصرية القديمة والفارسية في أزهى أوج عهودها.

ولقد أمر الخليفة العباسي – المأمون – بأن من يترجم كتابًا تكون مكافأته قدر وزنه ذهبًا، ويغدق عليه الأموال والعطايا.

وإنشاء المكتبات الزاهرة والزاخرة بالعلوم النظرية والتطبيقية فى بغداد ودمشق والقاهرة, كانت خير شاهد على الحضارة الإسلامية.

بل إن الرشيد – الخليفة العباسي – أهدى لأحد ملوك الفرنجة ساعة، فكم كانت دهشة واستغراب وتعجب  الغرب آنذاك من دقة صناعة الساعة.

ولذا أفرزت هذه الحضارة العلماء الأفذاذ مثل ابن سينا في الطب، وابن حيان فى الكيمياء، وابن الهيثم في الفيزياء، والخوارزمي في الرياضيات، وغيرهم كثير .

ويعترف المؤرخ البريطاني – جوستاف لوبون – أنه لولا الحضارة الإسلامية ما كانت الحضارة الأوربية الحديثة, وإن فضل العرب على أوروبا لا ينكره منصف وعادل.

2 - التعريب ضرورة حتمية

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى – كتابه الكريم – باللغة العربية، وهل هناك تشريف للغة أكبر وأسمى من هذا التكريم.

وكيف لا يكون – للعربية – هذا القدر الكبير، وهى تزخر بالكثير من المفردات والمصطلحات والترادفات التي لا تملكها سواها من اللغات.

ومثال ذلك لفظ (ولد, صبي, غلام, فتى, شاب)،  فهذا يطلق على الذكر من بني الإنسان في المراحل العمرية والطبيعية، وتلك من مزايا العربية وتنفرد به.

ولقد قدمت العربية العلم والعلماء الأفذاذ للحضارة الإنسانية في مختلف العلوم الأساسية والطبيعية والتطبيقية والهندسية والطبية والإنسانية.

وكانت وما زالت كتب العلماء العرب في الهندسة والطب خير رافد للحضارة الأوربية المعاصرة والحديثة.

وكان أسلوب التعليم الطبيعي, أن يدرس – طالبو العلم – اللغة العربية أولاً، ثم يحفظوا القرآن الكريم، ثم يتخصصوا بعد ذلك في أي من فروع العلم، وينبغوا فيه، ويؤلفوا المؤلفات العلمية والبحوث العملية قبل أن تطبق في مناحي الحياة المختلفة.

ولما كان للغة مثل هذه الأهمية أنشئ لها علمًا مستقلًّا بها سُمِّي بعلم اللغويات – النحو لضبط اللغة وعدم اللحن فيها وقد كان العيب – كل العيب – أن يخطئ العربي في نطق كلمة، فيرفع المنصوب فيعاد تعليمه من جديد، وتلك لا تتاح إلا للغة العربية.

وفى هذا يقول شاعر النيل –حافظ إبراهيم:

وسعت  كتاب  الله  لفظًا وآية 

                                       وما ضقت عن آي به وعظات                 

فكيف تضيق اليوم عن وصف

                                     آلة وتصنيف أسماء لمخترعات                            

 

ويقول الحق تبارك وتعالى: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) البقرة  الآية 31.

بالقطع كانت هذه الأسماء عربية خالصة، كما يوحي ظاهر الآية الكريمة.

وتحارب العربية الآن في عقر دارها حربًا ضروسًا لا هوادة فيها، والعجيب أن الحرب ليست من الغرباء بل من أهلها.

فالناظر لنشاطاتنا الحياتية يجد العجب العجاب من أسماء بالعربية تكتب باللغات الأجنبية الخالصة، بل إن لغة التخاطب بين أفراد المجتمع أصبح يلوكها الكثير من الألفاظ الأجنبية الدخيلة، حتى ليتهيأ إليك أنك تمشي فى شوارع ومدن أجنبية لا عربية.

أهو الغزو الثقافي ؟

لا بل هو التقليد الأعمى.

وأذكر هل يستطيع أي إنسان إنجليزي أن يتفوه داخل بلده بلغة غير الإنجليزية.

لا.. بل قد يحاسب حسابًا عسيرًا..

وحسنًا فعلت  الإمارات العربية، حينما أصدرت مرسومًا بتغيير الكلمات الأجنبية لكلمات عربية بحتة.

ولقد حاول أحد الوزراء السابقين في مصر منذ عهد قريب أن يعرب جميع الكلمات الأجنبية  في وزارته، إلا أن هذه الجهود – للأسف – لم تستمر، وانتهت بخروجه من الوزارة  بل إن دولة صغيرة بجوارنا لا يعدو تعدادها على حي من أحياء القاهرة تتمسك بالتكلم بلغتها برغم تعدادهم المحدود ولا توجد دول أخرى تتكلم بهذه اللغة سواها.

فكيف بالعرب من المحيط إلى الخليج، وهناك أيضًا أقوام آخرون يتكلمون العربية، حيث إن دينهم الإسلامي يتعدى تعدادهم المليار نسمة.

إن الاهتمام بقضية التعريب أمر جد خطير، ليس على المستوى الفردي، بل على المستوى القومي العربي, وكان من ضمن عوامل التضامن العربي هو وحدة اللغة.   

والدارس لمدى استيعاب - طلبة الجامعات – يجد أن قدراتهم على التحصيل بالعربية أكبر بكثير من اللغات الأخرى، حيث إنهم يملكون أدوات التعبير بالعربية عن مثيلها باللغات الأخرى.

3 - التعريب والتقدم 

لا شك أن دراسة العلوم بالعربية يتيح المزايا الآتية :

- الفهم والاستيعاب الكامل لجوانب فروع العلم المختلفة.

- إذكاء وتنمية الشعور الوطني القومي لدى الطلاب والباحثين.

- ازدهار حركة التأليف والتراجم والنشر.

- تطور العلوم الأساسية والتطبيقية والنظرية.

- إمكانية تأليف موسوعات علمية متخصصة.

وقد يتبادر سؤال ..

إن الجامعات ومراكز البحت تعلم وتدرس العلوم بلغات أخرى غير العربية، ويوجد الكثير من المصطلحات الأجنبية، وهناك مخاوف ومحاذير من استخدام العربية.

بل إني وبتجربة شخصية أكاد أقول: إن الاستيعاب والتحصيل بالعربية أكثر من التحصيل بلغات أخرى.

فتجد المهندسين الجدد يعانون معاناة بالغة في فهم الرسومات والكتب الفنية الهندسية خاصة في أثناء تنفيذ المشروعات الكبرى, بيد أنه لو كانت هذه الوثائق بالعربية لكانت الفائدة المرجوة كبيرة ونافعة ومفيدة، وقد يضيف أو يعدل عليها المهندس نظرًا لاستيعابه وإلمامه الكامل للنواحي التقنية.

والرأي – أن العربية – غنية بكلماتها ومترادفاتها، فقد يكون للمعنى الواحد أكثر من مترادف

لذا يجب أن تعرب جميع العلوم دون استثناء، وليكن ذلك من خلال مراحل متعددة، حتى نصل لدرجة التعريب الكامل.

وهناك تجربة في هذا المضمار, فإن الحضارتين اليابانية والصينية قد وصلتا إلى هذا التقدم والازدهار باللغة الأصلية للبلد.

ويقوم مجمع اللغة العربية منذ حقبة ليست بالقصيرة بإصدار مجلدات للمصطلحات الفنية (حتى الآن 36 مجلدًا) تحوى تعريبًا لمختلف العلوم الأساسية والتطبيقية والنظرية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء الهندسة والصيدلة والطب والآثار والسياحة والزخرفة وغيرها بيد أن الإمكانيات المتاحة للمجمع ليقوم بهذه المهمة محدودة, فيا حبذا لو أعطى المجمع الدعم الكافي لكي يستمر في أداء تلك الرسالة السامية.

4 - الخلاصة

إن قضية التعريب قد أخذت الكثير من الوقت والجهد بلا نتيجة حقيقية.

والرأي هو صدور قرار من المجلس الأعلى للجامعات بضرورة تعريب العلوم كلية، وليكن ذلك وفق خطة – خمسية مثلاً – ليدخل بها العرب الألفية الثالثة معتمدين على الثروات اللغوية من العربية.

ويجب أن تلتزم الجامعات ومراكز البحث بأساليب التعريب كمنهاج وسياسة على المدى البعيد والقريب، لكي يعود للعربية مجدها الزاهر في عالم الغد المرتقب. إن اتساع الفجوة الرقمية بين العرب ودول العالم الأول تتسع يومًا بعد يوم، وأخشى أن يتسع الخرق على الراتق ويصبح العالم العربي في مؤخرة القائمة وذيل الكتاب- كتاب العلوم العلمية والإنسانية- مع إنهم كانوا ملء السمع والبصر، وتصدروا المشهد العلمي لقرون طوال، فهل يفيق العرب من هذه الغفوة......؟


عدد القراء: 5234

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-