أزرقٌ منطفئٌ كاللهب.. سيكولوجية اللون الأزرق في الفن والأدبالباب: مقالات الكتاب
حبيبة رحال مصر |
إلى كل المنطفئين كالأزرق..
المحلقين فوق عتبات السماء
الغارقين في خضام المحيطات
العازفين على قيثار الأوهام
المنشدين أهازيج الحزَن
لم يعد الأمر مهمًا بعد الآن...!
عندما تُلجم الحجة، ويُستعصى المنطق عن الفهم، وتموت المفارقات الجدلية، تتلون الحياة كالحزن المنكسر، يحلق شحرور صبغته السماء في أفق الفكر، يمنحه انطلاقًا، فيتحرر من عقاله هاربًا إلى حيث يمكن أن يُسمع، كالموج الباهت تبدو كل الألوان في تعبيرها عن الشجن، وحده الأزرق من يمكنه أن يرسم ذلك الشعور المبهم، أن يستخرج تلك الهّنات الدقيقة التي تعتري البشر، ويصور الكلمات التي يعجز اللسان عن التعبير عنها بحكمة، تلك التي تقتلها الجمل، وتنفي وقع قوتها الألفاظ، وتعجز البحار ولو انمسخت قطراتها أحبارًا، أو تحولت تموجاتها وريقات أن تُسبِّح بذاك الشعور؛ ببساطة لأن قطراتها خُلقت من دموع أولئك الحزانى المحرومين، وطوفانها صُنعته أكف الراحلين، إنه ذلك الإحساس بالغوص.. التعمق... والانحدار ثم الغرق، التفكير في النجاة يكون قد ولّى وانتهى أمره، الآن لم يبق سوى العدم...
قد تكون النهاية هي الخطوة الأولى نحو بداية أكثر جمالاً لكن من يدري! ربما لا تكون تلك النهاية سوى الفناء وحده ولا شيء غيره.
ارتبط اللون الأزرق في مخيلتنا بهدوء السماء المستكينة، ونعومة الموج المتكسر بعذوبة على صخور غافية، وخيال الدانوب الأزرق الذي عزفته أنامل الموسيقار النمساوي يوهان ستراوس، التي ترفعك لقمم الهدوء عندما تبدأ المعزوفة، لكنه ذلك السكون الذي تتبعه سرعة فجائية محمومة.. حماس وتشجيع، وأخيرًا يتباطأ خطو الموسيقى حتى يخيل إليك أن الهناءة أبدية، ثم المقطع الأروع على الإطلاق الذي انتشل الشعب الفييني من الغرق بعد الحرب، وتدفقت ينابيع الأمل والانتماء إلى عروق الدانوب التي لوثتها أنامل حرب "الأسابيع السبعة" مع مملكة بروسيا الألمانية.
نظر ستراوس إلى الدانوب المنطفئ بعد الحرب، وتمكن أن يعيد إليه شعلة الحياة ويمنحه الأمل، استطاع ستراوس أن يبدأ بعد النهاية، أن ينهض بعد اليأس، أن يجعل الأزرق ملهمًا له ولشعبه، تمكن من تحويل الحزن إلى طاقة تدفعه للمضي نحو دهاليز السعادة(1)، لكن الكثير منا ليس كستراوس، نحن نتوقف لنتأمل المحيط بصمت، نترجاه أن يعبر عما بداخلنا، لكنه لا يملك سوى الصمت، اعتاد أن يكون مستمعًا جيدًا، وتوقف دوره عند ذاك الحد، لكنا لا نملك أن نحتكر الموج لصالحنا، لديه رحلة يخوضها، هو يتوقف لهنية عله يستمع إلى جديدنا، لكن لا جديد يشعله الأزرق، لذا يرحل بهدوء تاركًا الخواء ينمو داخلنا رويدًا رويدًا، ونبتلع الحزن حتى الثمالة، فتوجب علينا أن نجد متنفسًا آخرًا نبثه الألم والشجن....
هناك دائمًا الفن، إنه الطوفان الذي نَكونُه ونُكونَه، إنه اللوحة الفنية التي ترسمها أنامل فنان هزه موت صديقه المخلص، إنه الأغنية التي تصدح من حنجرة مغنٍ أدركه الهجر، إنه الرواية التي كتبتها دموع عاشق حركه الولع، وسحقته غزوات الحياة، لذا يوحد الأزرق بين العجوز عازف القيثار، ودكتور "وهل"، و جاري مور، وحسين بن محمود أفندي، ويتوحد بهم... كلهم ولَدَهم الحزن، وصنعهم الشجن، وربت على ظهورهم الأسى واليأس... كلهم أبناء الأزرق، منه بدأوا وإليه يعودون.
في رحلة ورقية يصطحبنا فيها دكتور "وهل" بين دفتي رواية "الملاك الأزرق" التي كتبها الروائي الألماني "هنريخ مان"، حيث يدلف بنا إلى الدركات السُفلى لعقلية أستاذ جامعي كهل في إحدى المدن الألمانية الصغرى، فنطالع تلك الشخصية المتذبذبة التي أنشأها الوهم، وتاهت بها الخيلاء والعجرفة، أو هكذا نظن عندما نتعرف على بطل روايتنا الذي يجعلنا نبصر أوار نفسيته المشتعلة.
قد يُفني المرء عمره معتقدًا بثبات فهمه للحياة، مطمئنًا لمقدار ملائمتها لهواه، مستقرًا لأبديتها، وقد انعكس ذلك السلوك على الدكتور "وهل"، الذي ظن أنه بقراءته أشعار هوميروس، وهضمه له، قد فهم الدنيا وخبر الحياة، إنه النموذج المثال لمن يقرأ صفحات الدنيا خلف عويناته، قامعًا روحه داخل برج عاجي من التعالي على البشر واستعدائهم، لمجرد أنهم لم يتمكنوا بعد من تسلق الشرفات الوهمية إلى البرج الذي حبس نفسه فيه، وعلى الرغم من أن الدكتور "وهل" حاول أن يقنع نفسه أنه مطمئن إلى مكانته، راضٍ بما وصل إليه، ناقم على جهل الآخرين وخيبتهم، فإنه ظل يبحث.....(2)
البحث... إنه الطريق الذي تجرك إليه قناعة داخلية مستترة بأنك واهم، وتبدأ رحلة البحث التي قد تكون إما محاولة الذات الأخيرة لكسر الوهم، أو سعيها نحو سبيل أكثر واهمًا، في حالة الأستاذ كان البحث المحموم دعوة ضمنية من الإنسان المقموع داخل الأستاذ الجامعي بأنه على خطأ، وأن طريق المعتقدات الثابتة لم يكن سوى آخر النفق الذي حجبت شمسه أحجار التوهم.
على الجانب العربي الموازي نجد آثار أقدام بطلنا حسين من رواية "النقاب الأزرق" لعبدالحميد جودة السحار، يسير في طريق البحث ذاته، إنه الضابط الشاب ببذلته العسكرية الذي يذهب بحثًا عن ملاكه الأزرق ذات النقاب، أما وهل فإنه يلقى ملاكه عاريًا!
نقف أمام لوحتين متماثلتين، "هدى" صاحبة النقاب الأزرق، و"روزا فلوريخ" راقصة في حانة الملاك الأزرق، نسير في طريقي البحث مع الكهل والشاب، في طريق البحث عن الظلال التي يخلقها ضباب التوهم.
لم يضل بطلانا الطريق، بل سارا فيه طويلاً، فها هو البروفيسور قد "انفتل مبتعدًا.. من شارع إلى شارع.. من طريق إلى طريق.. ومن وجوه إلى وجوه.. إنه أبدًا يبحث عن هذه المرأة.. روزا فلوريخ.. أين يجدها وفي أي مكان يلقاها؟"، وإلى جواره يحث حسين الخطو فقد "أشرقت الشمس وتسللت إلى غرفته فقام من نومه يحس رغبته في الانطلاق إلى الطريق ينقب عن هدى. فذهب إلى بذلته وأخذ يرتديها. وما اتضح النهار حتى كان ينساب في مسالك الحي يحدوه أمل لقياها"(3)، البحث لأجل البحث! إنها تلك الرغبة التي جذبت الرجلين نحو حافتها، اثنان يبحثان عن اثنتين لم يسبق لهما معرفتهما، وكل منهم يجري وراء حلمه الخاص الذي رسم خطوطه، وعلق ألوانه على تلك المرأتين الوهم.
أن تبحث يعني أن تتحقق من مدى جدوى العيش، أن ترفض القوالب الثابتة التي تضعها لنفسك ويحيطك المجتمع بها ويحدك بحدودها المرسومة، في كلتا الروايتين نجد طريق البحث إما بوصفه رغبة مستترة داخل النفس في كسر حاجز اختلاق العظمة والعيش في ثوبها المتهرئ كما مثلها دكتور "وهل"، الذي وجد في بائعة الهوى نموذجًا للعفة والفضيلة التي لم يكتشفها أحد، فيحاول جاهدًا أن يرسم ذئابًا وهمية يحاول أن يحمي الفتاة منها، ونتكشف مع تطور الأحداث في القصة أنه الذئب الذي حاول أن يحميها منه، إنها الذات التي خلقت نفسها بصورة موازية مختلقة في الذاكرة، حتى تشكلت الصورة الحقيقية وانطبعت على البروفيسور في نهاية الرواية، وبنهاية تشكل الذات الحقيقية التي اختفت وراء حجب الذات المُقنّعة التي صنعها البروفيسور لنفسه تنتهي الرواية، إنها تمثل نهاية رحلة الكشف، وبداية اكتشاف الذات الحقيقية، ولكن على العكس من ذلك نجد أن بطلنا العربي حسين بدأ مدركًا لذاته بصورتها الحية منذ بداية الرواية، إنه الضابط الناقم على قوانين العائلة في رغبتهم في تزويجه ابنة عمه الغنية، إن ذاته تقف صارخة في وجهه معبرة عن نفسها بوضوح، فيظهر تمردها الحقيقي في خلق صورة متوهمة لفتاة يخلق منها النموذج الحلم الذي يسعى إلى الارتباط به، إنها محاولة النفس في معالجة إحساسها بالنقصان عن طريق صنع صورة كمال نسجتها صاحبة النقاب الأزرق، وعلى عكس دكتور "وهل" لا تنتهي قصة بطلنا حسين، بل يتركنا الكاتب معلقين في مضمار الكشف، حيث لا سبيل للعودة إلى البداية، ولا ضوء في نهاية النفق، إنه التوقف في منتصف الرحلة، وإن كانت الذات قد هربت من بطلنا إلى حيث لا يمكن أن يعرف، فإذا كانت رحلة الدكتور "وهل" قد انتهت بالتطهير، فإن ذات حسين قد تعلقت في الصراط بين السماء والأرض، بين عدن والجحيم، وتعد قصة حسين أكثر القصص ملائمة لحقبة الـبلوز "The Blues"، في الغناء، والفترة الزرقاء في لوحات بابلو بيكاسو.
بدأت حقبة أغاني البلوز الحزينة في أوائل القرن التاسع عشر، ويعود الفضل للعرق الأسمر في الولايات المتحدة في إنشاء هذا النوع من الأغاني، التي تتسم بالقلق والتوتر الذي يصاحب فقدان الهوية والتذبذب النفسي الذي ساعد في نشأته التقدم العلمي الهائل الذي حققه الجنس البشري، والذي تم استخدامه لاحقًا كسلاح في يد بني البشر يفرض سيطرة كل منهم على قرينه، فصار نقمة عليهم بدلاً من أن يكون نعيمًا لهم كما هو مفترض أن يكون، وقد كان الصراع النفسي في مواجهة تحديات الحياة الجديدة ومتغيراتها، بالإضافة إلى تحكيم الآلة على المشاعر هو ما خلق كيانات وسطى تجمع بين بقايا العواطف الإنسانية وتتشرب من منابع الآلية الحديثة، وهو ما أدى إلى اختفاء الحقيقة وراء حجب كثيفة من الواقع، فكانت أغاني البلوز نغمة يتردد صداها في وجه الكون من أجل إعادة خلق نوع من التناغم بين الإنسان والآلة اللذين يعيشان جنبًا إلى جنب في ذات واحدة، وقد عبر جاري مور أحد مغنيي الروك أند رول والبلوز عن رحلة الإنسان الشعورية للحب، في أغنيته "لازلت أحمل الحزن لأجلك Still got the blues for you "، تبدأ الأغنية بعزف على الجيتار الكهربائي الذي يميز أغاني البلوز حيث يستخدم بوصفه صرخة الألم الأولى قبل أن تصحبه كلمات الأغنية الأشد ألمًا، إنه الشهقة التي تسبق الدموع، هناك جملة لخصت الشعور العام لتلك الفترة "لقد اكتشفت أن الطريق الصعب هو الطريق الذي يؤدي إلى الألم I found out the hard way it’s a road that leads to pain"، وهي تشبه مقولة الكاتب هنريخ مان "تسامت أمانيه إلى السماء لكن الحقائق مرغت أحلامه في التراب"، والأمر نفسه نلقاه عند جودة السحار عندما تحدث بلسان بطله قائلاً: "حلق في الأسبوع الفائت في سماوات الخيال وبنى قصورًا من الأماني وراحت تداعبه الآمال فكان يبدو له كل شيء بهيجًا، فلما ذهب ليحقق أحلامه صدمته الحقيقة فتقوضت آماله وألفى نفسه يجد في وهم خادع كذاب"، إن الذي يجمع الإنسانية هو اتفاقهم على إعلاء سلطة الخيال على حساب الواقع، والرفع من شأن الأحلام التي تُنسج دون رؤية واضحة للحقائق، فتكون المشكلة انهيار الذات بعدما تناثرت شظايها وتفرقت على صخور الحياة المؤلمة، وهو ما يأخذنا إلى الفترة الزرقاء التي وسمت لوحات بيكاسو في بدايات القرن العشرين.
رسم الفنان الأسباني عدة لوحات في مطلع القرن العشرين سميت بالفترة الزرقاء، حيث غلب على لوحاته اللون الأزرق، وانضمت لوحاته إلى المدرسة التعبيرية في الرسم، عبرت لوحة عازف القيثار المسن عن النهاية كما يبدو في مجملها، حيث صورت رجلاً عجوزًا يرتدي ملابس بالية ويمسك قيثارًا ويجلس دون هدف على قارعة الطريق، وقد أغمض عينيه متوقفًا عن رؤية ما يدور حوله، تبدو اللوحة في مجملها وكأنها تجسيد للدكتور "وهل" في نهاية طريق الاكتشاف، ولكن على الرغم من أنها تصور النهاية لكنها تحمل بداية الحياة بصورة مستترة، إذ كشفت الأشعة السينية أن خلفية اللوحة تظهر لوحة أخرى تحتها، تعرض اللوحة المخفية صورة أم شابة بجوار ابنها وبجانبهم عجل صغير وغنم(4).
جمعت بين الأعمال السابقة الفنية والأدبية ثيمة اللون الأزرق، "الدانوب الأزرق سوناتة يوهان ستراوس، الملاك الأزرق لهنريخ مان، النقاب الأزرق لعبدالحميد جودة السحار، أغنية جاري مور لا زلت أحمل الحزن لأجلك، ولوحة عازف القيثار المسن لبابلو بيكاسو"، إن اللون الأزرق هو أكثر الألوان تجريدية(5)، إنه لون روحي يعبر عن الحزن الذي يصنعه الواقع، الألم الذي يخلقه الاكتشاف، المعاناة التي يمنحها البحث، ولكنه كما أنه يتنبأ بالنهاية فإنه يعد ببدايات أكثر جمالاً، كإعادة الأمل لشعب منكوب، أو متعة اكتشاف الذات الحقيقية، أو رهبة الاستمرار في الطريق، بالإضافة إلى سعادة البوح، والوعد بنهار جديد يأتي بعدما تسدل الشمس ستارها على الليل الأزرق البهيم المنطفئ كاللهب.
المصادر:
1. انظر: كورت زاكس: تراث الموسيقى العالمية، ترجمة سمحة الخولي، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014، ص 471
2. انظر: هنريخ مان، الملاك الأزرق، ترجمة صادق راشد، الدار القومية للطباعة والنشر، تحولت الرواية إلى فيلم من إخراج جوزيف فون سترنبرج، وتمثيل مارلين دتريخ، وإيميل جانينز، اسمه الأصلي" Der Blaue Engel".
3. انظر: عبد الحميد جودة السحار، النقاب الأزرق، مكتبة مصر، 1977
4. انظر: د. ليلى لميحة فياض، موسوعة أعلام الرسم العرب والأجانب، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1992، ص109
5. انظر: كلود عبيد، الألوان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2013، ص81
تغريد
اكتب تعليقك