الحرية الزائفة مقابل الخوف المُبطن في رواية «لا تقولي إنك خائفة»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 22:14:37

حبيبة رحال

مصر

الكتاب: "لا تقولي إنك خائفة"

المؤلف: جوزبه كاتوتسيلا

المترجم: معاوية عبدالمجيد

الناشر: دار المتوسط

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 287 صفحة

بأعين باكية كمدًا تستقبلنا نهاية قصة تتحدث عن الخوف، عن فتاة أرادت أن تمارس حلمًا تعاظم حتى انشطر لعظمته قلبها الفتيّ، ولم يسع له جسدها الناحل الضعيف.. سامية عمر يوسف... هذا اسم مُبكيتنا في رواية "لا تقولي إنك خائفة"، أو بالأحرى السيرة الذاتية التي كتبها الكاتب والصحفي الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا، الذي عثر على أختها هودان التي حكت له تفاصيل المغامرة التي خاضتها أختها سامية، ومن ثم خرجت لنا رواية لا تقولي إنك خائفة. 

حرية مُحتجزة في قاع سجن الخوف المظلم، ولكي تتحرر يجب أن تضرج بالدماء، "وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق"1 تموت لتحصل عليها، لم تعد الحياة هي الحرية، بل أثبتت لنا بطلتنا أنها هي السجن الذي تذوي فيه أحلام لا تتسع هي لها، فصار الغرق والتحطم والفناء الوسيلة السهلة للحصول عليها، في تلك الرواية التي تشد القارئ منذ اللحظة الأولى، ربما العنوان يعدك أنك ستغوص في أعماق رحلة مليئة بالشجاعة، نزهة كالمرآة ستجد نفسك فيها، "لا تقولي إنك خائفة".... الخوف...! من منا لا يخاف! من منا لا يفزع؟ من منا لا ترهقه الدنيا وتشغله! إنه الخوف الوجه المنقبض الذي يطالعك عندما تحدق في مرآة الذات، إنه "أهم الانفعالات الأولية التي تعمل في صورتها الطبيعية للمحافظة على الحياة. فالحيوانات تخاف وتفزع، ثم تجفل هاربة لتأوي إلى مكان يعصمها من الشر الذي يلاحقها، والطفل الذي يخاف من الأصوات المرتفعة المفاجئة، ويخاف أن يقع على الأرض من مكانه المرتفع، ويصرخ في فزع أو يهرب، شأنه في ذلك شأن بقية الحيوانات."2، إنه طبيعة فطرية في الكائنات الحية، تدفعها للعيش وسط عالم يتفنن في خلق مسببات الموت كل دقيقة بل كل ثانية، فإذا كان عنوان قصتنا هو النهي عن الخوف، فهي إذًا دعوة صريحة للموت، لتعيشي يا سامية كان  يجب أن تتظللي بأغلال الخوف، وتجلسي على شواطئ الترقب، وتخفضي عينيك عن تطلعات الأحلام، أما إذا أردتي أن تموتي فــ"لا تقولي إنك خائفة، أبدًا، يا صغيرتي سامية، أبدًا، وإلا فإن ما تخافينه، سيتعاظم حتى يهزمك"3، تلك النصحية التي أعطاها إيها أبوها، ولكن الشجاعة المتعاظمة لم تمنع هبوب أعاصير القدر التي حطمت مراكب الحياة، وألقت بحطامها على شواطئ الفناء، ربما لم تكن القصة ستنتهي على هذا النحو المفجع لو أن سامية تنصلت من نصيحة والدها، وخافت!

 تتناول الرواية أحداث صبية حاولت ركوب أمواج الشجاعة، ظنًا منها أنها سترفعها إلى حيث ينحني لها القمر، لكن الأمواج سحبتها إلى القاع، ملتهمة قصة كفاح كان من الممكن أن يكتب لها النجاح، فكل قصص النجاح لها تضحيات، حاولت بطلتنا العداءة سامية يوسف عمر التي كان حلمها أن تشارك في أولمبياد لندن ممثلة لبلدها الصومال أن تنجح في تحقيق الهدف الذي سعت إليه، وكانت التضحية قاسية، قيمة التضحية كانت الحلم نفسه، فعندما حاولت بطلتنا الهرب من الاضطهاد الصومالي إلى حيث بلدان تشرق فيها الشمس، وتنير جنابات الدنيا بالحياة، لم تكلل رحلتها بالنجاح إذ غرقت في البحر المتوسط بين ليببا وإيطاليا، فهل كان موتها ضروريًا لتخلد ذكراها إلى الأبد في أذهان البشر عن طريق تلك الرواية؟! هل وجدت روحها الخلاص عندما لُخصت بتطلعاتها وآمالها وآلامها وأحلامها كافة بين دفتي كتاب؟! تحدث زيغمونت باومان في كتابه الخوف السائل عن مفهوم "الخوف من الموت"، وكيف أن الحكايات الأخلاقية الآن تصب لنا الأحلام في قالب من الموت المؤجل: "إن ما تحكيه الحكايات الأخلاقية في زماننا هو أن الضربات تضرب بعشوائية من دون حاجة إلى سبب أو تفسير، فلا توجد إلا الصلة الأضعف (إن وجدت) بين ما يفعله الناس وما يصيبهم، وليس بوسعهم أن يفعلوا إلا القليل، أو لا شيء، حتى يتيقنوا من اجتناب المعاناة؛ فالحكايات الأخلاقية في زماننا تدور حول الخطر الشرير والطرد الوشيك، وحول اقتراب الناس من مرحلة العجز عن منع القدر"4، حاولت بطلتنا أن تترك أثرًا يرفع اسم دولتها عاليًا في مصاف العدائين العالميين الذين يشاركون في البطولات الألمبية، حاولت أن تضع دولتها على قائمة الدول المُنجزة الخالدة، ولكن انتهى بها الحال إلى تحقيق الخلود بين صفحات رواية قراءها ملايين من محبي الأحرف عبر العالم وتأثروا بها، إذ حركت تلك الرواية غريزتي الخوف من شبح الموت الذي جاء صادمًا في الصفحة الأخيرة من الرواية، وغريزة السعي لأجل الحرية، ليكتشفوا في النهاية الكشف الصادم أن الشجاعة تستلزم الموت في نهاية الأمر، وأنه على عكس الشائع الذي يؤكد أن كل من يتحرر ويتشجع يحقق هدفه، ربما العكس... ربما يفنى، ولكن قيمة الفناء عندما جاءت في نهاية الأمر بدت مذبذبة، على الرغم من كونها صادمة للغاية، ولكن جاذبية الرحلة قمعت الخوف المتعاظم من الموت، وإن استقر بثقل في الجانب الواعي لعقل الإنسان، "فمهما كانت عبقرية الحيل الرامية إلى طرد شبح الموت من العقل، فإن الخوف من الموت في نفسه، سواء أكان في صورة مختزلة أم منقولة، لا يمكن طرده تمامًا من حياة البشر."5.

أما الغريزة الثانية فهي الحرية....!

ذلك الشعور المُسكر بالطيران والتحليق، الحرية هي الفعل.. هي القوة... هي التنفيذ، بعد انقطاع سبل الرغبة، ذلك الشعور الذي يفك أغلال الإنسان يقبع في حيزه الضيق ويمكنه من التحليق بعيدًا إلى حيث تأخذه جناحاه، إنها الأمل الذي يسعى إليه كل إنسان يؤمن بعقله في عالم يسعى كل يوم إلى قطع جناحيك، وتحطيم آمالك في التحليق، بطلتنا تحررت من سجن الجسد بالطيران، أثبتت أنه ليس معنى أن تمتلك جسدي معناه أنك تتحكم في حريتي، فهي طارت وحلقت عندما أصرت على اتباع حلمها في العدو وخلفها تنطلق مدافع القمع، ووترتفع هروات التهميش، وينتزع الحق الإنساني في العيش بسلام، لقد منحت روحها لنعيش نحن أحرارًا، منحت لنا أملاً في العتمة، تنبع الحرية من كونها تجسيمًا للفردية الإنسانية، وهذه الفردية تمنح الإنسان إحساسًا بالتميز الذي يدعوه إلى ممارسة الحياة بكفاءة، مستقلاً بفكره عن أقرانه، وتنبع قيمة الحرية من كونها رفضًا لأشكال الظلم الجماعي الذي قد يُمارس على القيمة الفردية للإنسان، "وعندما تكون خبرة الظلم مشتركة أو عامة يكون هكذا الطريق إلى الحرية. ويبقى معنى الحرية واضحًا ما دام التفكير فيها بوصفها إصلاحًا أو إنصافًا من الظلم، باعتبارها تزيل أو تمحو ذلك القيد الشديد على طرفي نقيض مع الهدف في لحظة الشعور بالإحباط الشديد والمؤلم جدا. ويكون تصور الحرية بشكل إيجابي أقل سهولة باعتبارها حالة دائمة أو باقية"6، إذًا فالقيمة العظمى للحرية تظهر بوضوح في حالة الظلم والتعسف، ولكن هذا لا يمنع من أنه في مقابل الحرية توجد الحتمية التي لا يمكن التنصل من تأثيرها العظيم، والحتمية ليست ندًا للحرية ولكن لها القيمة الشعورية نفسها، فكما طالبت بطلتنا بالحرية وسعت إليها فإنها أيضًا واجهت الحتمية، تقول:"كنت قد بدأت أصدق أنه كلما زادت إنجازاتي في الركض، زادت خسارتي في الحياة"7، الركض المصدر المتغير للحرية، في مقابل الخسارات المتتالية في الحياة التي صورت المصدر الثابت للحتمية الصغرى، حتى جاءت الحتمية الكبرى المتمثلة في الموت الذي جاء رد فعل على الحتمية الكبرى للحرية المتمثلة في السعي لتحقيق الهدف.

رواية لا تقولي إنك خائفة هي سيرة حياة بطعم الموت، قادرة على نقلك من آفاق التفاؤل إلى وديان الخوف، تحلق بك فوق أطياف الحرية، ثم تغرقك معاها إلى محيطات الموت، إنها قصة... كلٌ منا.

 

الإحالات:

1. أحمد شوقي، ديوان الشوقيات، من قصيدة ألقاها أحمد شوقي في حفلة أقيمت بالقاهرة سنة 1926م، لمواساة سوريا، ولإغاثة منكوبي العدوان الفرنسي على دمشق.

2. و. ج. ماكبريد، الخوف، ترجمة: د. سيد محمد غنيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1980، ص 5-6

3. جوزبه كاتسوتيلا، لا تقولي إنك خائفة، ترجمة: معاوية عبدالمجيد، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، الطبعة الأولى، 2016، ص 38

4. زيجمونت باومان، الخوف السائل، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ص 56

5. المرجع السابق، ص 82

6. زيجمونت باومان، الحرية، ترجمة: فريال حسن خليفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012، ص 87

7. الرواية، ص129


عدد القراء: 2348

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-