المقابل الأنثوي التجريدي والتصوير الأثيري تمرد فني من نوع آخرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-30 05:28:55

حبيبة رحال

مصر

الكتاب: "أحببتك أكثر مما ينبغي"

المؤلف: أثير عبدالله النشمي

الناشر: الفارابي، لبنان

سنة النشر: 2009

عدد الصفحات: 326 صفحة

 

"إنه لا يفهم.. هذا الرجل لا يفهم"

                                         أثير النشمي

 

عندما يعرب البوح عن ثرثرته النسوية المختنقة... تخرج الرواية

نسوية سعودية:

لقرون طويلة ظلت الكلمات حبيسة الصدور، وقبعت الجُمل خلف جدران البيوت القماشية الهشة، ملكات الكلام مقبورات في جحورهن العصماء متطلعات نحو قوى ورقية كبرى تنزع أمانهن الزائف من عالم له ضجيج الصمت الأسود الذي يحمل داخله ثرثرة عنيفة لا تنتهي، تنزع حجب الظلام وتغرق في نور خاص بها، حيث كانت السيدات المتشحات بالسواد يحملن في أعماقهن دماءً بوحية نشطة تدعي الخجل، يسرن في جماعات ظاهرها السكون وباطنها فيه عذاب البوح المكبوت.

لم تكن دعوة إبراهيم عليه السلام لتخيب، تحرير الذهب الأسود النفيس من باطن الأرض الحارقة، وإرسال هذه العبيد السود إلى شتى أراضي الدنيا، تبعه تحرير فكري واجتماعي أيضًا، اطلعت عن طريقه المملكة الغنية الوليدة على الشعوب المختلفة الأخرى وحضارتها، وتغلغت تلك الحضارات بدورها بين شعب المملكة الناطقة بالعربية التي تتزين بحلي ذهبية سوداء، وكانت الثقافة، تحررت النزعة الأدبية وغادرت سكونها المحتجز في الصدور وخرجت بصحبة البترول عن إطار المحلية إلى الإقليمية، وأكبر مثال على ذلك هي الكاتبة بطلة هذه الورقة النقدية التي نشرت روايتيها "أحببتك أكثر مما ينبغي، وفلتغفري" في دار الفارابي اللبنانية، وبذلك أعلنت مراحل تمردية أولى على كبت النشر المحلي، بالإضافة إلى إعلانها لحالة مشابهة لتلك الحالة التقليدية النفطية، فكما تشتهر آبار النفط السعودية عالميًا وإقليميًا، فالأدب يصاحبها أيضًا، وكما يدير البترول السعودي الماكينات المحلية والإقليمية والعالمية، تخرج الكلمة أيضًا عن نزعاتها السلبية للكمون المحلي وتنطلق نحو آفاق أكثر رحابة.

وكما أتيحت الفرصة لثورة المرأة السعودية الجديدة على صمتها السجين، وبوحها المغتصب، أتاحت لنفسها توجيه صراخها من خلال موضوعاتها، وأساليبها السردية الجديدة، مبينة أن لديها الحق، الذي منحه الرجل لنفسه، في التعبير عن مشاعرها والتحدث عن طموحاتها ورغباتها.

فاستخدمت اللغة السعودية الحية، بوصفها مثالاً آخرًا على التأكيد على الذات البطولية للمرأة، فاللغة تمثل الوجه الحقيقي للأدب المتحرر الذي يخرج عن العباءات الإقليمية اللغوية إلى آفاق حرية التعبير اللغوي الذاتي، في محاولة لتأكيد قيمة الذات في مقابل الجمع العالمي المنقاد.

كادت صفحات الرواية أن تتحدث بنفسها عارضة فيلمًا سينمائيًا أبطاله المشاعر وبطلاته من لحم ودم، السرد يتحدث عن مكنونات جوهرية عظمى تدور في باطن كاتبته، والأسلوب ينطق بروعة الشعور الكامن خلف الأردية السوداء التقليدية.

ثملت المرأة الجديدة بالحرية التي جذبتها بقوة اتجاهها، فأبدعت وهاجمت وكشفت نفسها في عفوية وتلقائية، أسكرتها رائحة الخمر، وأعشى بصرها ضياء القمر، ومن ثم وجهت أولى سهام قلمها إلى من كان سببًا أوليًا في مصيبتها "الرجل"، لفت خيوطها الحريرية حول رقبته وجذبت برفق مؤلم غير قاتل، صدمتها تلك السادية الجديدة النابعة منها فتوقفت بوصفها كائنًا يدعي القوة، نازعتها عاطفتان: رغبة التخلص والمضي قدمًا، ورغبة الحماية والإحساس بالأمان في وجود ظل داكن قوي لديه القدرة على قمع جنون خوفها، احتاجت لحماية قمعية.

خلقت المرأة صراعها الخاص، ثارت على الأوضاع التي تسببت في تشظي كيانها الأنثوي المتكامل، وكسبت الصراع لصالحها، وجدت نفسها على خشبة مسرحية عامة وقد أسند إليها دور البطولة، بينما وقف جمهورها من الرجال في دور المشاهد، ربما لم تكن المرأة تتوقع تلك الحرية العظمى التي وجدت نفسها تنحاز إليها، بوصفها الطرف الأقوى في الصراع العالمي الدائر.

تمثل روايتا أثير النشمي نموذجًا نقديًا يبين المرحلة الأخيرة في صراع دائم بين قوتين متضادتين، المرأة في مقابل نفسها ونظيرها، محاولة الخروج والتمرد والعودة إلى القمع.

تتناول أثير في روايتها العلاقة الثنائية المعتادة، بصورة غير معتادة تمتزج فيها العادات التقليدية المحافظة في مقابل الصراع النفسي الوليد، والغرب المتحرر.

أحببتك أكثر مما ينبغي.

فلتغفري.

تلكما الروايتان اللتان خلقت بهما كاتبتهما السعودية النشأة أثير لوحتيها التجريدية والتصويرية، ولونتهما بالأسلوب اللغوي الحي، وخطتهما معًا بألوان كلماتها المشتعلة، حيث تشعل هذه الورقة النقدية العلاقة الوثيقة بين فنين، الأول فن الرسم بالكلمات، والثاني فن الكتابة على اللوحات، أي بين الأدب المكتوب belle-litter والأدب المنظور belle-art.

رجولة مقنعة خلف وجه أنثوي جاد:

الدهر إنه ذلك الحكيم العجوز الملول، الذي خبر أشكال الصراع البشري كافة، المراقب لتقلبات الطبيعة تحت قدميه، ذلك الذي سأم فض نزاعات أبنائه دوريًا، فكان لابد أن يختلف شكل الصراع هذه المرة، لابد من لفت نظر ذلك الجد الطاعن في السن الساكن على كرسي حكمته الأبدي، فكان الصراع الجديد الذي جعله يفتح عينيه مراقبًا ومترقبًا.

داخل لوحة هندسية تنعي ضلعها الرابع المفقود، يطل وجه امرأة غير مكتمل، رسم تجريدي سائل داخل أشكال هندسية ناقصة، هكذا يطالعنا وجه الرواية الأول، وتصافح أعيننا تجريدية الغلاف البسيطة في شكلها، ذات المضمون المعقد.

نتنقل داخل ثنايا اللوحة المرسومة عبر تلك الكليمات التي تأخذنا عبر أثير عوالم اللوحة الروائية التي خطتها أنامل ابنة الأدب، ويكون المطلع أوله ندم.

يتقابل عنصرا اللوحة الغلافية: المخاطَب الذكوري في أحببتُكَ، والمقابل الأنثوي: الوجه النصفي الآخر للوحة، وتدور اللوحة السنيمائية المكتوبة:" غارقة في حبي لك ولا قدرة لي على انتشال بقايا أحلامي من بين حطامك، أشعر بأنك تخنقني بيديك القويتين يا عزيز! إنك تخنقني وأنت تبكي حبًا.. لا أدري لماذا تتركني عالقة بين السماء والأرض! لكنني أدرك بأنك تسكن أطرافي وبأنك (عزيز) كما كنت...."

ربما قد يتصور قارئ يخوض بداية رحلته البحرية داخل تموجات الروائية أنها ستكون مأساة عشقية عبثية متكررة، تخاطب فيها ذات أنثوية متشظية عشقًا، نظيرها الرجولي المكتمل، ربما قد يتصور أن نصف الوجه الأنثوي يمثل انتظارًا للاكتمال الرجولي الآخر، الذي تكمله ملحمة غرامية مشتعلة لكن الصراع هنا كان مشتعلاً على نحو آخر.

صراع وجهة نظر أنثوية جادة إلى عالم رجولي متحلل.

ربما قد يبدو العشق في هذه الرواية على نحو غير متوقع، فهو ليس عشقًا يعاني أطرافه من تقلبات زمنية، بل يعاني الزمن من تقلبات مجتمعية متباينة تحدث فيه صراعًا في مسيرته الثابتة ذات الوتيرة الهادئة.

لم تعد المرأة تقف في مواجهة الرجل، وإنما وقفت امرأة في مقابل مجتمع بأكمله، ليس تمردًا عليه كما السابق، وإنما رغبة في إعادة توجيه نظراته إلى تلك الأخطاء التي يقع فيها بحق نفسه.

لقد انتهى صراع المرأة الجديدة في القرن الحادي والعشرين، لم تعد تصرخ مطالبة بحق التعلم، فبطلة الرواية جمانة فتاة شابة متعلمة تدرس في الخارج في جامعة كندية ذات مستوى عالٍ، ولم تعد تطالب بحق الزواج من الشخص الذي ترضاه هي، فوالدا البطلة وافقا على عزيز عند تقدمه لخطبتها دون حروب أهلية تذكر، ولم تعد تتمرد على مجتمع يعاني عقدة ذكورية مضادة للأنثوية، فالنماذج الذكورية في الرواية – بخلاف لوحة البطل - تبدو نماذج عربية مشرقة غير متعصبة سواء تمثلت في أفكار الأبوة، أو العلاقات الأخوية، وحتى علاقات الصداقة بين الجنسين.

فكان لابد من خلق ساحة جديدة لصراع جديد، ورؤية روائية مغايرة للعلاقات الأنثوية الاعتيادية.

إذا انتقلنا من قضية أن هذه رواية نسوية مهاجمة للرجل، وانتقلنا من وجهة النظر النقدية الأنثوية، يمكن أن ندرك العمق الحقيقي لرواية خليجية كتبت في القرن الحادي والعشرين، دون أن نصرخ داخل أبواق تنادي بالتمرد النسوي، ومهاجمة الذكورة، وإعادة توجيه أنظار المجتمع إلى قضايا حقوق النساء، ففي عالم صارت المساواة بين جنسيه قضيةً معترفًا بها، قد تبدو فكرة صراع الجنسين في أية رواية فكرة خاسرة، حتى إن بدت الرواية وكأنها تصور مأساة عشقية بين بطلين، ولكن في ضوء قضايا العولمة الحديثة يعد تفسير الرواية على أنها ملحمة تمردية نسوية تفسيرًا غير صائب النزعة.

منحتنا الكاتبة مجموعة متكاملة من وجهات نظرها الروائية من أجل أن تساعدنا على التوصل إلى هدفها المنشود، بدءًا من غلاف روايتها، حيث يعد الرسم التجريدي على الغلاف المعول الأول لهدم تطبيق نظريات نقدية قديمة على رواية حديثة كتبت عام 2011م، ألغى الرسم التجريدي بظهوره في القرن العشرين تلك الموضوعية الثابتة في الفن، ووجد رواده أن الموضوعية تقيد الخيال والمتعة الروحية، يبدو الرسم بسيطًا في تفاصيله، معقدًا في مضمونه، وتكمن نقاط تعقيده في أنه يفتح آفاق الرائيين إلى إمكانات تفسيرية جمة.

وتمثل العلاقة بين كلمات الرواية الأولى الواردة على لسان البطلة "أحببتك أكثر مما ينبغي" وبين غلافها "وجه نصفي لأنثى ذات ملامح جادة داخل مربع ليس له قاعدة" علاقة عكسية، فبالنظر إلى محتوى الرواية ونوع الرسم، تحاول الكاتبة الخروج من عالم الرومانسية إلى عالم الواقعية، لكن بطريقة رومانسية للغاية تتمثل في اللغة الحية البسيطة التي تخلق سحرًا، لكنها في النهاية تنزع الموضوع من إطار الرومانسية وتدخله في سياق الموضوعات الواقعية الجمة، والدليل على ذلك أن الرواية تبدأ بإرسال شفرات مشاعر العتاب وتوجيهها إلى المقابل الذكوري الآخر، وإن تمثلت ضمنيًا ملامح العتاب على وجه البطلة التي تحاول أن ترسل تلك الشفرات الشعورية إلى ذاتها أيضًا، بالإضافة إلى العتاب، هناك الندم وهو شفرة شعورية ذاتية، تحاول إيصالها إلى الآخر، في دائرة كبرى ثنائية، تتقاذف المشاعر السلبية فيما بينها، وما بدأت به المشاعر في الرواية انتهت به أيضًا، في محاولة لتأكيد رفض النزعة الرومانسية التي تنتهي بنهايات سعيدة غالبًا، أو تتراوح بين التأكيد على وجود نوعي المشاعر الإيجابية والسلبية، تلك الرواية تأخذك في إطار إنساني واقعي، ينظر إلى الحب بمفهوم حديث، دون أن يحاول المبالغة في تزيينه، وصبغه بألوان لا يستحقها، وكما تخرج تلك الرواية من الرومانسية وتدلف إلى الموضوعية، تعاكسها اللوحة الغلافية في خروجها من الموضوعية والواقعية والدخول في إطار الخيال أو اللاموضوع، إن الواقعية تسود المجتمعات التي تنعم بالسلام، لكن التجريد هو الهروب من الواقع، حيث يمنح التجريد فنانيه نوعًا من التطهر من تلك التدنسات التي يمنحها العالم الواقعي للعائشين فيه، ويمكن أن يكون تعريف الفنان بابلو بيكاسو في حديث له مع مجلة "كاييه دار" للتجريد تعريفًا مناسبًا، حيث قال بأنه لا وجود للتجريد، إذ لابد أن تبدأ بشيء ما ثم تزيل كل أثر له بالواقع.. وإذا طبقنا هذا التعريف على اللوحة، سنجد أن " الإزالة" هي المدخل السحري لها، حيث تمت إزالة نصف الوجه وتشويه الملامح الأنثوية بالجدية، بينما تمت إزالة الضلع الرابع من المربع، ويعد الرسم الهندسي أحد أشكال التجريد، فيما يطلق عليه اسم "الفن النقي"، وكانت لوحات الفنان ليجيه ذات طابع هندسي على الرغم من احتوائها على عناصر تشخيصية، إذًا نجد أن العلاقة بين مضمون العمل الأدبي ككل وبين مفهوم اللوحة بصورة موضوعية هي علاقة عكسية، فبينما تحاول الرواية الخروج من الخيال، تصاحبها اللوحة الغلافية بالجنوح إلى الخيال، لكن الفرق بينهما هو أن الخيال في الفن يمنح مشاهده إمكانات للتفسير كبرى، وهذا يؤدي إلى نجاح اللوحات الفنية الإبداعية، فكل مشاهد يفسرها بطريقة خياله، ولواقع أفكاره، لكن العمل الأدبي المتضمن ذلك الموضوع الشائك بشكل خاص، يحتاج إلى معالجة واقعية له، وقد يؤدي الخيال فيه في أغلب الأحيان، إلى فهم أدبي خاطئ، وربما مستريب.


عدد القراء: 2242

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-