أنْ تكبُر في زمن الثقافات التقنيَّةالباب: مقالات الكتاب
د. أسماء كريم باحثة في الترجمة ونظرية النص وتحليل الخطاب - المغرب |
حوار: مارتين فورنيي
ترجمة: د. أسماء كريم
الهواتف الذكيَّة والشبكات الاجتماعيَّة ومسلسلات البث المباشر...دخلت المراهقة عصر الثقافات التقنيَّة. فماهي خصائصها؟ وما هو تأثيرها على الأجيال الشابَّة؟
منذ الطفولة، لم تعد الأجهزة اللوحيَّة الرَّقمية تحمل أسرارًا بالنسبة لهم. سمَّاعات لاسلكيَّة على الأذنين، لا تفارقهم الهواتف الذَّكيَّة أبدًا منذ مرحلة ما قبل المراهقة. يقضي المراهقون ساعات طويلة على حواسيبهم المحمولة يشاهدون البث المباشر للمسلسلات، وينشؤون دلائل تعليميَّة حيث يعكسون شخصياتهم، ويستمعون إلى الموسيقى التي يحبونها...أثناء الدردشة على الشبكات الاجتماعيَّة حيث يملكون ملفاتهم الشَّخصيَّة، ويعلِّقون بلا انقطاع باستخدام صور متحرّكة ورموز تعبيريَّة. تؤكّد عالمة الاجتماع سيلفي أكتوبر Sylvie Octobre أنه مع التَّطور المذهل للتقنيات، تم إنشاء نظام ثقافي تقني جديد للأجيال الشَّابة.
كيف يَلجُ الشباب إلى الثقافات التقنيَّة؟
ترتبط الخطوة الأولى بامتلاك هاتف ذكي يجمع بين ممارسات متعدّدة، بما في ذلك مشاهدة مقاطع الفيديو والاستماع إلى الموسيقى، وهي الأنشطة الرئيسة لمرحلة ما قبل المراهقة. وعادة ما تأتي هذه المرحلة عند الالتحاق بالإعداديَّة، لأنَّ الآباء يطمحون في امتلاك إمكانية التحكُّم في أطفالهم. وتزداد الرَّقابة الأبويَّة فقط بسبب الخطابات التَّحذيريَّة حول أخطار الأماكن العموميَّة، والتي تُحابي الشاشات. وناذرًا ما تستخدم الأجيال الشابَّة الهواتف الذكيَّة من أجل المكالمات الهاتفيَّة، فهم يرسلون لبعضهم البعض رسائلاً مكتوبة أو صوتيَّة! ثم وصل الحاسوب واللوحة الرَّقميَّة إلى عوالم المراهقين، على الرغم من أنَّ الكثيرين قد لعبوا بالفعل باللوحات الرَّقميَّة العائليَّة وهم أصغر سنًّا. يستجيب تجهيز المراهقين للأوامر المدرسيَّة كذلك: معرفة الواجبات المنزليَّة في المجالات الرَّقميَّة للعمل، وأيضًا لتسليم الواجبات، والتواصل مع الفريق التَّعليمي، وملء الملفات. لقد أصبح هذا السَّبب في تجهيز الطفل أمراً رئيسيّاً، خاصة في الأسر الشعبيَّة حيث تريد توفير أدوات النَّجاح. وتنضاف إلى هذه الأهداف تلك الخاصَّة بالمراهقين والذين يرغبون في التَّواصل والاستهلاك بحريَّة.
ما هي السّمات المحدّدة للثقافات التقنيَّة؟
تشير ثقافات الإعلام إلى ما تعلَّمناه في وسائل الاعلام التقليديَّة (التلفزيون والرَّاديو والصَّحافة). أصبح الاستهلاك مع الثقافات الرَّقميَّة "توافقاً" يمكن لكلّ فرد أن يسهم فيه بإنشاء محتويات ثقافيَّة، من خلال التعليقات، وإعادة المزج، والمحتويات الـمُنْتَجَة ذاتيًّا...وكل هذا يخلق مهارات يتم اكتسابها تدريجيًا مع الوقت. يستخدم الشباب الفكاهة أو المحاكاة السَّاخرة كثيرًا، ولكن أيضًا أشكالاً أكثر تربويَّة كما هو الحال عندما يبثون "برامج تعليميَّة" خاصة بهم. ويستند هذا التَّحوّل إلى الثقافات التقنيَّة على التهجين وازدياد سهولة اختراق الفئات الثقافيَّة: بينما كانت مشاهدة فيديو موسيقي، في جِيلي، لا تزال ممارسة أقلِّيَّة، فإنَّ الاستماع للموسيقى، اليوم، يعني في حالات كثيرة مشاهدتها.
أنت تقول إنَّ الثقافة الجماليَّة تتطور عبر الإنترنيت. هل هذا يؤكّد ما نسمعه، في كثير من الأحيان، أن الشباب لا يقرؤون؟
لقد انتقلنا من ثقافة الكتاب إلى ثقافة الصّور. الفنون التَّشكيليَّة موجودة في كلّ مكان؛ في فن الشوارع، وفي التصميم والمجلات. المقالات الصحفيَّة على الإنترنيت تكن مصحوبة بالعديد من العناصر المرئيَّة.
لقد أصبح الشباب ذا خبرة كبيرة في القراءات الخياليَّة السمعيَّة والبصريَّة، نظرًا للوقت الذي يقضونه في مشاهدة مقاطع الفيديو والمسلسلات، فمع الصُّور، تحدث أشكال أخرى من فكّ التشفير. وخلافًا لقراءة الروايات، حيث تثير الكلمات تمثيلاً تصويريًّا في ذهن القارئ، ففي الإنترنيت، تستوجب هيمنة البصري أنْ نصِف في كلمات ما نراه.
ولذلك تغيَّرت المهارات المطلوبة. ومع ذلك سيكون من الخطأ القول إنَّ الشباب لا يقرؤون. في الواقع، هم يقرؤون (ويكتبون) كثيرًا على الشبكات، لكن طبيعة قراءاتهم لا تتوافق بالضرورة مع المعيار الذي يشكّل القراءة "التقليديَّة" في تمثيلاتنا. إنهم يقرؤون نصوصًا ذات طبيعة مختلفة جدًّا، صحفيَّة ووثائقيَّة، أو كتبها شباب آخرون. يقرؤون أشكالاً خياليَّة جديدة: يشير سوق أدب الشباب أن مجالات الخيال، أو الروايات التي لا زمان لها ولا تاريخ، أو روايات ما بعد نهاية العالَم، والتي لا تعتبر أنواعًا أدبيَّة شرعيَّة، هي في حالة جيّدة. ومع الأدوات المتاحة لهم، ينتقل البعض إلى الكتابة، كما يتَّضح من نجاح منصَّات مثل واتباد Wattpad. يمكننا مناقشة الجودة الأدبيَّة لهذه النصوص، ومن الواضح أنها مُتغيِّرة، لكن الظاهرة هائلة وتحدث على هامش المؤسسات التعليميَّة.
هل يمكننا أن نرى في هذه الممارسات تثمينًا للثقافات الشعبيَّة؟
الحركة العامة هي في الواقع حركة إعادة تقييم الأشكال الـمُحْتَقرَة سابقًا: المسلسلات والقصص الـمُصوَّرة على سبيل المثال، وألعاب الفيديو أيضًا. ويقع حاليًّا إجراء تحوّل بين ما يسمّى بالفنون الرَّئيسية (مثل السينما) والأشكال الحاليَّة التي كانت تُعتبر في السابق ثانويَّة. ويرجع هذا، من ناحيَّة، إلى التحسّن الكبير في جودة هذه المنتجات: لا يمكن المقارنة بين نجم السماء Starsky والقفص Hutch في مرحلة طفولتي وسلسلة لعبة العروش Game of Thrones. عندما اجْتاحَتْ المانغا فرنسا في تسعينيات القرن العشرين، كانوا محتقرين تمامًا. واليوم، صار المانغا ضيف الشَّرف في مهرجان أنغوليم Angoulême، حتى أننا نتحدث في فرنسا عن "مانغا الكُتَّاب". وبالمثل، تُمجّد الرسوم المتحركة أفلام ميازاكي Miyazaki وغيره من الـمؤلِّفين الذين اسْتُحْسِنُوا استحسانًا كبيرًا. نحن بعيدون عن الصُّور النمطيَّة التي ينقلها عالَـم ديزني...
تُبرز استطلاعاتك الجانب العالَمي للثقافات الرَّقميَّة، والذي يُظهر عند الشباب انفتاحًا على ثقافات العالَم المختلفة...
التَّدفقات الثقافيَّة آخذة في التَّغيّر، فحتى ثمانينيات القرن العشرين، كانت الهيمنة الأمريكيَّة بلا منازع تقريبًا. أما اليوم، إذا كان التيار الرئيسي mainstream الأمريكي لا يزال موجودًا، فيمكنك أيضًا العثور، على شبكة الانترنيت، على مُنتَجات من زيمبابوي أو الأرجنتين أو كندا أو الهند، أو من أمريكا اللَّاتينِية، فضلاً عن المنتجات الآسيويَّة...أصبحت موسيقى البوب والمسلسلات الكوريَّة-الجنوبيَّة، التي كانت غير معروفة تمامًا حتى وقت قريب، موضوع إثارة قويَّة حاليًّا.
بدأ الشباب ينظرون إلى العالَـم بِوصْفِه فسيفساء ثقافيَّة. في فرنسا، يأتي هذا التَّذوق للعالَـميَّة مصحوبًا بطعم الأفلام أو المسلسلات في نسختها الأصليَّة مع الترجمة. وإن كانوا يعرفون أنَّهم لا يفهمون كلّ شيء، فإنَّ الشباب يفضلونها في نسختها الأصليَّة، كما يقولون في استطلاعاتنا، "لكي تهتم بالآخر، فأنتَ بحاجة إلى الأصوات الحقيقيَّة والنبرات الحقيقيَّة".
تُعزّزُ هذه المنتجات الثقافيَّة القادمة من أماكن أخرى من العالـَم الغرابة الايجابيَّة للشباب، والذين يجدون فيها، أحيانًا، صدىً لثقافاتهم الخاصَّة. تعرض المسلسلات الكوريَّة، على سبيل المثال، جمال الثقافة والشجاعة ومرونة شعب اسْتُعمِر لمرَّات عديدة...
ومع ذلك، ليس كلّ المواطنين الرَّقميّين خبراء ومبدعين، وليسوا بالضَّرورة مُؤهَّلين لتمييز المعلومات الخاطئة التي يتم تداولها بكثرة على شبكة الإنترنيت... ما هي الفجوات؟
بالتَّأكيد هناك العديد من عدم المساواة، والرَّئيسيَّة، بالنسبة لي، هو عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنيت، وإن كان الأمر يتعلَّق فقط بأقليَّة من الشباب (أقل من % 5)، فهذا الاستبعاد متطرّف بشكل خاصّ.
من الضروري كذلك أن يكون لديك حدّ أدنى من الموارد الثقافيَّة لتجد نفسك في متاهة الانترنيت، ولتبني طريقك دون الغرق فيه؛ ولا الوقوع في فخّ الأخبار الكاذبة fake news، ونظريات المؤامرة التي تحظى بشَعْبيَّة كبيرة بسبب قوتها في الجذب واجمالي المشاركات buzz التي تُولِّدها.
وليس من المستغرَب أن أولئك الذين يتمتَّعون برأس مال اجتماعي وثقافي هم الذين ينجحون والذين، علاوة على ذلك، يتمكَّنون من التعبير بوضوح عن هذه الممارسات الثقافيَّة التقنيَّة مع الثقافة المدرسيَّة.
إنَّنا نجد أنفسنا في لحظة حاسمة: فمن ناحيَّة، تتطور حالة المعرفة بوثيرة أسرع من تجديد الكُتب المدرسيَّة الورقيَّة، ومن ناحيَّة أخرى، يُطوِّرُ الشباب العديد من القدرات الثقافيَّة التقنيَّة التي تكاد تكون مقتصرة بشكل حصري على الأنشطة الترفيهيَّة والتي تعتبر مع ذلك تَعلُّمات مهمة. لقد أوضحت لنا تجربة الحجر الصحي أنه يمكن إيلاء الاعتبار للتدريس عبر الإنترنيت، شريطة استحداث مناهج تعليميَّة تعاونيَّة وتفاعليَّة، وبعبارة أخرى، القدرات الثقافية التقنيَّة.
هل يمكننا الحديث عن طريقة جديدة لبناء الذات لدى المراهقين؟ عن تفرُّد في الذخيرة الثقافيَّة وفقاً لأذواقهم واختياراتهم؟
كما هو الحال في أي جيل، يجب أن يكون لديك بعض النقط المشتركة لتكون جزءًا من مجموعة (أن تكون قد قرأت المانغا، أو تكون قد شاهدت سلسلتين رائدتين أو ثلاث، أو أن تكون مستخدِمًا لـ(Netflix). ولكن بعيدًا عن هذه الثقافة المشتركة، فإنَّ إمكانات تطوير أذواق المرء الخاصة هي أكبر بكثير من ذي قبل بفضل التَّعدّد الهائل للمَعروض ومدى توافره على الشَّبكات، أي بدون قيود جدول البثّ المفروضة على وسائل الإعلام المتدفقة (التلفاز والرَّاديو). ويمكن للشباب، وفقًا لمجالات اهتمامهم، تكوين ذخيرة ثقافيَّة انتقائيَّة، مع العلم أنَّ حريَّة الاختيار هذه تعتمد بشكل واضح على السياقات التي يعيشون فيها.
المصدر:
مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية، عدد خاص (Sciences Humaines, Numéro Spécial)، العدد 329، أكتوبر 2020، ص:46-47-48
تغريد
اكتب تعليقك