روسو: الطبيعة والخيال والإنسانالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 11:33:16

د. أسماء كريم

باحثة في الترجمة ونظرية النص وتحليل الخطاب - المغرب

أندريه شراك1    André Charrak

ترجمة: د. أسماء كريم

 

لقد خرَّبَت المجتمعات الحديثة الإنسان وأخْفَتْ طبيعة الحقيقة. ويعتزم روسو إعادة اكتشافه من خلال مُوَارَبَة الخيال. وبعد ذلك، يمكنه إرساء أسس نظام سياسي حيث لا يتخلَّى فيه الإنسان عن حرّيته.

لا يجد جون جاك روسو في العالم الحديث صورةً لتقدّم الأخلاق والرّوح الإنسانيَّة. إنَّ مشهد التَّنوير والدّعاية للكُتب والإنتاج المسرحي ينتج عنه تأثير مزدوج للتَّعتيم: فالاحتفال بالفلسفة يُخفي خراب العلاقات الإنسانيَّة وهذا يخفي طبيعة الإنسان. ويتمّ التَّعبير عن الوعي بهذا الموقف، الذي يصل إلى حدِّ الوحي (في الطريق إلى فينسين Vinciennes، عندما ذهب روسو لزيارة ديدرو Diderot في سجنه)، في كتاب خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر (1755) / Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes. يتَّسم العالم البشري بحالة من عدم المساواة الـمُعَمَّمة، حيث تؤدّي الهيمنة السياسيَّة والتَّبعيَّة الاقتصاديَّة إلى تشويه العلاقات الإنسانيَّة. هل يجب أن نستنتج من ذلك أنَّ هناك عدم مساواة في الطبيعة؟

تَـخْـيِيلُ حالة الطَّبيعة

للإجابة عن هذا السؤال، من الضروري أوَّلاً وضع الحقائق بين قوسين كما هو الحال في البلدان الحديثة الكبرى، لإيجاد نظام طبيعي يسمح بالوصول إلى حقيقة الإنسان: "لنبدأ بإلغاء جميع الحقائق، لأنَّها لا تمس إطلاقًا القضيَّة". يتجاوز تخييل حالة الطبيعة الفرضية الكلاسيكية التي عبَّأها العديد من مُفكّري العقد الاجتماعي، ويعيد توصيف الإنسان في الطبيعة، من خلال التخلّص، على سبيل المثال، من الفرضيَّة المريحة للتَّواصل الاجتماعي الطبيعي. ويكمن الخيال، على وجه التَّحديد، في اختلاق حقيقة غير موجودة. لكن التحليل الذي أُجْري في "خطاب في أصل التَّخاطُب" يُظهر أنَّ هذه الحالة الخياليَّة أكثر صحَّة من الأمثلة الدَّامغة المأخوذة من العالم الحديث. يُظْهر الخيال عالمًا حديثًا يريد إخفاء تاريخه، تاريخ الدّول الاوربيَّة التي تضاعف الحروب؛ وتاريخ الأنظمة التي يختلقها البشر من أجل تحقيق الاستقرار في علاقات الهيمنة العنيفة، وتاريخ العلوم والفنون، والتي يرافق تطوّرها فساد الاخلاق. يجب فكّ رموز هذا العالَم لجعل طبيعة الإنسان ومصيره الأخلاقي الأصيل مقروأين، أو حتّى، إذا سمحت الظروف بذلك، إمكان وجود سياسة تُقِيم العدالة.

لذا، يجب أنْ ننظر بعيدًا، حتى نُطوِّر أسطورةً عن حالة الطبيعة، من أجل إثبات أنَّ الإنسان وُلِد خَيِّرًا؛ وكيف أصبح تعيسًا أثناء تطويره للمَلَكات التي تجعله مع ذلك نبيلاً؛ وما يظلّ فيه غير قابل للتَّدمير رغم هذا التَّاريخ (الحريَّة والوعي). أظهر كلود ليفي شتراوس في كتابه المدارات الحزينة (1955) / Tristes tropiques أنَّ روسو قدَّم بذلك حقيقة عن حالة الأفراد المعاصرين، الذين يُؤسِّسون الثقافة بوصفها آلهة مُغْفلِين تاريخ أنوارهم السري والبائس أحيانًا: "إليه، ندين بمعرفة كيف ما يزال بإمكاننا، بعد القضاء على كلّ الأوامر، اكتشاف المبادئ التي تسمح ببناء نظام جديد".

إذا كان من المستحيل بشكل مفارق اللجوء إلى القاعدة المتعاليَّة للعدالة المثاليَّة، عندما يتعلّق الأمر بالتفكير في العلاقات العادلة بين الأفراد، فإنَّ ذلك يكون من خلال تحليل طبيعة المصدر الحقيقي للسيادة وللدولة وللقانون وللحكومة التي يَوفِّق بين وجودها وما يجب أن تكون عليه؛ بمعنى الأفراد كما هم والقوانين كما يجب أنْ تكون. هذا هو جوهر العقد الاجتماعي (1962) / Contrat social، والذي ربما يكون في الأساس النص الأكثر واقعيَّة عند روسو. وهو لا يدَّعي تقديم حقيقة تاريخيَّة (على الرّغم من أنَّه تمَّ تطبيقه في جميع الدّول، حتَّى لو كان ذلك ضمنيًّا) أو برنامج ثورة مستقبَليَّة. لكنَّه يُقدّم المعيار الذي يمكن من خلاله تقييم ومقارنة وفهم الدَّساتير المختلفة والأشكال المتنوّعة الواقعيَّة للسُّلطة السياسيَّة.

التَّعليم في صلب اهتمام الفلسفة

لم تَعُد الدّول الأوروبيَّة، وخاصَّة فرنسا، دولاً حقيقيَّة وفقًا لروسو، مع استثناءات ملحوظة لبولندا وكورسيكا. كيف يمكن أن تصبح إنسانًا بينما لم يعد بالإمكان أنْ تصبح مواطنًا لغياب جزء أصيل؟ ومرَّة أخرى يتعيَّن علينا أنْ نلجأ إلى الخيال للتَّخلّص من الأحكام المسبَقة للعالَم حول الأطفال ولإثبات أنَّ الكائن، وفقًا للطَّبيعة، يمكن أنْ يتطوَّر حتى في ظروف غير مواتيَّة. وفي هذا الصَّدد، يستجيب للمؤلّف إميل (1762) Emile لـ "الخطاب حول اللامساواة"/ Discours sur l’inégalité، ويُكمّل العرض المنهجي لمشروع روسو الفكري: النظام الطبيعي لتطوّر الملَكات والعواطف البشريَّة؛ ودور الرَّأي العام في تحريف المشاعر الطبيعيَّة، وضرورة الدِّين لضمان الأمل في مواجهة انتصار الأشرار على الأرض. وبعد أفلاطون، يضع روسو التَّعليم في صلب اهتمام الفلسفة نفسها؛ بمعنى فهم التَّطوّرات الـمُمْكِنَة على الرّغم من الحالة الرَّاهنة للأشياء.

هل تبقى هذه الشهادة الوهمِيَّة عن الطبيعة البشريَّة دون أدنى دليل؟ يُقدّم روسو نفسه بشكل صريح في "الاعترافات"/ Les Confessions، بوصفه مثالاً للمقارَنة للأفراد المعاصرين. وإذا كان هو الوحيد الذي تجب قراءته، في اتجاهه، فلا يمكن فهم ذلك إلا من خلال التفكير بقُوَّة في مُعاصريه الذين يُحافظ معهم بالعلاقات الأخلاقيَّة التي تُشكّل السِّمة الـمُميِّزة للعلاقات الإنسانيَّة: "لكي تعرفني جيّدًا، عليك أنْ تعرفني في كلّ علاقاتي الجيِّدة والسَّيّئة على حدٍّ سواء. إنَّ اعترافاتي مرتبطة بالضَّرورة باعترافات الكثير من الأشخاص". من خلال السيرة الذَّاتيَّة، انضمَّ روسو إلى العالَـم، ويصف لنا بضمير المتكلّم المكانة الفلسفيَّة التي احتلَّها في القرن الثامن عشر؛ إيْ في لحظة الوعي بحداثتنا: وأكثر من أيّ شخص آخر، فقد أنتج عنه نقدًا داخليًّا وليس إدانة شاملة. وفقط في أحلام المسير المنعزل/ Les Rêveries du promeneur solitaire، المكتوبة في نهاية حياته، سيبحث في نفسه عن مصدر السَّعادة الكاملة قدر الإمكان، بعد أن مات من أجل العالَـم. لم يعد الأمرُ يتعلَّق بسيرة ذاتيَّة، لأنَّ الخيالَ مكتوبٌ حول الذَّات، في الوقت الحاضر، بينما الخيال الفلسفي (حالة الطبيعة، وتعلُّم إميل) يجب أن يقدّم للعالَـم وسائل لينظر بها بصورة واضحة إلى نفسه.

الهوامش:

1 - أستاذ الفلسفة في جامعة باريس I، وباحث في المركز الوطني للأبحاث العلميَّة CNRS، وقد نشر عدَّة مؤلَّفات بما فيها معجم روسو/ Le Vocabulaire de Rousseau، عن دار نشر Ellipses سنة 2001، وكذا روسو من التجريبية إلى التجربة/ Rousseau. De l’empirisme à l’expérience ، عن دار نشر Vrin، سنة 2013.

المصدر:

مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية/ عدد خاص، Sciences Humaines/ les essentiels, Hors-série، العدد 14، ماي-يونيو2023، ص: 52-53-54


عدد القراء: 2733

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-