جورج لايكوف .. الاستعارة تَبْني الفِكْرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 19:36:29

د. أسماء كريم

باحثة في الترجمة ونظرية النص وتحليل الخطاب - المغرب

ترجمة: د. أسماء كريم

سلَّط جورج لايكوف George Lakoff الضَّوء، من خلال التَّأكيد على دور الاستعارات، على كيفيَّة اكتساب الكلمات للمعنى من خلال التَّجارب الملموسة والمفاهيم المشتركة.

يعتبر جورج لايكوف رائدًا في علم اللغة المعرفي منذ الثمانينيات، وهو معروف بدوره كمُفكِّر يساري مُلتَزم بالـمُعسكَر الديمقراطي، مثل نعوم تشومسكي Noam Chomsky في اللسانيات التوليديَّة، وهو شخصيَّة إعلاميَّة في علم اللغة.

بدأ حياته المهنيَّة في تخصّص تشومسكي وعمل، مثله، في التحليل التركيبي للّغات. ولكن، منذ منصف الثمانينيات من القرن العشرين، وبالتّعاون مع جيمس ماكولي James McCawley وبول بوسطال Paul Postal وجون روس John Ross، حرَّر لايكوف نفسه وحاول تطوير دلالةٍ توليديَّة شكَّلت بنيةً دلاليَّةً عميقة تخضع لها الخصائص النّحويَّة. كانتْ خيبة أمل "فرسان نهاية العالَم الأربعة"، كما أطلق عليهم أنصار النظريَّة المعياريَّة، كبيرةً، لأنَّ تشومسكي رفض الاهتمام بمقترحاتهم. ثم، انفصلت الدَّلالة التوليديَّة، ولكنّها اختفت خلال السبعينيات، بعد تهميشها في الجامعات. وسرعان ما تخلَّى لايكوف عن التوليديَّة والمنطق للتَّركيز على العلاقات بين المعرفة واللغة. وكانت الجامعة الصَّيفيَّة التي نظَّمها عام 1975 في معهد بيركلي اللغوي Berkeley Linguistic Institute de بمثابة استراحة. وهناك التقى بباحثين في العلوم المعرفيَّة، وخاصَّة إليونور روش Eleonor Rosch الذي قدَّم نظريَّةً جديدةً لتصنيف الإنسان، والتي لم تعد تستند إلى الظروف الضروريَّة والكافيَّة كما أسَّسها أرسطو، ولكن إلى نظريَّة النَّمط النَّموذجي.

كان اللقاء مع مارك جونسون Mark Johnson عام 1979 حاسمًا: فقد أدَّى اهتمامهما المشترك إلى إصدار كتاب عام 1980 (Metaphor we live by/ الاستعارات التي نحيا بها). يوضّح لايكوف وجونسون أنَّ الاستعارات، بعيدًا عن كونها مجرّد صور بلاغيَّة، موجودة في كلّ مكانٍ؛ في طرائق تفكيرنا وتواصلنا. يتم تنظيم الاستعارات بطريقة منهجيَّة ومتَّسقة: وبالتالي فإنَّ تعبيرات من قبيل "الوقت هو المال"، و"الوقت مَوْرِدٌ"، و"الوقتُ سلعة ثمينة"، تشكِّل نظامًا واحدًا يشير إلى مفهوم القيمة. إنَّ التَّجارب الجسديَّة التي نمرُّ بها مع أجسادنا (على سبيل المثال: أعلى/ أسفل، داخل/خارج، حار/بارد) تسمح لنا ببناء مفاهيم مجرَّدة والتواصل بشأنها من خلال الاستعارات. وهكذا، يمكننا القول بالفرنسيَّة أننا "في حالة مزاجيَّة سيّئة/ Le moral dans les chaussettes"، أو أننا "في السماء السَّابعة/ au septième ciel" لأنَّ الحُزن يرتبط بالاسترخاء (وبالتالي "أسفل")، والفرح بقوَّة الجسم (وبالتالي "في الأعلى"). هذا الرَّبط في التجربة الإدراكيَّة والجسديَّة، الذي أبرزه لايكوف وجونسون، يتعارض مع الذَّاتيَّة والواقعيَّة على حدٍّ سواء (الاعتقاد الذي بموجبه تتمتَّع المقترحات الـمُعبَّر عنها في لغة ما بقيمةٍ حقيقيَّة موضوعيَّة، مستقلَّة عن مَلَكَتنا المعرفيَّة).

يتناول الكتاب الرئيسي الآخر للايكوف النساء، النَّار وأشياء خطيرة (1987) Women, Fire and Dangerous Things جانبًا آخر من المعرفة داخل اللغة؛ وهو التَّصنيف بِوَصْفِه عمليَّةً لبناء المعنى. فبالنّسبة للايكوف "تصبح اللغة ذات دلالة لأنَّها مرتبطة بشكلٍ مباشر بالفكر الدَّالِّ، وتعتمد على طبيعة الفكر". من هذا المنظور، يستخدم الفكر البشري نوعيْن من البنيات الرَّمزيَّة الدَّالة. تشمل البنيات الأولى، ذات الدَّلالة المباشرة، على مفاهيم المستوى الأساسي، والتي تتوافق مع المستوى الأساسي للتَّجربة الجسديَّة (ذلك الذي يسمح لنا بالتَّمييز بين النَّمر والفيل)، وأنماط الصّور البسيطة (على سبيل المثال تلك الخاصَّة بالطَّريق، الـمُوَضَّحَة في اللغة الانجليزيَّة من خلال حروف الجر "من/From" و"إلى/to"). أما الثَّانيَّة، فهي النتيجة التَّخييليَّة للعقل البشري، ولا تملك دلالةً إلا في شكلها غير المباشر: فهي عبارة عن إسقاطات استعاريَّة ومجازيَّة مبنِيَّة على أنماط من الصُّور ومفاهيم من المستوى الأساسي. فمثلاً، يسمح مخطَّط الـمَسَار بوصف الانتقال من حالة نفسيَّة إلى أخرى، عن طريق الاستعارة، فلايكوف يفترض وجود نماذج معرفيَّة مثالية (MCI) تبني المفاهيم والدَّلالات. ويمكن أنْ تكون هذه بنية اقتراحِيَّة (ومن أمثلة ذلك، أن تنصّ النماذج المعرفيَّة المثاليَّة للأسبوع على اسم الأيام في الأسبوع وعددها، بالإضافة إلى دور عطلة نهاية الأسبوع)، أو بنية نمطٍ للصُّورة أو للإسقاطات الاستعاريَّة والمجازيَّة. وغالبًا ما يتمّ الاستشهاد بالمثال: "الغضب هو حرارة سائل في وعاء"، وهو النماذج المعرفيَّة المثالية MCI التي تبني تصوُّر الغضب.

الإهمال التَّاريخي

حفَّز لايكوف بشكل كبير، من خلال تعميم فكرة أنَّ هذه النَّماذج الاستعاريَّة تسمح بالتَّعبير عن التَّفكير المجرَّد وبالتَّأكيد على الجوانب الجسديَّة والإدراكيَّة للمعرفة، البحثَ حول العلاقة بين المعرفة واللغة. وأصبح مؤلَّفه مع جونسون من الأعمال الكلاسيكيَّة التي أثَّرت، إلى جانب اللسانيات، على الفلسفة وعلم النَّفس. لقد صارت موضوعات التَّصنيف والعلاقة بين المعرفة واللغة، التي تمَّ إهمالها إلى حدِّ الآن، ضروريَّةً، ويجب على كلّ لسانيّ أنْ يتَّخذ مَوْقفًا حيالها. أشاد لايكوف، مرارًا وتكرارًا، بالجانب الإبداعي للسانيات المعرفيَّة من خلال مقارنته مع اللسانيات الشَّكليَّة والمنطقية والعقلانيَّة والموضوعيَّة القديمة، والتي تشمل، حسب رأيه، تشومسكي وستيفن بينكر Steven Pinker. وهو بذلك ينسى أن يقول إنَّ الاستعارة لعبت بالفعل دورًا رئيسيًّا في التفكير في عيون الفلاسفة مثل فريتز ماوثنر Fritz Mauthner، أو جيامباتيستا فيكو Giambettista Vio، أو فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche.

شكَّلت أسسُ وفرضيّاتُ اللسانيات المعرفيَّة موضوعَ انتقادات كثيرة. لقد اُنْتُقِدَت بسبب طابعها العقلي؛ أي استيعاب الـمَدلولات اللسانيَّة في فئات عقليَّة، وفي مفاهيم. وهي تتضمَّن المعرفة التَّجريبيَّة التي تَبني الفئات، وِفقًا للمُدافعين الاجتماعيّين والثقافيّين الـمُتغَيِّرين، ولكن في الواقع غالبًا ما يتمّ اختزالها إلى تصوّرات حسيَّة حركيَّة وحَركِيَّة التي تفرض نفسها بشكلٍ عالـمي على كلّ إنسان.

وعلى النَّقيض من ذلك، يتمّ تجاهل دور اللغة والنَّشاط البشري في تطوّر المعرفة. تتَّخذ اللسانيات المعرفيَّة عند لايكوف دائماً الشعورَ اللغوي للـمُتحدِّثين نقطةَ انطلاقٍ لها، وتُهمل باستمرار البعد التاريخي والذاتي المشترك للمعاني، والذي يُمكن أنْ يلعب دورًا هامًّا. هكذا، وبالعودة إلى مثال الغضب الذي طوَّره لايكوف عام 1987، تُظهر كارولين جيفيرت Caroline Gevaert أنَّ تصوُّر الغضب بِوَصْفه عاصفة "ساخنة" ليس هو السَّائد في جميع العصور في اللغة الانجليزيَّة، وأنَّه مرتبط بنظريَّة الأَمزِجَة الأربعة*.

المصدر:

(مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية/ Sciences Humaines/ les essentiels, Hors-Série, Les Essentiels ، العدد 15، أكتوبر-نونبر 2023، ص: 113-114)

- ماثيو بيرينز Matthieu Pierens (دكتور في علوم اللغة، جامعة باريس ديدرو Paris Diderot)

الهوامش:

*يُعدُّ أبقراط من أوائل من تحدَّث عن أنماط الشَّخصيَّة ونظريَّة الأمْزِجَة في كتابه "طبيعة الإنسان/ Nature of Man"، فهو يحاول ربط سلوك الإنسان وتصرّفاته (مزاجه) مع افرازات الجسم (مزاج دموي/ مزاج صفراوي/ مزاج بلغمي/ مزاج سوداوي). وهذه الأمزجَة مرتبطة بالطَّبائع الأربعة: الجفاف، والحرارة والرّطوبة والبرودة. [المترجمة]


عدد القراء: 777

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-