مالك بن نبي (فقيه الحضارة)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-08-23 19:44:34

صبري بن سلامة شاهين

الرياض

قال الجُنيد رحمه الله: الحكايات جند من جنود الله عز وجل، يقوي بها إيمان المريدين. فقيل له: هل لذلك من شاهد من كتاب الله تعالى؟ قال: بلى؛ إنه قول الله: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) هود الآية: 120

وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم.

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

وصدق من قال:

 وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

                              إنَّ التشبه  بالكرام فلاحُ

ورحم من قال:

أُحبُّ الصالحين ولستُ منهم

                              لعلي أن أنال بهم شفــاعة

 

قال محمد بن يونس رحمه الله: ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين .

ورحم الله من قال: إنَّ أخبار العلماء العاملين والنبهاء الصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعثها على التأسي بذوي التضحيات والعزمات، لتسمو إلى أعلى الدرجات وأشرف المقامات.

وعن مالك بن دينار رحمه الله قال: الحكايات تحف الجنة.

 من أعلام الفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري، الذي قضى حياته مجاهدًا من أجل حضارة إسلامية خالدة.

ولد مالك في الجزائر عام 1905 لأسرة فقيرة، وعاش أوقات شَبَابِه فيها، ثم انتقل إلى فرنسا، ثم مصر، ثم رَجَعَ إلى الجزائر مرةً أُخْرَى.

لم يكن مالك غائبًا عن الشأن الوطني الجزائري وهو في فرنسا، حتى عندما شَكَّلَتْ بعض القوى الجزائرية وفدًا يَذْهَبُ إلى فرنسا للمطالبة بحق الشعب الجزائري، انتقد مالك هذا الوفد، وقال: إنّ الحَلَّ ليس في هذا، ولكنه في ضَمِيرِ الأُمَّةِ الجزائرية.

وفي سبيل هذه الغَايَةِ الفكرية الكبيرة ألَّفَ مالك ابن نبي كُتُبًا، منها: كتاب: الظاهرة القرآنية، وكتاب: شروط النهضة، وكتاب: وجهة العالم الإسلامي، وكتاب: فكرة الأفريقية الآسيوية، وكتاب: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وكتاب: المسلم في عالم الاقتصاد.  وكُلُّها بالفرنسية، وقام على ترجمتها فيما بعدُ الدكتور عبدالصبور شاهين، رحمه الله، وقدَّم لكتاب الظاهرة القرآنية العلامة الكبير أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله.

إن التكوين الفكري والثقافي لمالك بن نبي كان يسير في خطين متوازيين، هما:

1 ـ التكوين الإسلامي العربي في الجزائر؛ حيث قرأ كُلَّ ما وقع تحت يده من كُتُبٍ وصُحُفٍ عربية وهو طالب في المعهد.

  2 ـ أتاح له وجوده في فرنسا قراءةَ الكثير من كُتُبِ علم النفس والاجتماع والتاريخ، وهو ما أعطاه بُعْدًا كبيرًا جِدًّا، فضلًا عن كونه مهندسًا كهربائيًّا يمتلك عَقْلِيّةً عِلْمِيّةً جادَّةً.

ومع أن ثقافة مالك الشرعية كانت ضعيفة، إلا أنّه كان كثير التأمل في القرآن، وقد تميز مالك بشخصيةٍ عاطِفِيَّةٍ وعميقةٍ جِدًّا في تحليل الأفكار التي تلوح بذهنه.

أما أفكاره الأساسية: فهي قائمة على فكرة النهوض.

وتقوم على أن مشكلة المسلمين هي مُشْكِلَةٌ حضارية بالدرجة الأولى، فالحضارة عنده هي مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تُتِيحُ للمجتمع أن يُقَدِّمَ لكل فرد من أفراده الحاجةَ الأساسِيَّةَ الضرورية. بخلاف ابن خلدون الذي يرى أن الحضارة هي التَّرَفُ الزائد.

ووضع مالك معادلة: ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت. وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع: الفعالية والعطاء والإنتاج؛ لأن المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وسيكون من السخف والسخرية حتمًا أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها.

وأن هذه المعادلة لا بد لها من مفاعل، وهو الدين، وهو الأمر الذي انتقده البعض بوصف الدين أنه مُفَاعِل، ولكنه عنصرٌ أساسِيٌّ في المعادلة.. بل هو الأساس.

 ويرى مالكٌ أن البُطْءَ في النهوض يرجع إلى:

أ ـ مبدأ اللاعنف: وهي فِكْرَةٌ أخذها من غاندي، وهذه الفكرة قد تنجح أحيانًا في زمنٍ ومكان معين، ولكنها تُخَالِفُ سُنَّةَ الصراع والتدافع، التي أشار إليها الله عز وجل في كتابه الكريم، في قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) البقرة - الآية 51

ب ـ القابلية للاستعمار : يرى مالك بن نبي أن الشعوب العربية والإسلامية شُعُوبٌ قابِلٌة للاستعمار، ضاربًا مثالًا على ذلك باحتلال هولندا- وهي بلد صغير- إندونيسيا، في حين تفشل بريطانيا- وهي دولة عظمى- في إخضاع الأيرلنديين! ويشير مالك إلى أسباب هذه القابلية، مُرْجِعًا إياها إلى قِلَّةِ العلم، وتَوَهُّمِ قوة الاستعمار، وخيانة البعض للوطن!

وتقوم أفكاره الأساسية:

 على فكرة الخلل الفكري: وهي أننا نعاني من وجودِ تهوينٍ لبعض الأمور واستسهالٍ لها، على الرغم من صعوبتها، وضرب مثلا لذلك بتهوين العرب أمر دخول بَعْضِ اليهود إلى الأراضي الفلسطينية في عام 1948، ونظرتهم إليهم بأنهم مجرد شرذمة سيتم طَرْدُهُم في أي وقت .

وعلى فكرة التكديس: أو كما يسميه مالك بـطغيان الأشياء، وهي فكرةٌ تقومُ على أنّ تكديس الأشياء هو الحضارة، وهي فكرة خاطئةٌ؛ لأن الحضارة هي تصنيعُ الأشياءِ وإنتاجُها، لا استيرادها وتكديسها.

 وعلى  فكرة طغيان الأشخاص: وهي تقوم على أن المسلمين ينتظرون ذلك البطل الذي سيأتي ويأخذ بأيديهم وينصرهم على أعدائهم، فهم دائمًا بانتظار "صلاح الدين"، لكي يأخذ بأيديهم.

وعلى فكرة طغيان الأفكار: وهي تقوم على أن البعض قد يُرَكِّزُ على فكرة معينة أو قضية معينة، ويعطيها قَدْرًا أكبر من قدرها الطبيعي، وليس لها وجودٌ الآن، وهو ما أسماه مالك بن نبي بـالهروب.

وعلى فكرة العقلية الذرية :وهي تقوم على أن المسلمين لا يستطيعون في كثيرٍ من المواقف أن يروا الصورة كاملة، ولكنهم يجزئونها إلى ذرات، وينظرون إلى كُلِّ جزء على حدةٍ دون الرَّبْطِ بين الأحداث، فالعقلية الإسلامية كما يرى مالك بن نبي، هي عقلية مُجَزَّأة.

أما طوق النجاة عند مالك بن نبي:

 فإنه يراه في: التمسك بالإيمان. وإيجاد شبكةٍ قَوِيَّةٍ من العلاقات الاجتماعية، مثل تلك التي كانتْ في المجتمع الإسلامي الأول. والمطالَبَةُ بالحقوق مع القيام بالواجبات. والرُّجُوع إلى شيءٍ من الفطرة. وأن يكون لدينا استعدادٌ حقيقي للخَوْضِ في غمار تكوين حضارة جديدة. والإيمان بأن الحضارة هي التي تَبْنِي وتُنْتِجُ، وليست التي تُكَدِّسُ.

أما المرأة في فكر مالك بن نبي:

وقف مالك من قضية المرأة موقفه من القضايا الأخرى، وقد أطلق تسمية "مشكلة المرأة" في كتابه "شروط النهضة"، وذلك انسجامًا مع منظومته الفكرية التي تدور حول مشكلة الحضارة عمومًا، وللتدليل على مقدار التضخيم الذي كان من نصيب موضوع المرأة في العالم الإسلامي، سواء من أنصار التحرر الذي يصل بالمرأة إلى درجة التحلل، أم من أنصار التزمت الذي يغلق بصره أمام حقائق الإسلام.

 لم يجعل مالك بن نبي مشكلة للمرأة معزولة عن مشكلة الرجل، فالمشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع، فقد حاول الكثيرون، بوحي من الفكر العربي التجزيئي، النظر إلى قضية المرأة كقضية مستقلة، ومن ثم أوجدوا معركة مفتعلة بين أفراد المجتمع الواحد، ووضعوا المرأة في مواجهة الرجل، وهذه قمة التجزيئية وتشويه حقيقة الصراع الحضاري، لأنه يضع الزوجة في مواجهة الزوج، والبنت في مواجهة الأب، والأخت في مواجهة الأخ، وهلم جرا، فيتحول الصراع من صراع المجتمع ضد التخلف الحضاري والاغتراب إلى صراع داخل المجتمع نفسه، مما يلهيه عن التصدي للتحديات في بناء متماسك.

إن الفهم الدقيق لروحي الحضارتين الإسلامية والغربية والاستيعاب العميق لأسسها الفكري مكنا مالك ابن نبي من الصمود في وجه الحضارة الغربية فلم يجرفه تيارها، وتحرر من عبودية ذات وقع أثقلت- أو ما تزال تثقل- غالبًا فكر المثقفين العرب تجاه عبقرية أوروبا وثقافتها.

إن تلك التجربة العميقة والعنيفة في الوقت نفسه، بأبعادها الروحية، والفكرية، والاجتماعية، جعلت مالك ابن نبي يعلم علم اليقين أن الإسلام بعقيدته الموحِّدة، وفكره المنفتح على العقل منذ بدايته المتمثل في قوله تعالى: «اقرأ» وروحه الاجتماعي من مساواة، وتضامن، وأخُوّة ..أقدرُ على مواجهة الحضارة الغربية، والانتصار عليها، ولكن المشكلة هي في المسلمين، الذين يشعرون بالدونية والنقص أمام الحضارة الغربية، وتعشعش الانهزامية في نفوسهم أمام أي ظاهرة مستوردة.

فلم ينشغل مالك بن نبي طوال حياته بقضية غير قضية الأمة الإسلامية، فانكب على تاريخها يدرسه، وعلى حاضرها يلاحظه ويتأمله، وعلى مستقبلها يرسم معالمه. وقد خرج من الدرس العميق لذلك التاريخ، والرصد الدقيق لهذا الحاضر بمعرفة جملة من الأمراض الحضارية التي أقعدت الأمة، وانتزعت منها القيادة، وأفقدتها السيادة، وصيّرتها ذيلاً بعد أن كانت رأسًا، ومن هذه الأمراض التي أشرت إليها سالفًا: التكديس، الشيئية، الذرية، اللافعالية، ذهان السهولة، ذهان الاستحالة، الأفكار الميتة، الأفكار القاتلة، القابلية للاستعمار. وغيرها وكان كلما اكتشف مرضًا نبّه إليه، وحذّر من أضراره، ووضح آثاره.

لم يكتف الأستاذ مالك بن نبي بالتعريف بتلك الأمراض والتحذير من أخطارها، ولكنه اجتهد في وصف الأدوية الشافية منها، والسبل الواقية منها .. وما هذه الأدوية إلا تلك الكتب القيمة التي سلكها في عنوان عام هو مشكلات الحضارة. فقد وضح لهم الوجهة، ونبههم إلى مشكلة الثقافة، وفتح أعينهم على الصراع الفكري، واقترح عليهم كومنولث إسلامي، وحذّرهم من إنتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلامي، وبيّن لهم مشكلات الأفكار ومكانة المسلم في عالم الاقتصاد، وحدد دور المسلم ورسالته، وكان قد استفتح بالذي هو خير «الظاهرة القرآنية» وهي كنز المسلمين الذي لا ينفد، ودواؤهم الشافي لما في الصدور، ومغير ما بأنفسهم، ومعيدهم سيرتهم الأولى.

هذا غيضٌ من فيضٍ مما لمالك بن نبي من حقٍّ علينا في إبراز فكره ومنهجه وأطروحاته، التي عاش من أجلها، وسعى لتطبيقها في واقع الحياة، فهذا يحدو بنا أن نعيد قراءة مالك بن نبي، قراءةً واعِيَةً مُتَدَبِّرَةً؛ لما في كتبه من الفِكْر الراقي والزَّخَمِ العِلْمِيِّ الكبير .


عدد القراء: 8017

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة kalisa من الجزائر
    بتاريخ 2016-04-10 21:41:08

    في اي كتاب من كتب مالك بن نبي وردت هذه المقولة على فكرة الخلل الفكري: وهي أننا نعاني من وجودِ تهوينٍ لبعض الأمور واستسهالٍ لها، على الرغم من صعوبتها، وضرب مثلا لذلك بتهوين العرب أمر دخول بَعْضِ اليهود إلى الأراضي الفلسطينية في عام 1948، ونظرتهم إليهم بأنهم مجرد شرذمة سيتم طَرْدُهُم في أي وقت .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-