الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير (1296ـ 1393 هـ)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 19:07:24

صبري بن سلامة شاهين

الرياض

ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، في تونس سنة (1296هـ الموافق 1879م) في أسرة علمية كريمة  عريقة، تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس. واستقرت أسرته في تونس بعد الحملات الشديدة  للتنصير ومحاكم التفتيش التي ابتلي بها مسلمو الأندلس.

وقد منَّ الله على هذه الأسرة أن نبغ منها عدد من أهل العلم الذين تعلموا بجامع الزيتونة، وعلموا فيه، حيث يعد الجامع من المؤسسات العلمية الدينية العريقة، التي كانت منارًا للعلم والعلماء، والصلاح والإصلاح.

وجاء مولد ابن عاشور في عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية، التي تريد الخروج بالدين وعلومه من حيز الجمود والتقليد، إلى رحابة التجديد والإصلاح، والخروج بالوطن من مستنقع التخلف والاستعمار، إلى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، حتى إن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من الناحية التعليمية قبل الجامع الأزهر.

فقد كان جامع الزيتونة مصنعًا لرجال أفذاذ، قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم، في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد.

 وكان ابن عاشور أحد أعلام هذا الجامع المبارك، ومن عظمائه المجددين. عاش أكثر من 90 عامًا، وكانت حياته كلها جهادًا في طلب العلم، وجهادًا في تحطيم أسوار الجمود والتقليد، التي حجرت العقل المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.

فأحدثت آراؤه نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها أثرها البالغ في استمرار الزيتونة في العطاء والريادة.

ولما كانت من عادة الشرق عدم الاحتفاظ بالكنوز، ونسيان العمالقة والرواد، الذين كانوا ملء السمع والبصر، وفي الوقت ذاته يحدث التطلع إلى أفكار الغرب المستوردة، فينسون المصلحين والمجددين!

لذا فلم يلق الطاهر حقه من الاهتمام به أو باجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وربما كان سبب ذلك أن اجتهاداته كانت تحارب الجمود العقلي والتقليد من ناحية، وتصطدم مع الاستبداد من ناحية أخرى، كما أن أفكاره كانت قائمة في سبيل النهوض والتقدم وفق أصول الشريعة الإسلامية، وقواعده. ولعل هذا يبين لنا سبب نسيان الشرق في هذه الحقبة لرواده وعمالقته!!

ولقد أثمرت جهود التجديد والإصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره، وتواكبت هذه النهضة الإصلاحية التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكانت أطروحات تلك الحقبة من التاريخ ذات صبغة إصلاحية تجديدة شاملة، تنطلق من الدين نحو إصلاح الوطن والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير رواد أهل الإصلاح ومنهجهم في تلك المرحلة، التي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف، التي أوجدت مناخًا ثقافيًّا وفكريًّا كبيرًا، ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم.

حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310هـ - 1892م) وهو في ابن 14 سنة، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة، الذين كان لهم باع كبير في النهضة العلمية والفكرية، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم وعقولهم، فبثوا هذه الروح الوثابة التي ترنو إلى التجديد في نفس الطاهر، ومشاعره، وحواسه. وكان منهجهم أن الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.

وتخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317هـ)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ).

وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة صاحبة المنهج التقليدي، والصادقية صاحبة التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الفجوة بين هذين التيارين: تيار الأصالة المتمثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة المتمثل في الصادقية، ودوَّن آراءه هذه في كتابه النفيس (أليس الصبح بقريب؟) من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة، التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي.

وعين الطاهر بن عاشور نائبًا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325 هـ)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم، وعرضها على الحكومة، فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض علوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم، وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.

وأدرك أن الإصلاح التعليمي يجب أن ينصرف بجهوده العلمية والفكرية نحو إصلاح العلوم ذاتها؛ ورأى أن تغيير أنظمة الحياة في العالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.

أما سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف، وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.

اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (1328 هـ)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ)، ثم اختير شيخا لجامع الزيتونة في (1351 هـ)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.

أعيد تعينه شيخًا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب، وزادت عدد المعاهد التعليمية.

وشملت عناية ابن عاشور إصلاح الكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التعليم؛ فاستبدل كثيرًا من الكتب القديمة التي كانت تدرس وصبغ عليها الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة.

وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الكتب التي تنمي الملكات العلمية، وتمكن الطالب من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم، التي يستطيع من خلالها الطالب أن يعتمد على نفسه في تحصيل العلم.

وكان الطاهر بن عاشور عالمـًا مصلحًا مجددًا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلا أن القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدًا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود، وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.

أخلاقه وشمائله: كان الشيخ تزينه أخلاق رضية،  وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغرورًا كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ مستواه.

كان مترفعًا عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه – كما يقول مترجموه - لم تقل إلا إنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق.

اشتهر بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه، حتى إنك لا تجد بين كتاباته ردًّا على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم، الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.

ويعد ابن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها؛ "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير".

وتفسير التحرير والتنوير في حقيقته تفسير بلاغي، اهتم فيه بدقائق البلاغة في كل آية من آياته، وأورد فيه بعض الحقائق العلمية، ولكن باعتدال ودون توسع أو إغراق في تفريعاتها ومسائلها.

وقد نقد ابن عاشور كثيرًا من التفاسير والمفسرين، ونقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير هو الولع بالتوقف عند النقل، حتى وإن كان ضعيفًا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء الرأي ولو كان صوابًا حقيقيًّا، وقال: "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به"؛ فأصبحت كتب التفسير عالة على كلام الأقدمين، ولا همّ للمفسر إلا جمع الأقوال، وبهذه النظرة أصبح التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه".

ولعل نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي ترى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن، وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في معاني القرآن. وكان لتفاعل ابن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه، فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم، وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببًا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية، التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير، وهو كتاب "مقاصد الشريعة".

ويعد تفسير التَّحرير والتَّنوير الذي سمَّاه مؤلفه: (تحرير المعنى السَّديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد). الذي قدَّم له بتمهيدٍ وافٍ، ذكر فيه مُراده، فقال: "فجعلت حقًّا عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نُكتًا لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقفَ موقف الحكم بين طوائف المفسِّرين تارةً لها وآونةً عليها، فإنِّ الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ما له من نَفاد، ولقد رأيت النَّاس حول كلام الأقدَمين أحدَ رجلين: رجلًا معتكف فيما شادَه الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي تلك الحالتين ضررٌ كثير، وهنالك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون، فنهذِّبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علمًا بأنَّ غمط فضلهم كُفْرانٌ للنعمة، وجحد مزايا سلفها، ليس من حَميد خصال الأمَّة".

ثمَّ قال: "وقد ميَّزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلميَّة، مما لا يذكره المفسِّرون، وإنَّما حَسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يديَّ من التفاسير في تلك الآية خاصَّة، ولست أدَّعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تُنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلِّم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدَّمك إليه متفهِّم".

وتفسير التَّحرير والتَّنوير لا يغفل المأثور، ويهتم بالقراءات، حَفَل بضروب من التأويل والفهم لمقاصد الشريعة، ما يعزُّ وجوده في غيره، ويتفرَّد به عن غيره. وطريقة مؤلِّفه فيه أن يذكر مقطعًا من السُّورة، ثم يشرع في تفسيره مبتدئًا بذكر المناسبة، ثم لغويَّات المقطع، ثم التَّفسير الإجمالي، ويتعرَّض فيه للقراءات والفقهيَّات . وهو يقدم عرضًا تفصيليًّا لما في السُّورة، ويتحدَّث عن ارتباط آياتها وتناسبها، فهو لم يغادر سورة إلا بيَّن ما أُحيط بها من أغراضها، لئلَّا يكون النَّاظر في تفسير القرآن- كما يقول ابن عاشور- مقصورًا على بيان مفرداته ومعاني جُمَله، كأنها فِقرٌ متفرِّقةٌ، تصرِفه عن روعة انسجامه، وتحجُب عنه روائع جَماله.

ومما قاله في تقديمه لكتابه: "وقد اهتممتُ في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونُكَت البلاغة العربيَّة وأساليب الاستعمال"، وقال: "واهتممتُ بتبيين معاني المفردات في اللُّغة بضبطٍ وتحقيقٍ مما خلت عن ضبطِ وتحقيق كثيرٍ منه قواميس اللُّغة". وهو كما قال فعلًا حيث خرج من التَّفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن الكريم.

وأما التعريف بكتاب (مقاصد الشَّريعة الإسلامية): فيعدُّ هذا الكتاب من أشهر كتب ابن عاشور. وكان تأليفه استجابة للأُمنية التي أعرب عنها الشَّيخ محمد العزيز جُعَيط المفتي المالكي (1303-1389هـ)، يوم أن كتب في (المجلَّة الزيتونيَّة) أنه لم يعثر في تلك الثَّروة العلميَّة الهائلة على كتابٍ جامعٍ، يجمع في مطاويه شَمْل المقاصد الشَّرعية، ويُفصح عن أسرار التَّشريع.

فكان هدف ابن عاشور من تصنيفه -كما قال- ليكون: "مرجعًا بين المتفقِّهين في الدِّين عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأَعصار، وتوسُّلًا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تَطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردنا من نبذ التعصُّب والفَيْئَة إلى الحقِّ".

ويعد كتاب "مقاصد الشريعة" من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحًا في الفكر، ودقة في التعبير، وسلامة في المنهج، واستقصاء للموضوع.

والذي دعاه إلى صرف الهمَّة إليه ما رأى من "عُسر الاحتجاج بين المختلفِين في مسائل الشَّريعة، إذ كانوا لا يَنتهون في حِجاجهم إلى أدلَّة ضرورية أو قريبة منها، يُذعن إليها المكابِر، ويَهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقليَّة في حِجاجِهم المنطقيِّ والفلسفيِّ إلى الأدلَّة الضَّروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحِجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج".

التعريف بكتاب (أليس الصُّبح بقريب؟ التَّعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخيَّة وآراء إصلاحيَّة):

يعدُّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي كُتبت في عصر ابن عاشور، اعتنى به مؤلِّفه بنقد التعليم ومناهج التأليف السائدة؛ فقال في مقدمته: "قد كان حَدا بي حادي الآمال وأملى عليَّ ضميري، من عام 1321، للتَّفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربيِّ والإسلاميِّ، الذي أشعرَتني مدةُ مزاولته، متعلِّمًا ومعلِّمًا، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النِّطاق، فعقدت العزمَ على تحرير كتاب في الدَّعوة إلى ذلك وبيان أسبابه".

وبحث في كتابه أسباب تأخُّر التَّعليم، وعزاه إلى انعدام خُطَّة تربويَّة متطوِّرة، وإهمال الضَّبط للدروس والمقرَّرات، والبعد عن التَّربية الأصيلة.

وكان الشيخ جريئًا في نقده، مجدِّدًا، بصيرًا بعيوب العلوم التي عرضَها، يطغى على نقده الطَّابع التَّربوي، إذ كان يُظهر هنَات العلوم، وينبِّه على مواطن الخلل فيها، لاسيَّما ما يعسُر فهمه على الطَّالب، ونبَّه في جرأة أثارت حفيظةَ خصومه على العراقيل المصطنعة التي أثارها أعداء التطوُّر الواقفين في وجه كل إصلاح علميٍّ تربوي.

ولئن كانت كتب الشيخ ابن عاشور وأبحاثه كثيرة  متنوعة، فإن أعظمها وأشهرها وأحبها إلى قلبه تفسيره التحرير والتنوير الذي ختمه بكلمة عظيمة مؤثرة، قال فيها: (وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعيًا على الرأس, وما أدّى هذا الحق إلا قلم مفسر يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.

وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاث مئة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعًا وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغال صارفة, ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة, ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طورًا, وطورًا غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نعمه أوفى, ومكاييل فضله عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا. وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.

وكان ابن عاشور فقيهًا مجددًا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة، سيصيبهم بالتكاسل، وسيعطل إعمال العقل؛ لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.

وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه، فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول، لأن بها يرتفع خلاف كبير.

ولم يكن ابن عاشور بعيدًا عن سهام الاستعمار، والحاقدين عليه، والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية، استمرت ثلاثة عقود عرفت بمحنة (التجنيس)، وملخصها: أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونًا في (1328هـ - 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون، ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين، فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة، لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.

وكان ذا عقل جبار، وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع - يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب، لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.

وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.

وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.

كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راق، ونفس مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعة من المتخصصين في فنون شتى.

وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية، فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين، ويتخلى في الوقت نفسه عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة مرات عدة على الشيخ، وهو صابر محتسب.

ومن المواقف المشهورة لابن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381 هـ 1961م) عندما دعا الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي العمالَ إلى الفطر في رمضان، بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: "صدق الله، وكذب بورقيبة"، فخمد هذا التطاول المقيت، وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور.

وللطاهر بن عاشور  من الكتب أربعون كتابًا ما بين تأليف وتحقيق، شطرها لم يُطبع بعد، المطبوع منها:

 النظر الفَسيح عند مَضيق الأنظار في الجامع الصَّحيح. وكشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطَّا. وحاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب (التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول). والوقف وآثاره في الإسلام. وأصول النِّظام الاجتماعي في الإسلام. وتحقيقات وأنظار في الكتاب والسُّنَّة. ونقدٌ علميٌّ لكتاب الإسلام وأصول الحكام لعلي عبدالرزَّاق. وأصول الإنشاء والخطابة. وديوان بشار بن برد. وسرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسَّام النحوي. وشرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام. وقصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلَّق. والواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني. وقصَّة المولد النَّبوي الشَّريف.

قال عنه الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر رحمه الله: "وللأستاذ فصاحةُ منطقٍ، وبراعةُ بيانٍ، ويضيف إلى غزارة العلم وقوّة النظر: صفاءَ الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة. كنت أرى فيه لساناً لهجته الصدق، وهمَّةً طمَّاحة إلى المعالي، وجِدًا في العمل لا يَمَسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه. وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم" .

ووصفه العلاّمة البشير الإبراهيمي رحمه الله قائلًا: " عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره، فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقْرَأ، وأفاد، وتخرَّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي" .

وقد توفي ابن عاشور في (1393هـ 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد فرحمه الله وغفر له.

كتبت عنه أبحاث وكتب قيمة تكشف النقاب عن مناقبه رحمه الله، منها:

*محمد الطاهر بن عاشور. حياته وآثاره، بلقاسم الغالي، دار ابن حزم، ط 1996.

*محمد الطاهر بن عاشور: علامة الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، إياد الطباع.


عدد القراء: 9067

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-