أديب العربية وشيخها أبو فهر محمود محمد شاكرالباب: مقالات الكتاب
صبري بن سلامة شاهين الرياض |
محمود بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر من أسرة أبي علياء الحسينية في جرجا بصعيد مصر، ولد في الإسكندرية 10/1/ 1327 الموافق 1/2/ 1909م، وانتقل إلى القاهرة في العام نفسه مع والده، إذ عُيّن والده وكيلاً للجامع الأزهر، وأخوه العلامة أحمد شاكر واحد من كبار محدثي العصر.
ويعد محمود شاكر ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية، فهو كاتب له أسلوبه المميز، وشاعر مبدع، بلغ إبداعه الشعري الذروة في قصيدته "القوس العذراء"، ويعد أيضًا محققًا بارعًا لكتب التراث، قادرًا على فك رموزها، ومفكرًا متوهج العقل، ومثقفًا واسع الاطلاع، حوى في صدره أطراف الثقافة العربية، كأنها لديه كتاب واحد.
وظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ ويدرس ويصدح في واحته الظليلة، لا يسمع شدوه إلا المقربون منه، تاركًا الدنيا ببريقها وأضوائها وراء ظهره، ولم يخرج من واحته إلا شاكي السلاح، مستجيبًا لدعوة الحق، حين يشعر بأن ثقافة أمته يتهددها الخطر، فيقصم بقلمه الباتر زيف الباطل، ويكشف عوار الجهلاء المستخفين وراء الألقاب الخادعة؛ ولذلك جاءت معظم مؤلفاته استجابة لتحديات شكلت خطرًا على الثقافة العربية.
وبرغم هذا العطاء المبكر يقول الأستاذ محمود عن نفسه: لم أجد لنفسي خلاصًا إلا أن أرفض متخوفًا حذرًا شيئًا فشيئًا أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية، التي كانت يومئذ تطغى كالسيل الجارف، يهدم السدود، ويقوض كل قائم في نفسي، وفي طريقي، ويومئذ طويت في نفسي على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيدًا متفردًا رحلة طويلة جدًّا، وبعيدة جدًّا، وشاقة ومثيرة جدًّا.
بدأت بإعادة قراءة الشعر العربي كله، أو ما وقع تحت يدي منه على الأصح، وقرأت ما يقع تحت يدي من كتب أسلافنا من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن الكريم مع اختلافها إلى دواوين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروحها، إلى ما تفرع عليه من كتب علماء الحديث وكتب الجرح والتعديل، إلى كتب أصول الفقه وأصول الدين، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم.
لقد انصرف محمود شاكر إلى التعليم المدني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، وكان شغوفًا بتعلم الإنجليزية والرياضيات، ثم تعلق بدراسة الأدب وقراءة عيونه، وحفظ وهو فتى صغير ديوان المتنبي كاملاً، وحضر دروس الأدب التي كان يلقيها الشيخ المرصفي في جامع السلطان برقوق، وقرأ عليه في بيته: "الكامل" للمبرد، و"الحماسة" لأبي تمام.
وفي الجامعة استمع محمود لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي، وهى التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي"، وكيف صُدِمَ حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل، وأنه كذب ملفق، لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة الصدمة أن ما سمعه من طه حسين سبق له أن قرأه بحذافيره في مجلة استشراقية بقلم المستشرق الإنجليزي مرجليوث.
وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، ومحمود عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشًا أستاذه، وظل على ذلك زمنًا، لا يستطيع أن يتكلم، حتى إذا نفد صبره وتحمله، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سرقة لأفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث.
معركته مع طه حسين
لقد كان هذا الشاب مباركًا، حيث ملأ صوته الدنيا، وهو لا يزال في ريعان الشباب لم يبلغ العشرين، حيث كان في سن الاستعداد العلمي، ولكن عقله كان كبيرًا وناضجًا بالمعارف والعلوم، جعله ينازل أستاذه الدكتور طه حسين، ويصارعه، ومهما تكن نية طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي، فإن موضوع الكتاب كان خطيرًا للغاية.
فقد كان طه حسين يدعي أن الشعر الجاهلي لا أساس له، وهو منتحل في عصر الإسلام. وهو بهذا الادعاء ينفي عن الأمة العربية كتاب حياتها، فالشعر ديوان العرب. ومن ثم فهو ينفي النموذج الذي تحداه القرآن الكريم، وبهذا يسقط عن القرآن إعجازه، بالإضافة إلى ما في الكتاب الذي يموج بمفتريات متعددة على قصص الأنبياء، وتاريخ الأمم السابقة على الإسلام.
ولقد لقي هذا الكتاب تأييدًا واسعًا باسم الحرية التي يجب أن تتوافر للأدباء والكتاب، ولكنه وجد معارضة أوسع. ولقد وقف الأزهر الشريف وقفة قوية بأعلامها وعلمائها الكبار، الذين لهم في العلم قدم ثابتة وأصالة راسخة.
ولكن وقوف شاب في السنة الثانية من كلية الآداب ضد أستاذه في قضية كهذه، فإن هذا يثير الإعجاب جدًّا، فلقد فند مزاعم أستاذه الذى حاد عن الطريق تفنيدًا قويًّا واضحًا، ورد عليه ما قاله، وكان الدكتور طه حسين وقتها ملء السمع والبصر. بعد أن عاد من باريس وحاز أرقى الشهادات، إلا أنه جاء ليردد ما سمعه، وتلقاه في الخارج عن تراثنا العربي والإسلامي، ودخل إليه بحيلة ماكرة، جازت على الكثيرين، وضاعت حقائق كثيرة في رخامة صوته، وحسن إلقاء ما يقوله في أسماع الناس. وأهل الحقيقة الذين لا تنطلي عليهم هذه الحيل قليلون، وقد كان منهم هذا الشاب الفتى "محمود شاكر"، ولما أن وجد أن وجوده في الجامعة لن يؤدى إلى الغرض الذى يهدف إليه.
فأصبح البقاء فيها عبثًا وأي عبث، ومن ثم هجر الجامعة.
وقد وصف محمود شاكر هذه المحنة في المقدمة الجديدة لكتابه "المتنبي"، حيث قال: (كان ما كان، ودخلنا الجامعة، بدأ الدكتور "طه" يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي" ومحاضرة بعد محاضرة، ومع كل واحدة يرتد إليَّ رجع من هذا الكلام الأعجمي الذي غاص في يمّ النسيان! وثارت نفسي، وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور "طه"، عندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهج بمذاق الشعر الجاهلي، كما وصفته آنفًا، والذي استخرجته بالتذوق، والمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي. وأخذني ما أخذني من الغيظ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ، ولكني بقيت زمنًا لا أستطيع أن أتكلم.
تتابعت المحاضرات، والغيظ يفور بي، والأدب الذي أدبنا به آباؤنا وأساتذتنا يمسكني، فكان أحدنا يهاب أن يكلم الأستاذ، والهيبة معجزة، وضاقت عليَّ المذاهب، ولكن لم تخل أيامي يومئذ في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي، في خفوت وتردد.
فالدكتور "طه" أستاذي، وله عليَّ حق الهيبة، هذا أدبنا. وللدكتور "طه" عليَّ يدٌ لا أنساها، كان مدير الجامعة يومئذ "أحمد لطفي السيد" يرى أن لاحق لحامل "بكالوريا" القسم العلمي في الالتحاق بالكليات الأدبية، ملتزمًا في ذلك بظاهر الألفاظ! فاستطاع الدكتور "طه" أن يحطم هذا العائق بشهادته لي، وبإصراره أيضًا. فدخلت يومئذ بفضله كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه. وأيضًا فقد كنت في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتوقير السن أدب ارتضعناهُ مع لبان الطفولة.
وظللت أتجرع الغيظ بحتًا، وأنا أصغي إلى الدكتور "طه" في محاضراته، ولكني لا أستطيع أن أتكلم، أو أناظره كِفاحًا، وجهًا لوجه، وكل ما أقوله، فإنما أقوله في غيبته. تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة "مرجليوث"، ويزداد في نفسي وضح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي، وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور "طه" في تزييف هذا الشعر. وكان هذا "السطو" خاصة مما يهز قواعد الآداب التي نشأت عليها هزًّا عنيفًا، بدأت الهيبة مع الأيام تسقط شيئًا فشيئًا، وكدت ألقي حفظ الجميل ورائي غير مُبال، ولم يبق لتوقير السن عندي معنىً.
وجاءت اللحظة الفاصلة في حياتي. فبعد المحاضرة، طلبت من الدكتور "طه" أن يأذن لي في الحديث، فأذن لي مبتهجًا، أو هكذا ظننت. وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه "منهجًا" وعن تطبيقه لهذا "المنهج" في محاضراته، وعن هذا "الشك" الذي اصطنعه، ما هو، وكيف هو؟ وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن "المنهج" وعن "الشك" غامض، وأنه مخالف لما يقوله "ديكارت"، وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم يداخله الشك، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك! وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية، ولما كدت أفرغ من كلامي، انتهرني الدكتور "طه" وأسكتني، وقام وقمنا لنخرج. وانصرف عني كل زملائي الذين استنكروا غضابًا ما واجهت به الدكتور "طه"، وبعد قليل أرسل الدكتور "طه" يناديني فدخلت عليه وجعل يعاتبني، يقسو حينًا ويرفق أحيانًا، وأنا صامت لا أستطيع أن أرد. لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها كلّها مسلوخة من مقاله "مرجليوث"، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني على يقين من أنه يعلم أني أعلم، من خلال ما أسمع حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضًا! وكتمان هذه الحقيقة في نفسي كان يزيدني عجزًا عن الرد، وعن الاعتذار إليه أيضًا، وهو ما كان يرمي إليه. ولم أزل صامتًا مُطرقًا حتى وجدت في نفسي كأني أبكي من ذلِّ العجز، فقمت فجأة وخرجت غير مودع ولا مبال بشيء. وقضي الأمر! ويبس الثرى بيني وبين الدكتور "طه" إلى غير رجعة!
ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحيانًا بغير هيبة، ولم يكف هو عن استدعائي بعد المحاضرات، فيأخذني يمينًا وشمالاً في المحاورة، وأنا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن ذكر سطوه على مقالة "مرجليوث"، صارفًا همي كله إلى موضوع "المنهج" و"الشك" وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموي والعباسي قراءة متذوقة مستوعبة. ولكني من يومئذ أيضًا لم أكف عن إذاعة هذه الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور "طه"، وهي أنه سطا سطْوًا كريهًا على مقالة "مرجليوث"، فكان بلا شك يبلغه ما أذيعه بين زملائي. وكثر كلامي عن الدكتور "طه" نفسه، وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدال على ما أقول. واشتد الأمر، حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتي، بعض الأساتذة كالأستاذ "نلّينو" والأستاذ جويدي من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران. وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور "طه" زمانًا، إلى أن جاء اليوم الذي عزمتُ فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها غير مبال بإتمام دراستي الجامعية، طالبًا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي" بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب.
وترك محمود الجامعة بعد أن سقطت هيبتها من نفسه، وعجز أن يحتمل هذا الفساد الذي رآه في أساتذته. وتولد عن شعوره بالعجز عن مواجهة التحدي خيبة أمل كبيرة، فترك الجامعة غير آسف عليها وهو في السنة الثانية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع، وسافر إلى الحجاز سنة 1928 مهاجرًا، وأنشأ هناك مدرسة ابتدائية عمل مديرًا لها، حتى استدعاه والده الشيخ، فعاد إلى القاهرة.
وبعد عودته سنة 1929 انصرف إلى قراءة الأدب ومطالعة دواوين شعراء العربية على اختلاف عصورهم، حتى صارت له ملكة في تذوق الشعر، والتفرقة بين نظمه وأساليبه، وبدأ ينشر بعض قصائده الرومانسية في مجلتي "الفتح" و"الزهراء" لمحب الدين الخطيب، واتصل بأعلام عصره من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي باشا والخضر حسين والرافعي، الذي ارتبط بصداقة خاصة معه. ولم يكن محمود معروفًا بين الناس قبل تأليفه كتابه "المتنبي" الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر وأسلوبه الجديد في البحث، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي.
والعجيب أن محمود شاكر الذي ألف هذا الكتاب لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، ولم يكن يقصد تأليف كتاب عن المتنبي، إنما كان مكلفًا من قبل فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف بأن يكتب دراسة عن المتنبي، ولكن هذا التكليف تحول على يد شاكر إلى كتاب مستقل، أنجزه في مدة قصيرة على نحو غير مسبوق، ونشرته مجلة المقتطف في عددها الصادر في يناير 1936م.
وقد اهتدى شاكر في كتابه إلى أشياء كثيرة لم يكتبها أحد من قبله، استنتجها من خلال تذوقه لشعر المتنبي، وتم استقبال الكتاب بترحاب شديد، وكتب عنه الرافعي مقالة رائعة، أثنى عليه وعلى مؤلفه.
وكان هذا الكتاب فتحًا جديدًا في الدرس الأدبي، وتحديًا لأدباء العصر، فكتب بعده عبدالوهاب عزام كتابه "المتنبي في ألف عام"، وطه حسين "مع المتنبي"، واتهمهما شاكر بأنهما احتذيا منهجه، وسطوا على بعض آرائه، وهاجم شاكر ما كتبه طه حسين في سلسلة مقالات، بلغت 12 مقالاً في جريدة البلاغ، تحت عنوان "بيني وبين طه حسين".
وكانت حقبة الخمسينيات حقبة مشهودة في حياة شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية، وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب من أماكن مختلفة يفدون إلى بيته، يأخذون عنه، ويفيدون من علمه ومكتبته الحافلة، فضلاً عن كثير من أعلام الفكر الذين كانوا يحرصون على حضور ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة، مثل فتحي رضوان، ويحيى حقي، ومحمود حسن إسماعيل، ومالك بن نبي، وأحمد حسن الباقوري، وعلال الفاسي، وعبدالرحمن بدوي، وعبدالله الطيب.
وقد انتفع بهذه الدروس كثيرون، وكان الأديب الكبير يحيى حقي يعلن في كل مناسبة: أن شاكر هو أستاذه الذي علمه العربية، وأوقفه على بلاغتها، وأن ترجمات كتب مالك بن نبي خرجت من بيت شاكر، فقد قام أحد أفراد ندوته وترجمها إلى العربية، وهو الدكتور عبدالصبور شاهين، وكان آنذاك شابًا صغيرًا في بداية مشواره العلمي.
وقد عرض الأديب الكبير رحمه الله بجلاء خطة أعداء القرآن في مقدمته الفذة لكتاب مالك بن نبي رحمه الله "الظاهرة القرآنية". لكن ما الرابط بين الشعر الجاهلي والتنزيل؟ وأي ضرر في إنكار الشعر الجاهلي؟ وما مصلحة القرآن في امرىء القيس؟
"الشعر الجاهلي هو أساس مشكلة إعجاز القرآن" هذا مفتاح اللغز.
لقد انتبه المستشرقون إلى ما لم ينتبه إليه الباقلاني، أدركوا منزلة الشعر الجاهلي في شأن إعجاز القرآن، فحشدوا كل باطلهم لإتلاف الشعر الجاهلي، والنية هي الإجهاز على شاهد الإثبات، المقر بإعجاز القرآن، فما كانت معركة الشعر الجاهلي في واقع الأمر إلا معركة القرآن، ولعل الحقد على القرآن كان من القوة بحيث أعمى أبصارهم، واستعانوا بالسفسطة والغش والتزوير بدرجة مكشوفة، فضحها مستشرقون آخرون، غير أن أبناء جلدتنا غباء أو تواطؤا اعتبروا السفسطة منهجًا علميًّا، فادخلوها إلى الجامعات، وروجوا لها، فكانت النكسة الفكرية التي ما زلنا نعاني منها إلى الآن.
رجال النهضة عند محمود شاكر
ويرى الأستاذ محمود شاكر أن الأمة بإمكانها أن تنهض، وأن تدخل طورًا تجديديًّا في تاريخها المعاصر، على يد خمسة رجال هم:
1 - عبد القادر البغدادي صاحب "خزانة الأدب" في مصر، وهو الذي يعده الشيخ شاكر الرائد في تبنّيه إعادة قدرة الأمة على تذوق اللغة والشعر والآداب وعلوم اللغة.
2 - الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم (والد صاحب التّاريخ) في مصر، ويعده الشيخ شاكر رائدًا في تنبيه الأمة إلى الصناعات الحضارية وعلوم الكيمياء والفلك.
3 - محمد بن عبدالوهاب في جزيرة العرب، ويعده الشيخ شاكر رائدًا في تحقيق النهضة الدينية، ورد البدع والعقائد الفاسدة.
4 - محمد عبدالرزاق المرتضى الزبيدي صاحب "تاج العروس" في الهند وفي مصر، فهو رائد بعث التراث اللغوي الديني.
5 - الشوكاني في اليمن، ويعده الشيخ شاكر إمامًا في إحياء عقيدة السلف ونبذ التقليد والدعوة إلى الوحدة وتجريم التعصب.
ثم بين محمود شاكر أسباب عدم حصول النهضة، ويربط بين الإخفاق الحاصل وبين جهود المستشرقين في إيجاد الصراعات تحت عناوين: (الأصالة والمعاصرة) و(القديم والجديد) و(الثقافة العالمية) وبالقضية الهزلية (قضية موقفنا من الغرب).
وفي ندواته الفكرية في بيته كان يعارض عبدالناصر علانية، ويسخر من رجالات الثورة، ويستنكر ما يحدث للأبرياء في السجون من تعذيب وإيذاء، وكان يفعل ذلك أمام زواره، ومن بينهم من يشغل منصب الوزارة، كالشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك، ونتيجة لذلك لم يسلم شاكر من بطش السلطة، فألقت القبض عليه سنة 1959م، وبقي رهن السجن 9 أشهر حتى تدخلت شخصيات عربية، فأفرج عنه، وعاد لمواصلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبري، الذي بدأ في نشره من قبل، وانتظمت ندوته مرة أخرى.
وظل شاكر في عزلته الاختيارية بين كتبه وتلاميذه ومحبيه، لا يشارك في الساحة الفكرية بمقالاته وآرائه حتى بدأ لويس عوض في نشر سلسلة مقالات له في جريدة الأهرام سنة 1964م، تحت عنوان "على هامش الغفران"، وكان الكاتب قد لمع نجمه بعد تعيينه مستشارًا ثقافيًّا لجريدة الأهرام، وأصبح مهيمنًا على أمور الثقافة في مصر، وصار له حواريون وسدنة يبشرون بآرائه.
وقد أثارت مقالات لويس عوض موجة من الشغب بين أوساط كثير من المثقفين، لما فيها من تحامل على المعري، ولم يجرؤ أحد على الرد سوى محمود شاكر الذي خرج من عزلته، وانبرى للويس عوض في سلسلة من المقالات المبهرة في مجلة الرسالة، كشفت عما في مقالات لويس عوض من الوهم والخلط التاريخي والتحريف في الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري، وعدم تمحيص الروايات التاريخية، والادعاء بتلقي المعري علوم اليونان على يد أحد الرهبان. وكانت مقالات شاكر التي ظهرت تباعًا حدثًا ثقافيًّا مدويًا، كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان، ولم تقف هذه المقالات عند حدود الرد على كلام لويس، بل انتقلت إلى الحديث عن الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزو فكري، ولا سيما حركة التبشير التي غزت العالم الإسلامي.
وتدخل الناقد الكبير محمد مندور عند شاكر ليوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذعر والهلع من مقالات شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي، حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية الضفادع لأرسطوفان، وراح لويس يطوف على المجلات والصحف، يستنصرهم ضد شاكر، ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولم يتوقف شاكر عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر من أغسطس 1965م، إلى ديسمبر 1967م، وقد جمعت هذه المقالات في كتابه "أباطيل وأسمار" الذي يعد من أهم الكتب التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين.
وبعد خروجه من السجن عاد إلى ما كان عليه من قبل، فكتب في مجلة "المجلة" 7 مقالات إضافية تحت عنوان "نمط صعب، نمط مخيف" استجابة لصديقه الأديب يحيى حقي، حين أشاد بترجمة الشاعر الألماني "جوته" لقصيدة الشاعر الجاهلي "تأبط شرًّا"،
ثم دارت معركة أخرى بينه وبين الباحث العراقي الدكتور علي جواد الطاهر حول تحقيقه كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، وتولد عن ذلك كتابه "برنامج طبقات فحول الشعراء".
وأطلق عليه العقاد: المحقق الفنان. وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حققها: تفسير الطبري، طبقات فحول الشعراء، تهذيب الآثار للطبري. وشاكر لا يحب أن يوصف بأنه محقق لنصوص التراث، وإنما يحب أن يوصف بأنه قارئ وشارح لها، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: "قرأه وشرحه".
وعاش على أقل القليل يكفيه ويسد حاجته، ومرت عليه سنوات عجاف، لكنه لم ينحن أو يميل على الرغم من أنه لم يكن له مورد سوى عائده من كتبه، التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئًا على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982م مئة وخمسين دولارًا، نظير مقالة كتبها ردًّا على الكاتب اليمني عبدالعزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".
وقد بين الأستاذ محمود شاكر في هذا الكتاب كيف خطط المستشرقون وأذنابهم لوأد الدعوة الإصلاحية في نجد على يد الإمام محمد بن عبدالوهاب لئلا تهدد النصرانية، فقال: (وثبت هذا الطاغية "محمد علي" قواعد ملكه، وازداد إطباق القناصل والمستشرقين على عقله وقلبه، وسارت الجيوش قاصدة جزيرة العرب، ودارت الحرب التي لم تنته إلا بعد ثمان سنوات، في سنة 1819 م، وفقدت الجيوش المصرية آلافًا من أبنائها، ولقيت هزائم كادت تودي بها، وأخيرًا تم النصر لمحمد علي، بعد أن ارتكب من الفظائع ما لا يستحله مسلم، واستباح الديار والأموال والنساء، وهدم المدن، فكان هو وابنه إبراهيم وسائر أولاده طغاة من شر الطغاة.
أما المعركة الثالثة في الأهمية فهي تلك التي قال فيها بعضهم: إن كلام العرب في باب (الحكم): أن عبارة (القتل أنفى للقتل) أبلغ من الآية القرآنية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)؛ إذ لم ينم "الرافعي" ليلته، بعد أن لفت الأستاذ الكبير "محمود" نظره إلى هذا الأمر بقوله: "ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا، لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها"؟
واستطاع الرافعي ببلاغته أن يقوض هذا الزعم من أساسه بمقالاته: (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة)، التي عدَّد فيها وجوه الإعجاز في الآية الكريمة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). ولأنه كان يشعر أنه صاحب رسالة فإنه كان ينتفض حين يرى انتهاك حرمة من حرمات اللغة العربية، فيقف مدافعًا عنها بكل ما يملك من أدوات علمية وفكرية، تجعل الخصم يسلم بما يقول أو يلوي هاربًا. ومعاركه كلها جمعت في كتب، وصارت وثائق في تاريخنا الفكري الحديث، كتبها هو من موقع المدافع والحارس لثقافة الأمة، ولولا خصومه لما ظهرت معظم مؤلفاته؛ لأنها كانت استجابة لتحديات عظيمة، وهي تظهر عظمة شاكر؛ لأنه لم يحتشد لها مثلما يحتشد المؤلفون عند تأليف كتبهم، وإنما دخلها كارهًا مستندًا إلى ثقافة واسعة وعلم غزير، وفكر ثاقب، وروح وثابة، فأتى بالعجب العجاب.
فأبو فهر. وما أدراك ما أبو فهر. إن نظرة خاطفة في كلمات سطرتها أنامله تنبيك عنه. وتجعلك تَرِد إليه قسرًا بلا إجبار، ومُرغمًا بلا إعسار.
فلما أخذ أبو فهر يعالج قضية الاستهانة بعلوم الأوائل في مطلع تحقيقه لكتاب (أسرار البلاغة) للجرجاني، انتثرت من مكنون فرائده بعض قواعدَ، كانت قبل انكشافها دفينةً، لم يرعَها كثير من أدعياء العلم. أذكر منها :
(الاستهانة داء وبيل، يطمس الطرق المؤدية إلى العلم والفهم).
(ذهبت نظرية الدكتور طه في الشعر الجاهلي بددًا، لأنها لم تقم على أساس صحيح من العلم والنظر).
(كتاب سيبويه لا يعلم طالبَ العلمِ النحوَ، إلا إذا مهَّد له الطريق ابنُ عقيل وابنُ هشام والأشموني، وإلا فقد قذف نفسه في المهالك).
ومن أقواله: (فمن الغفلة التي تطمس القلب والعين والعقل، أن يعرف ذلك إنسان له بقية من نخوة أو كرامة، أو عقل، ثم لا يعيد النظر في كل من أمور الأمة العربية والإسلامية، ليرى أثر إصبع التبشير العامل على تحطيم النفس العربية المسلمة، في كل ناحية من نواحي الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية، وليبصر عيانًا صدوع التحطيم والهدم ظاهرة في حياتنا، وليدرك أن العدو الذي يريدنا أن نعتنق مبادئ الحضارة الغربية، وأن يفشي طريقة العيش الغربية، إنما يريد أن يقوض بناءً كاملا، تمّ كماله في قرون متطاولة، وبقي يقارع الخطوب والأحداث والنكبات دهورًا، محتفظًا بقوته وكيانه، ولم يجترئ عليه العالم الأوروبي المسيحي، إلا بعد طول تردد). من كتاب أباطيل وأسمار.
وقال أخوه الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعقيبًا على أثر ابن عباس في تفسيره: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ): "إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، إنه كفر دون كفر".
وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره، مما يلعب بها المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدين: يجعلونها عذرًا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام.
وذكر الشيخ أحمد شاكر نص رواية الطبري، ثم قال: فكتب أخي السيد محمود، بمناسبة هذين الأثرين ما نصه:
"اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد: فإن أهل الريب والفتن من تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله، التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها.
وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أنْ سنّ حاكم حكمًا وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولاً حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول، يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم في أمر جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين.
فهذه واحدة من إبداعات محمود شاكر، وثانيها وأنت تنظر إلى قول الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بعد ذكر أقوال أهل العلم فيها: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن "الدرجة" التي ذكر الله في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.
وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: (ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). وهذا القول من الله تعالى، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة).
وهنا علق العلامة محمود شاكر قائلاً: (لم يكتب الطبري ما كتب على سبيل الموعظة، كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة، بل كتب بالبرهان والحجة الملزمة، ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة، لا ينال المرء فضلها إلا بالعزم والتسامي، وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته، فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته. ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًّا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبًا لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا.
والطبري لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب جاء ليعلم الناس، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين، فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل، وبينته سنة رسول الله، ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان.
وأحب أن أقول: إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح، كما تهدي إليه المعرفة بلغة العرب، وبناسخ القرآن ومنسوخه، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات؛ ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب، لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم، الذي أدب الله به المطلِّقين، وحثهم عليه، وعرَّفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة، والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملَّكه طلاقها وفراقها، ولم يملّكها من ذلك مثل الذي ملّكه).
وفي أخريات عمره نال جائزة الدولة التقديرية في الأدب 1981م، ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم بالقاهرة.
وبعد رحلة حياة عريضة رحل أبو فهر شيخ العربية وإمام المحققين في 3 ربيع الآخر 1418هـ 6 أغسطس 1997م)، ولبى نداء ربه.. فسلام عليك أبا فهر.
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ
ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكـنَّ الـرَّزيــة فَــقـــدُ قَـــرْمٍ
يموت بموته بشرٌ كثيرُ
رحل كأنه طيف جاء ثم ذهب، لم يشعر به إلا القليل ممن يعرفون للرجال مقاماتهم وحقوقهم، مضى غريبًا كما تعيش محبوبته (اللغة العربية) غريبة كذلك بين أهلها.
لقد كان الأستاذ محمود كما أراده أستاذه الرافعي حين قال له: "إن من الناس من يختارهم الله، فيكونون قمح هذه الإنسانية، ينبتون ويحصدون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها.
وقد كان الأستاذ محمود قمح هذه الإنسانية، حيث أمضى حياته في رحلات علمية طويلة، وعطاءات فياضة، لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه، والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب، والرد على أذناب التنوير المزعوم. رحل مودعًا سجن الدنيا، إلى جوار ربه، تاركًا نموذجًا طيبًا، وقدوة حسنة، وفكرًا إسلاميًّا رائعًا، فرحمه الله رحمة واسعة، وجمعه بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- مالك بن نبي (فقيه الحضارة)
- من أعلام الفكر الإسلامي: عبدالحميد بن باديس (رائد الحضارة) 1307-1358 هـ رحمه الله
- من أعلام الفكر الإسلامي: الثائر المصلح محمد الخضر حسين 1293 - 1377هـ
- من أعلام الفكر الإسلامي : العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر 1309-1377هـ)
- من أعلام الفكر الإسلامي .. العلامة محمد حامد الفقي رحمه الله من الصوفية إلى السلفية (1310هـ - 1378هـ - 1892م - 1959م)
- محب الدين الخطيب عاشق الإسلام والعروبة 1886 - 1969م
- إحسان إلهي ظهير أسد السنة 1360هـ - 1407هـ
- الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمه الله قاهر الماسونية 1332-1399هـ
- أديب العربية وشيخها أبو فهر محمود محمد شاكر
- الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير (1296ـ 1393 هـ)
التعليقات 1
بارك الله في الشيخ العلامة محمود محمد شاكر عنوان العربية امتازات كتبة يالمعلومات الثرة العظيمة والاسلوب السلس الغير معقد
اكتب تعليقك