من أعلام الفكر الإسلامي .. العلامة محمد حامد الفقي رحمه الله من الصوفية إلى السلفية (1310هـ - 1378هـ - 1892م - 1959م)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 03:40:23

صبري بن سلامة شاهين

الرياض

هو الحبر البحر الرحب الإمام المُحدّث مؤسس جماعة أنصــار السنة، العالم السلفي شيخ بلادِ الكنانة. كان رحمه الله إذا زار الحرم المكي تفرغ له الكراسي، ويتزاحم الطلاب عليه، هذا هو الشيخ الأزهري حـامد الفقي رحمه الله. قد كان في سالف حياته يعيش مع الطرق الصوفية، ولكن شاء الله له الخير، حيث إنه كان رجلاً متجردًا عن الهوى، باحثًا عن الحق.

يحكي تلميذه الشيخ المُحدّث حماد بن محمد الأنصاري الأفريقي المدني المالكي رحمه الله. فيقول: أما عن حياة الشيخ حامد الفقي: فعندما اجتمعت معه عام 1367هـ جئته وهو يُدرِّسُ تفسير ابن كثير عند باب علي بالمسجد الحرام، وعندما سَمِعْتهُ، قلت: هذا هو ضالتي، فكان يأخذ آيات التوحيد ويسلط عليها الأضواء، وسمعته من بعيد، فجلست في حلقَته، وكانت أول حلقة أجلس فيها بالحرم، وكان عُمري لا يتعدّى الثانية والعشرين، وكان الدرس في تفسير آيات التوحيد، وبعدما انتهى الدرس وصلينا العشـاء جاءنا شخصٌ سوري، وقال للشيخ: أرى أن تشربوا القهوة عندي. فقال لهُ الشيخ: ومن معي. قال لهُ الرجل: احضر من شئت. وكان هذه أول مرة أرى فيها الشيخ، على الرغم أنني سمعت عنه كثيرًا، لأن شيخي الشيخ محمد عبدالله التنبكتي كان تلميذ الشيخ الفقي.

وذهبنا إلى بيت الأخ السوري، وعندما وصلنا إلى البيت وجلسنا، قلت للشيخ حامد: يا شيخ أنا عندي سؤال، كيف صرت موحدًا، وأنت درست في الأزهر؟ وأنا أريد أن أستفيد والناس يسمعون. فقال الشيخ: والله إن سؤالك وجيه. قال: أنا درست في جامعة الأزهر، ودرست عقيدة المتكلمين التي يدرِّسونها، وأخذت شهادة الليسانس. وذهبت إلى بلدي لكي يفرحوا بنجاحي. وفي الطريق مررتُ على فلاح يفلح الأرض، ولما وصلت عندَه. قال: يا ولدي اجلس على الدكة، فجلستُ ووجدت بجانبي على طرفِ الدكة كتابًا، فأخذت الكتاب ونظرت إليه. فإذا هو كتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) لابن القيم  رحمه الله؛ فأخذت الكتاب أتسلى به، ولما رآني أخذت الكتاب وبدأت أقرأ فيه. تأخر عني قليلاً. حتى قدّر من الوقت الذي آخذ فيه فكرة عن الكتاب. وبعد مدة من الوقت وهو يعمل في حقلِهِ، وأنا أقرأ في الكتاب جاء الفلاح، وقال: من أين جئت؟ فأجبتهُ عن سؤالهِ. فقال لي: أنت تدرجت في طلبِ العلم حتى توصلت إلى هذه المرحلة؛ ولكن يا ولدي أنا عندي وصية. فقلتُ: ما هي؟ قال الفلاح: أنت عندك شهادة تعيشك في كل الدنيا في أوربا في أمريكا، في أيِّ مكان. ولكنها ما علمتك الشيء الذي يجب أن تتعلمه أولاً. قلت: ما هو؟! قال: ما علمتك التوحيد! قلت له: التوحيد! قال الفلاح: توحيد السلف. قلت له: وما هو توحيد السلف؟! قال لهُ: انظر كيف عرف الفلاح الذي أمامَك توحيد السلف. هذه هي الكتب: كتاب السنة للإمام أحمد. وكتاب التوحيد لابن خزيمة. وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري. وكتاب اعتقاد أهل السنة للحافظ اللالكائي. وعدَّ له كثيرًا من كتب التوحيد. وذكر الفلاح كتب التوحيد للمتأخرين. وبعد ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

وقال له: أنا أدلك على هذه الكتب إذا وصلت إلى قريتك ورأوك وفرحوا بنجاحك. لا تتأخر ارجع رأسًا إلى القاهرة. فإذا وصلت القاهرة ادخل (دار الكتب المصرية) ستجد كل هذه الكتب التي ذكرتها كلها فيها. ولكنها مكدّسٌ عليها الغبار. وأنا أريدك أن تنفض ما عليها من الغبار وتنشرها. وكانت تلك الكلمات من الفلاح البسيط الفقيه. قد أخذت طريقَها إلى قلب الشيخ حامد. لأنها جاءت من مُخْلِص.

ولما رجعتُ إلى قريتي في مصر وذهبتُ إلى القاهرة. ووقفت على الكتب التي ذكرها لي الفلاح كلها ما عدا كتاب واحد، ما وقفت عليه إلا بعد مدة كبيرة. وبعد ذلك انتهينا من الجلسة وذهب الشيخ حامد الفقي. وكان يأتي إلى السعودية ونستقبله ضمن البعثة المصرية أيام الملك فاروق كل عام. وكانت هذه القصة هي إجابة للسؤال الذي سألته للشيخ حامد في مجلس الرجل السوري. وهكذا خرجت كلمات التوحيد وتصحيح الاعتقاد من قلب الفلاح الفقيه المخلص إلى قلب الشاب الأزهري الأشعري الباحث عن الحق والمتجرد عن الهوى. فلقيت عند هذا المتجرد وقوفًا عند الدليل والبرهان. وقمع مادة التأويل. ووقوفًا عند ما قالهُ الله والرسول عليه الصلاة والسلام.

فهذه قصة انتقال الشيخ من عقيدة الأشاعرة إلى عقيدة التوحيد.

 انتقال من كدر الشرك وخبثه إلى صفاء التوحيد ونقاء الاعتقاد. عندما كان وقافًا عند الحق. فهذا هو الشيخ الذي كان يومًا من الأيام مع هؤلاء الضلال الجهال، نزع غشاوة الظلمة بنور الاتباع، قامعًا ظلمات الابتداع. فهو هنا ناصح وموجه ومعلم ومحذر. وأيضًا فهو يبرر أن كان قد أحسوا منه شدة. فإنه قد عاش وذاق طعم المرارة، فأراد أن لا يذوقها غيره.

  كلماته وتوجيهاته رحمه الله:

قال رحمه الله: إن هذه الطرق الصوفية المنتشرة في الناس اليوم تروج الكفر والوثنية والدجل، وتعمل جاهدة لتأليه الدجالين، واعتصار دماء الجماهير، لتتضخم جيوب شيوخها: أولياء الشيطان، وتنشر في الناس ظلمات الجاهلية الأولى، وتحارب الله ورسوله، وتهيء الأمة الإسلامية بهذه الجاهلية العمياء، وهذه التقاليد الخرافية، وهذه الغباوة البهيمية؛ لتكون لقمة سهلة الهضم للأعداء، هذه الطرق الصوفية هي المعول الذي هدم به اليهود والفرس صرح الإسلام، هذه الطرق الصوفية هي اليد الآثمة التي مزقت رقعة الدولة الإسلامية، وشيوخ الطرق الصوفية هم الذين يمكنون المستعمرين في مراكش وتونس والجزائر والهند وفي السودان وفي مصر وفي كل مكان من البلاد الإسلامية، وهم سماسرة المستعمر، وخدمه المخلصون في خدمته إذلال المسلمين واستغلالهم.

ولقد كنتُ واحدًا منهم، وعرفت دخائل أمورهم وخبايا زواياهم وسيء مكرهم وخبث قصدهم، فالحمد لله الذي أنقذني وهداني إلى الإسلام الحق الذي بعث الله به رسله، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وإني بكيدهم وكفرهم ووثنيتهم أعرف، ولذلك أنا أشد حربًا عليهم، ولا أزال حربًا عليهم ما بقي فيَّ عرق ينبض بالحياة، مُستعينًا بربي وحده، متأسيًا بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صابرًا على كل ما يكيد به أعــداء أنفسهم من حزب الشيطان أعداء الرحمن، مؤمنًا بأن العاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.

وقال أيضًا رحمه الله: قد كنتُ في حياتي الأُولى سالكًا مع السالكين، ومُلبِسًا مع الملبسين مخرفًا مع المخرفين، وداعيًا إلى البِدعة والجاهلية، وعبادة الموتَى والخشَب والنُّصُب مع الداعين، فهداني الله إلى دِين الهُدَى، وكشَف عن بصيرتي حُجبَ الجَهْل والعَمَى، وبصَّرني بنور الحقِّ من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه المصطفَى، ووفقني بفضلِه إلى سبيلِ السَّلَف الصالِح مِن الصحابة والتابعين، وأنقذني بذلك من طريقِ الرَّدَى، فذقتُ مِن يومئذ حلاوةَ الإخلاص والإيمان، وتحققتُ الفرْق العظيم بيْن الحقِّ والباطل، والهُدَى والضلال، وبيْن توحيد الأنبياء والمرسَلين، وتوحيد المشركين والجهميَّة المعطِّلين؛ وبيْن آيات الله وحديث رسوله، وبيْن شُبهات المبطلين وزخارف المفترين، وعرَفتُ لله تعالى مِنَّته العُظمى في تلك الهِداية، ونعمته الكبرى في هذا التوفيق، وكان مِن حقِّ هذه النِّعمة وأداء شكرها أن أقِفَ حياتي لإرْشاد الضَّال، وهداية التائِه، وإزالة الحُجُب عن القُلُوب، وإظهار الحقِّ للناس جهدَ طاقتي في ثَوْبه الجميل، وبيان مكايد شياطين الجنِّ والإنس، التي كادوا بها للإسلام؛ حتى يحذرَها إخواني منَ المسلمين كما حذرتُها، ويتَّقوها كما اتقيتها، وليذوقوا حلاوةَ الإيمان، ويعرفوا الله حقَّ معرفته، ويَقْدُروه حقَّ قدْره، فأسستُ مع خِيرَة من إخواني (جماعة أنصار السنَّة) من نحوِ عشرين سَنَة مَضتْ، وأصبح لها والحمد لله عِدَّة فروع في القاهِرة وغيرها، وأصبح بحمدِ الله ينضوي تحتَ لواء التوحيد الخالِص والسنة المحمدية الصحيحة لا بالدعْوَى والاسم والزي عددٌ غير قليل، وهذه مجلة الهدي النبوي وليدة هذه الفِكرة، واللِّسان المعبِّر عن هذه الدعوة، والقلم الراسم لهذه الخطة. وهى أخت (الإصلاح) التي كنتُ أصدرها ببلدِ الله الحرام زمنَ الإمام المصلِح، والملك الراشِد المخلص (والذي أحسبه كذلك) عبدالعزيز آل سعود.

 حال المجتمع يوم صدورِ الهدي النبوي:

 كان تسعة وتسعون في المئة من الأمَّة على هذه الجاهلية في عملها وعقيدتها وخُلُقها، وحكمها ونظامها قد ضرَب الجهل على القلوب نِطاقًا مظلمًا أسود، حجب عنها كلَّ هُدًى، وكل نور، ولكن الأكثرية الساحِقة على ما يرى الشيخ ويعلم مِن ذل القلوب للموتى، واستخذائها للأحجار والأشجار، واستكانتها وخشوعها للنُّصُب والمقاصِير والقُبُور، والأكثريَّة مُعرِضة عن التحاكُم في عقيدتها وعبادتها وماليتها وشؤونها إلى ما أنزَله الله منَ الهُدى والذِّكْر الحكيم؟

والأكثرية أيضًا على تحزُّب وتفرِقة وشتات بالطُّرق الصوفيَّة، والمذاهِب التقليديَّة، وكل حزْب بما لديهم فرِحون، وعن حِزبهم وحْدَه يُخاصمون، وله يتعصَّبون، وبشيخهم وحْدَه يَثِقون، مهما كان قولُه مخالفًا للمعقول والمنقول، وفيه يعتقدون عِلمَ الغيب وتصريف الأقدار، والإنجاء من النار!

 وقد تصدَّى الشيخ الفقي لتصحيحِ تلك المفاهيم الخاطِئة مِن خلال تفسيره لبعض سُور القرآن الكريم وآياته، وكذا كتاباته وفتاواه.

وهذا هو الشيخ الأزهري الشافعي وموقفهُ من الدعوة الوهابية

 لا ريب أن يكون ديدن المصلحين المتبعين لمنهج أهل السنة الإنصاف والبعد عن الشططِ والهوى. فهو ينظر بالميزان الحق: الكتاب والسنة. فمن كان عليهما سائر، وبهما آخذ ومتبع، فإنه منا آل البيت. ومن كان على غير هذا، ولو كان من كان، فهو خصم لنا ولو كان أقرب قريب. الحب في الله، والبغض في الله. لا الحب في حزب أو جماعة أو طريقة. بل في الله، حب صحيح صافي لا حب الغشاشين.

وقصة الفلاح المعروفة الذي دله على كتب أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح أهل الحديث، ومن يطلق عليهم أعداؤهم بالوهابية. فقرأها الشيخ الأزهري الشافعي بتجرد، فوصل إلى الحقيقة، ونزع العقائد الباطلة، وأصبح موحدًا متبعًا للسلف الصالح. فقد تحول من عقيدته الأشعرية، ومن علم الكلام وطرائق التصوف إلى الاتباع لنبي الهدى والرحمة محمد بن عبدالله الهاشمي عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

فبداية علاقته مع هذه الدعوة حين قرأ كتب أصحاب هذه الدعوة، فتأثر بها، لأنه كان متجردًا باحثًا عن الحق. ثم كانت خطوته الثانية: وهي نصرة دعوة سيد الأنبياء والمرسلين بنشر الدعوة الصحيحة إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع، والأمر بالاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، ونشر كتب العقيدة السلفية، ونشر كتب السنة والأحاديث الصحيحة، وفتح الحِلق لتعليم الجُهال أصول الدين وتلاوة القرآن، والرد على أهل الكفر والزندقة، وأهل البدع والأهواء. وكان شديدًا في فضح الصوفية المتسترة بستار الإسلام، مبينًا انحرافاتها، كاشفًا خفاياها، فاضحًا تقيتها، وله نشاط خاص في نصرة السنة المحمدية، حتى أسس جماعة لهذا الغرض سماها: (جماعة أنصار السنة المحمدية).

وقد أشهر الشيخ حسامه لبيان الحق وفضح الأكاذيب على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، أو ما يطلقون عليها بـــ (الدعوة الوهابية). لقد ألف كتابًا سماه: (أثر الدعوة الوهابيــة في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها). وقد نفع الله به، وقال الشيخ الأزهري محمد حامد الفقي رحمه الله في مقدمته: أما بعد ؛ فهذه نبذة لطيفة في بيان حقيقة الدعوة الوهابية وإمامها وشيعتها وأنصارها، وقصة إزاحة الأوهام وإبطال الأكاذيب التي نسجت حولها، وذلك لتخبط الكثير من الناس في شأنها.

وقال أيضًا: وإن الحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يَدَّعون، لا بالقول، ولا بالكتابة أن الشيخ ابن عبدالوهاب أتى بمذهب جديد، ولا اخترع علمًا غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهده إحيـاء العمل بالدينِ الصحيح وإرجـاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الألوهية والعبادة لله وحده: ذلاً وخضوعًا، ودعاءً، ونذرًا، وحَلِفًا، وتوكلاً، وطاعة شرائعهِ، وفي توحيد الأسماء والصفات، فيؤمن بآياتها كما وردت، لا يحرف ولا يؤول، ولا يُشبِّه، ولا يُمثل، على ما ورد بلفظِ القرآن العربي المبين، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون، من السلف والخلف رضوان الله عليهم، في كل ذلك، وأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله لا يتم على وجهه الصحيح إلاَّ بهذا.

هذا هو الشيخ محمد حامد الفقي الذي ولد بقرية نكلا العنب في سنة 1310هـ الموافق 1892م بمركز شبراخيت محافظة البحيرة. فقد نشأ في كنف والدين كريمين، فوالده الشيخ أحمد عبده الفقي تلقى تعليمه بالأزهر، ولكنه لم يكمله لظروف اضطرته لذلك. أما والدته فقد كانت تحفظ القرآن وتجيد القراءة والكتابة، وبين هذين الوالدين نما وترعرع وحفظ القرآن وعمره وقتذاك اثنا عشر عامًا. ولقد كان والده في أثناء تحفيظه القرآن يوضح له معاني الكلمات الغريبة، ويعلمه مبادئ الفقه، حتى إذا أتَّم حفظ القرآن كان ملمًّا إلمامًا خفيفًا بعلومه، ومهيأ في الوقت ذاته لتلقي العلوم بالأزهر على الطريقة التي كانت متبعة وقتذاك.

بدأ الفقي دراسته بالأزهر في عام 1322هـ ـ 1904م وكان الطلبة الصغار وقتذاك يبدؤون دراستهم في الأزهر بعلمين هما: علم الفقه، وعلم النحو. فبدأ الشيخ دراسته في النحو بكتاب الكفراوي وفي الفقه بكتاب مراقي الفلاح، وفي سنته الثانية درس كتابي الشيخ خالد في النحو وكتاب منلا مسكين في الفقه، ثم بدأ في العلوم الإضافية بالسنة الثالثة، فدرس علم المنطق، وفي الرابعة درس علم التوحيد، ثم درس في الخامسة مع النحو والفقه علم الصرف، وفي السادسة درس علوم البلاغة، وفي هذه السنة وهي سنة 1910م بدأ دراسة الحديث والتفسير، وكان عمره وقتذاك ثمانية عشر عامًا، فتفتح بصره وبصيرته بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسك بسنته لفظًا وروحًا.

لما أمعن الشيخ في دراسة الحديث على الوجه الصحيح ومطالعة كتب السلف الصالح والأئمة الكبار أمثال ابن تيمية وابن القيم. وابن حجر والإمام أحمد بن حنبل والشاطبي وغيرهم. فدعا إلى التمسك بسنة الرسول الصحيحة، والبعد عن البدع ومحدثات الأمور، وأن ما حدث لأمة الإسلام بسبب بعدها عن السنة الصحيحة، وانتشار البدع والخرافات والمخالفات.

فالتف حوله نفر من إخوانه وزملائه وأحبابه واتخذوه قدوة لهم. وهذا دلالة على نبوغ الشيخ المبكر. وظل يدعو بحماسة من عام 1910م حتى إنه قبل أن يتخرج في الأزهر الشريف عام 1917م دعا زملاءه أن يشاركوه ويساعدوه في نشر الدعوة إلى التوحيد الخالص والسنة الصحيحة والتحذير من البدع .ولكنهم أجابوه: بأن الأمر صعب، وأن الناس سوف يرفضون ذلك، فأجابهم: إنها دعوة السنة والحق، والله ناصرها لا محالة. فأخذ على عاتقه نشر الدعوة وحده والله معه، وكان عمره عندها    25 سنة.

ولما حدثت ثورة 1919م وكان له موقف فيها بأن خروج الاحتلال لا يكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء متبرجات، ولا تحرر فيها عقيدة الولاء والبراء لله ولرسوله. ولكنه بالرجوع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذ البدع وإنكاره لمبادئ الثورة: (الدين لله والوطن للجميع). وانتهت الثورة وظل على موقفه هذا. وظل بعد ذلك يدعو عدة أعوام حتى تهيئت الظروف، وتم أشهار ثمرة هذا المجهود، وهو إنشاء جماعة أنصار السنة المحمدية، التي هي ثمرة سنوات الدعوة من 1910م إلى 1926م، ثم إنشاء مجلة الهدي النبوي وصدر العدد الأول في 1937هـ. ولقد حاول كبار موظفي قصر عابدين بكل السبل صد الناس عن مقابلته والاستماع إليه، حتى سخَّرُوا له من شرع في قتله، ولكن صرخة الحق أصمَّت آذانهم، وكلمة الله فلَّت جموعهم، وانتصر الإيمان الحق على البدع والأباطيل.

بعد أن أسس الشيخ رحمه الله جماعة أنصار السنة المحمدية وبعد أن يسر الله له قراءة كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم واستوعب ما فيها ووجد فيها ضالته صدر العدد الأول من مجلة الهدي لتكون لسان حال جماعته والمعبرة عن عقيدتها والناطقة بمبادئها. وقد تولى رئاسة تحريرها، فكان من كتاب المجلة على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ أحمد محمد شاكر، الأستاذ محب الدين الخطيب، والشيخ محيي الدين عبدالحميد، والشيخ عبدالظاهر أبو السمح، (إمام الحرم المكي)، والشيخ أبو الوفاء محمد درويش، والشيخ صادق عرنوس، والشيخ عبدالرحمن الوكيل، والشيخ خليل هراس، كما كان من كتابها الشيخ محمود شلتوت.

ثناء العلماء عليه:

 يقول عنه الشيخ عبدالرحمن الوكيل: «لقد ظل إمام التوحيد في العالم الإسلامي والدنا الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله أكثر من أربعين عامًا مجاهدًا في سبيل الله. ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب، واعتاد النصر على الأحداث، وإرادة تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ به، إذ كان الخوف من الله آخذًا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يُدهن في القول، ولا يداجي ولا يبالي، ولا يعرف المجاملة أبدًا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقًا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلًا وجبنًا".

ويقول الشيخ أبو الوفاء درويش: «كان يفسر آيات الكتاب العزيز، فيتغلغل في أعماقها، ويستخرج منها درر المعاني، ويشبعها بحثًا وفهمًا واستنباطًا، ويوضح ما فيها من الأسرار العميقة والإشارات الدقيقة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة. ولا يترك كلمة لقائل بعده. بعد أن يحيط القارئ أو السامع علمًا بالفقه اللغوي للكلمات وأصولها، وتاريخ استعمالها فيكون الفهم أتم، والعلم أكمل وأشمل".

وقال عنه الشيخ ابن باز رحمه الله: فقد اطلعت على الحواشي التي وضعها- يقصد في تحقيقه لفتح المجيد- الأستاذ العلامة الشيخ محمد حامد الفقي فألفيتها كثيرة الفوائد قد أجاد فيها و أفاد.

وقال الشيخ أبو تراب الظاهري رحمه الله : كان سلفيًّا، شديدًا يحرص على نشر التوحيد ويغار عليه، و ما رأيت أحدًا مثله في الغيرة على التوحيد، ولقد سكنت عنده في مصر خمس سنوات، وكان متكفلاً بي في كل شئ، حيث كنت أشارك معه في التخريج والتحقيق ولو قلت: إن عيني لم تر مثله، وأذني لم تسمع بمثله في حماية التوحيد، لا أكون مبالغًا، كان إذا صعد المنبر لخطبة الجمعة، يقول بأعلى صوته: كفرت بالطاغوت. كفرت بالبدوي. كفرت بكذا. و لقد كان يجتمع في حلقته في المسجد الحرام خلق كثير، يجتمعون حوله ما بين قاعد و قائم.

آثاره العلمية:

إن المكتبة العربية لتعتز بما زودها به من كتب قيمة، مما ألف، ومما نشر، ومما صحح، ومما راجع، ومما علق وشرح من كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.  ومن جهوده كذلك قيامه بتحقيق العديد من الكتب القيمة، نذكر منها:

اقتضاء الصراط المستقيم، والقواعد النورانية الفقهية، والمسائل الماردينية، والمنتقى من أخبار المصطفى، وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، حققه بالاشتراك مع محمد محيي الدين عبدالحميد. ونفائس تشمل أربع رسائل، منها الرسالة التدمرية، والحموية الكبرى. وإغاثة اللهفان، والمنار المنيف، ومدارج السالكين، ورسالة في أحكام الغناء، والتفسير القيم، ورسالة في أمراض القلوب، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.

كما حقق كتب أخرى لمؤلفين آخرين من هذه الكتب: فتح المجيد لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وجامع الأصول من أحاديث الرسول،لابن الأثير. والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية لعلي بن محمد بن عباس الدمشقي، والأموال لابن سلام الهروي، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل للمرداوي، وجواهر العقود ومعين القضاة، والموقعين والشهود للسيوطي، ورد الإمام عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد ، وشرح الكوكب المنير، واختصار ابن النجار، والشريعة للآجري، والعقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبدالهادي، والقواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية لابن اللحام، ومختصر سنن أبي داود للمنذري، حققه بالاشتراك مع أحمد شاكر،  ومعارج الألباب في مناهج الحق والصواب  لابن مهدي ، وتيسير الوصول إلى جامع الأصول للشيباني.

وفاته:

توفي رحمه الله فجر الجمعة 7 رجب 1378هـ الموافق 16 يناير 1959م على إثر عملية جراحية أجراها بمستشفى العجوزة، وبعد أن نجحت العملية أصيب بنزيف حاد وعندما اقترب أجله طلب ماء للوضوء، ثم صلى ركعتي الفجر بسورة الرعد كاملة. وبعد ذلك طلب من إخوانه أن ينقل إلى دار الجماعة حيث توفي بها، وقد نعاه رؤساء وعلماء من الدول الإسلامية والعربية، وحضر جنازته واشترك في تشييعها من أصحاب الفضيلة وزير الأوقاف والشيخ عبدالرحمن تاج، والشيخ محمد الحسن والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ محيي الدين عبدالحميد، وجميع مشايخ كليات الأزهر وأساتذتها وعلمائها، وقضاة المحاكم. فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.


عدد القراء: 7916

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-