أساطير اللغة شرقًا وغربًاالباب: مقالات الكتاب
د. عادل الثامري العراق |
روي هاريس
ترجمة: د. عادل الثامري
لو لم تحقق التكاملية شيئًا آخر، إلا أنها ركزت الانتباه في الأقل على الطرق التي فقدت بها اللسانيات التقليدية الغربية في القرن العشرين اتصالها بجذورها اللغوية. نشأت هذه الجذور، كما هو الحال في جميع التقاليد اللغوية، من الفهم العادي للتجربة اللغوية اليومية. وبدلاً من التنقيب عن هذا التماس الغني الذي يسهل الوصول إليه، أدار اللسانيون الغربيون ظهورهم له وابتكروا المصطلحات "النظرية" الخاصة بهم لمناقشة اللغة. ومن خلال القيام بذلك، وضعوا لأنفسهم مشاكل لغوية زائفة لا علاقة لها بالمشاكل الحقيقية للتواصل اللفظي التي تواجهها الحياة اليومية. تشكل مناقشات هذه المشكلات النظرية الزائفة (التي تتعلق في الغالب بإضفاء الطابع اللغوي اللساني للوصف الصوتي والنحوي) جزءًا كبيرًا من موضوع اللسانيات التقليدية في القرن العشرين.
المفارقة، كما يدرك الكثيرون الآن، هي أن هذه السياسة التي يُزعم أنها اتبعت من أجل جعل اللسانيات "علمًا"، بينما في الممارسة العملية لم يتحقق شيئ من هذا القبيل. لا شيء أقل "علميًا" يمكن تخيله من الخزعبلات المجردة التي طرحت برعاية "الصوتيات" و"الصرف" و"قواعد التحويل" وما شابه ذلك. تهدف النزعة التكاملية، من بين أمور أخرى، إلى إعادة توجيه انتباه اللسانيات إلى أساسيات البحث اللغوي التي تجاهلتها وبقوة اللسانيات في القرن العشرين.
عندما بدأتُ باستخدام مصطلح أسطورة اللغة لأول مرة منذ حوالي ثلاثين عامًا (Harris 1981)، كنت أفكر حصريًا بالتراث الغربي. ومع ذلك، توجد أساطير لغوية في أجزاء أخرى من العالم.
هناك بعض أوجه التشابه الرائعة بين التفكير التكاملي الحالي والحجج التي قدمها Nagarjuna منذ قرون في التراث البوذي للمناقشات حول اللغة. لقد لفتُ الانتباه لأول مرة إلى هذه المتوازيات في بحث نُشر قبل سبع سنوات (Harris 2003). ناغارجونا، الذي أدخل كوماراغيفا تفكيره إلى الصين في القرن الرابع، كان من الواضح أنه فيلسوف يتمتع باستقلالية ذهنية ملحوظة. أعتقد الآن أن آراء ناغارجونا الهرطقية حول الكلام كانت على الأرجح احتجاجًا على "أسطورة اللغة" الأصلية الموجودة في أيامه (على الرغم من أن المدى الذي كان سيقدره تلاميذه الصينيون يجب أن يكون مشكوكا فيه). مهما كان الأمر، فإن منهج ناغارجونا الراديكالي للغة كان أساس مذهبه الشهير للطريقة الوسطى، والذي يدين له بمكانته في تاريخ البوذية. أقترح أنه ليس من الصعب إعادة بناء نوع أسطورة اللغة التي ربما كان ناغارجونا يتفاعل معها. من خلال إنكار إمكانية التكرار اللغوي بشكل قاطع، يرفض ناغارجونا في الواقع أسطورة الثبات الدلالي.
المكونان الرئيسيان لأسطورة اللغة الغربية - مغالطة التخاطب ومغالطة الشفرة الثابتة - هما وجهان مزدوجان لأسطورة الثبات الدلالي. يضمن التخاطرTelementation الثبات الدلالي بين المتكلم والمستمع. وتضمن الشفرة الثابت fıxed code الثبات الدلالي بين جميع أعضاء المجتمع اللغوي.
جرت مناقشة الحالات الشرقية الأخرى حيث يبدو أننا نتعامل مع أسطورة لغة أصلية من نوع ما في الفصل الرابع من كتاب The Language Connection (Harris 1996). وهي تشمل العقيدة الكونفوشيوسية لتشينغ مينغ ومفارقة Kung-sun Lung الشهيرة للحصان الأبيض. في حالة تشينغ مينغ، نواجه الأسطورة القائلة بأن عالم الكلمات هو صورة معكوسة للنظام الطبيعي للأشياء. في حالة الحصان الأبيض، تتطلب الأسطورة منا الاعتقاد بأن كل تعبير فردي يتوافق مع مفهوم فريد أو فئة من الأشياء. ومن ثم لا يمكن للحصان الأبيض أن يكون مثل الحصان، لأن كونه حصانًا لا يستلزم أن يكون بلون معين.
تؤدي هذه الحالات بدورها إلى السؤال الأكثر عمومية حول ما إذا كانت جميع التقاليد الفلسفية، غربية أم شرقية، كلما تقدمت بما يكفي للمطالبة بتعبير لغوي واضح، فإنها لا تبني "أساطير لغوية" خاصة بها. إذا كان الأمر كذلك، فكيف تنشأ هذه الأساطير المختلفة بشكل مستقل وما هو القاسم المشترك بينها، إن وجد؟
* * *
لا تعتمد الحجج التي سأطرحها على مشاركتي في رفض تلك الافتراضات اللغوية التي أعتبرها أسطورية بشكل واضح. ما كنت أعتبره دائمًا أسطوريًا هما مبدأان أساسيان من مبادئ التفكير الغربي التقليدي حول اللغة التي أشرت إليها بالفعل. أحدهما أن الوظيفة الأساسية للغة هي نقل الأفكار من عقل بشري إلى آخر. والآخر هو أن هذه العملية أصبحت ممكنة - وهي ممكنة فقط - من خلال التأسيس الاجتماعي للرموز العامة للعلامات اللفظية المشتركة بين جميع أعضاء مجتمع معين.
لطالما اعتبرت هذه أساطيرًا لسبب بسيط وهو عدم وجود دليل غير دائري يدعم أي منهما. ولكن إذا كنت تفضل اعتبارها حقائقًا لا جدال فيها حول التواصل البشري، فلن يكون هناك الكثير مما يمكن لأي شخص آخر فعله لإقناعك بخلاف ذلك، أو لحثك على التفكير، كما أفعل أنا، بأن هذه معتقدات مضللة تمنع عقلك من الوصول لفهم نوع التفاعل اللفظي الذي نشارك فيه أنا وأنت في هذه اللحظة، والذي يشارك فيه معظمنا، بشكل أو بآخر، كل يوم من أيام حياتنا.
لهذا السبب، بصفتي شخصًا تكامليًا، لا أعلق أي أمل جاد على الدراسة الأكاديمية للغة حتى يصبح اللسانيون مستعدين لإجراء إزالة شاملة للأسطورة عن تخصصهم. قد يتعين على هذا البرنامج أن يتخذ أشكالاً مختلفة إلى حد ما في تقاليد مختلفة، لأن المغالطات السائدة حول اللغة ليست بالضرورة هي نفسها في جميع الحالات.
من المهم أن ندرك أن ما أسميه أسطورة اللغة ليس مجرد سوء فهم قديم للطريقة التي يتكلم بها الناس. على سبيل المثال، في "مختاراتهم" المخيبة للآمال إلى حد ما بعنوان أساطير اللغة (Bauer and Trudgill 1998)، قام المحرران بتضمين أساطير مثل أن "النساء يتحدثن كثيرًا". لم يقدما أية نظرية عامة لشرح ماهية أسطورة اللغة. الأساطير الإحدى والعشرون المزعومة التي حددت في مجموعتهما كلها مفاهيم خاطئة موجودة في أوروبا أو أمريكا. من الواضح أنه ليس من المتصور أن يعثر على الأساطير اللغوية في مكان آخر غير الثقافات الغربية، وسيكون من المثير للاهتمام التكهن لماذا يفترض المحرران ذلك. ومع ذلك، فإن النقطة الأولى التي يجب توضيحها هي أن الاعتقاد بأن النساء يتحدثن كثيرًا ليس مجرد خرافة عن اللغة أكثر من الاعتقاد بأن النساء ينفقن كثيرًا على الملابس وهي خرافة حول الاقتصاد. وبشكل مماثل، لنأخذ مثالاً آخر من Bauer and Trudgill، الاعتقاد بأن من الخطأ قول "هذا أنا"(This is I) ليس بأسطورة لغوية، ولكنه جهل بسيط باستخدام اللغة الإنجليزية.
بالنسبة لأي شخص يهتم بجدية بالنظرية اللسانية، فإن السبب وراء أهمية دراسة الأساطير اللغوية هو أن الأساطير اللغوية ليست مجرد حالات شائعة لجهل أو لغباء مستخدمي اللغة. على العكس من ذلك، تمتلك أسطورة اللغة منطقًا داخليًا خاصًا بها وتهدف إلى التقاط بعض الحقيقة الابدية أو الضرورية حول الكلمات. هذا هو سبب دمج الأساطير اللغوية في أنظمة نظرية المعرفة، وتميزت في مذاهب فلسفية متنوعة مثل تلك الخاصة بكل من لوك وفريجة وكونفوشيوس. لا شيء تافه مثل إدانة كلمة إنجليزية معينة أو تركيب يمكن أن يؤدي هذا الدور، أو أي شكوى، مهما كانت مضللة، حول ثرثرة النساء، أو أي مجموعة أخرى من المتكلمين.
قال زميلي السابق في جامعة أكسفورد Gilbert Ryle ذات مرة: "غالبًا ما تقدم الأساطير الكثير من القوة النظرية، بينما لا تزال جديدة" (Ryle 1949: 24). الشرط "بينما لاتزال جديدة" هو شرط مهم. كان نوع القوة الذي يدور في ذهن رايل هو فضح الأساطير السابقة وحتى الأكثر بدائية. كان أحد امثلته هو الاستعاضة في الفيزياء عن الأسطورة الأرسطية عن الأسباب النهائية بأسطورة القوى الغامضة التي تعمل بطرق غير قابلة للقياس أو الملاحظة. ولكن بالطبع حان الوقت الذي يجب التخلص فيهمن هذه الأسطورة أيضًا إذا أريد للفيزياء أن تحرز أي تقدم إضافي. بمجرد أن تتحول الأسطورة إلى عقيدة، فإنها تتوقف عن تقديم أي فائدة على الإطلاق. وهذا ما حدث في حالة اللسانيات الأكاديمية.
كما هو معروف، وصف Ryle النظرية الديكارتية للعقل بأنها "أسطورة ديكارت"، ووصفها بعبارة مشهورة باسم أسطورة "الشبح في الآلة" (Ryle 1949: 13-25). انني أستخدم مصطلح الأسطورة بما يتوافق مع استخدام رايل. خطأ ديكارت الذي جعل رايل يسميه يسميه "خطأ التصنيف"، وهذه التسمية تلائم بشكل مناسب نوع الخطأ الذي أعتقد أنه أسطورة لغوية. الأساطير اللغوية هي محاولات للتوفيق بين الخصائص المتناقضة للغة.
كما تبين حالة ديكارت، يمكن في كثير من الأحيان تزويد أخطاء التصنيف بحجج داعمة مفصلة يطرحها مفكرون مؤثرون للغاية. لقد حدث هذا بالتأكيد في حالة اللسانيات. يقدم التاريخ الكامل للقواعد التوليدية للغة ابان النصف الثاني من القرن الماضي مثالاً صارخًا على التفصيل الدقيق والمضني لأسطورة اللغة. المشاكل التي تتعامل معها القواعد التوليدية، والحلول المقترحة لها، هي داخلية تماما خاصة بالنموذج النحوي المعتمد، تمامًا كما يحل الشبح الديكارتي في الآلة المشكلات الداخلية الخاصة بالنموذج النفسي الذي اعتمده ديكارت. كانت الأسطورة في الحالة التوليدية هي أسطورة أن اللغة تتكون من مجموعة مغلقة من الوحدات والقواعد. بمجرد أن يشكك في هذا الافتراض الأساسي، فإن القواعد التوليدية لن يكون لها صلة بنوع النشاط الذي ننخرط فيه عندما نجري محادثة أو نكتب رسالة إلى شخص ما، أي أكثر مما يلقي الديكارتي أي ضوء على ما يحدث عند استنتاج أو حساب مجموع رياضي بسيط.
* * *
يعتمد الشكل الذي تتخذه أسطورة اللغة في أي ظروف تاريخية معينة على الأسباب التي تجعل بعض الأسئلة اللغوية محط تركيز البحث. أود أن أوضح ذلك بالإشارة إلى أسطورة الثبات الدلالي التي أعتقد أن ناغارجونا كان يرفضها. لقد ظهر في وقت سابق في شكل سؤال ناقشه كثير من نحاة اللغة السنسكريتية، بما في ذلك باتانجالي Patanjalı، المعلق الشهير على بانينيPanini . يبدو غريبا جدا للآذان الغربية الحديثة السؤال: "هل الكلمات أبدية؟" لقد أثيرت لأول مرة، على حد علمي، بواسطة ياسكاYaska في الأطروحة المعروفة عموًا باسم نيروكتا Nirukta، لكنه بالتأكيد لم يكن أول من أثارها. وفقًا لاكشمان ساروب، محرر طبعة عام 1920 من نيروكتا، من المحتمل أن ياسكا قد عاش قبل قرن في الأقل من أفلاطون، وبالتالي فإن نيروكتا هي أقدم عمل موجود في اصول الكلماتetymology وصل إلينا من الشرق أو من الغرب.
لذا فإن السؤال الأول الذي يجب أن يتعامل معه أي لساني مهتم بجدية بأساطير اللغة هو: "لماذا يجب أن يشعر أي شخص من جيل ياسكا بالقلق بشأن ما إذا كانت الكلمات أبدية أم لا؟" ربما لأن شيئًا مهًما يتوقف على الإجابة. لكن ما هذا الشيء؟ وماذا يعني السؤال نفسه بالضبط؟
أود أن أقترح أن ظهور هذا السؤال يتعلق على وجه التحديد بظهور الشكوك الدينية في الهند. إن أصول الكلام التي تشغل بال ياسكا هي تلك الكلمات التي تحدث في مقاطع من الترانيم الفيدية . يحتوي نص Nirukta على عدة مئات من الاقتباسات الفيدية، وتستهل الرسالة نفسها بالإشارة إلى قائمة تقليدية من الكلمات المستخرجة من الترانيم الفيدية وتناقلها الموروث. من هذا يمكننا أن نستنتج بشكل معقول أن ممارسة تجميع قوائم المصطلحات الفيدية الإشكالية والتعليق عليها كانت بالفعل واحدة من الآثار القديمة المحترمة في زمن ياسكا.
دعونا نحاول وضع هذه الممارسة في سياق زمنها. ليس هناك شك في الأهمية التي تعلق في الطقوس الدينية الهندية المبكرة على التكرار الدقيق للكلمة للنصوص الفيدية ذات الصلة. لعبت القدرة على تلاوة هذه النصوص عن ظهر قلب دورًا مركزيًا في الحياة الدينية الهندية، حيث اعتبرت إنها من أصل إلهي. وهكذا كان الإلمام التفصيلي بالفيدا أكثر أهمية لتعليم طبقة البراهمة من معرفة هوميروس بالنسبة للطبقة العليا من الإغريق في عصر ما قبل سقراط. لم تعتبر قصائد هوميروس أبدًا على أنها مستوحاة من الاله. و لم تكن هناك طوائف دينية في اليونان قائمة على الإلياذة أو الأوديسة. كان اليونانيون يعتبرون هوميروس شاعرًا ومؤرخًا عظيمًا، لكنه كان شاعرًا بشريًا وليس إلهًا.
اعتقد أن السؤال "هل الكلمات أبدية؟" يستمد أهميته من هذا السياق الفيدى المحدد. من المهم أيضًا حقيقة أن ياسكا، الذي يطرح السؤال، هو أيضًا أول باحث في اللغة السنسكريتية يذكر وجود تيار من التشكك الديني المناهض للفيدية في الهند القديمة. وفقًا لياسكا، رفض Kautsa كلية رصانة الدراسة الفيدية، الذي رأى أن التراتيل الفيدية كانت خزعبلات بلا معنى. على العكس من ذلك يعتبرها ياسكا نفسه يعتبرها نصوصًا كاشفة. من الواضح أنه لن تكون هناك جدوى من وضع هذه القيمة على الترانيم الفيدية ما لم يتم فهمها، والغرض الكامل من Nirukta هو المساعدة في فهمها، على الرغم من غموض العديد من المقاطع.
علم أصول الكلمات لياسكا هو المفتاح لفهم النصوص الفيدية. النظرية الدلالية - إذا كان يمكن للمرء أن يطلق عليها ذلك - التي تقوم على منهجه في علم أصول الكلمات ترى أن المعنى الحقيقي للكلمة يمكن إظهاره من خلال تتبع الكلمة إلى جذرها الأصلي. الافتراض الدلالي الأساسي هو أن المعنى الأصلي لا يتغير، حتى لو أخفته التعديلات اللاحقة في شكل الكلمة. وغني عن القول، إن هذا افتراض لا يقدم ياسكا أي دليل عليه إطلاقًا. بقدر تعلق الأمر به، إنها حقيقة عن اللغة غير قابلة للإثبات ولكنها بديهية.
* * *
الميزات التي ذكرتها حتى الآن كافية لإقناعي بأننا نتعامل مع قضية لها كل السمات المميزة لأسطورة اللغة. إنها تعمل بطريقة موازية لأسطورة التخاطرtelementation في الفكر اللغوي الغربي. الميزة الأكثر وضوحًا التي تميز الاثنين هي أن التخاطر هو أسطورة علمانية، لا أساس لها في تفسير نص مقدس، أو حتى نص تقليدي.
لذا فإن إجابتي على السؤال "لماذا يجب أن يهتم أي شخص من جيل ياسكا بشأن ما إذا كانت الكلمات أبدية؟" هي أن هذه الأطروحة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقبول أو رفض النصوص الفيدية باعتبارها ملهمة إلهيًا، وبالتالي مع الحفاظ الدقيق على الأصول كمهمة لغوية هي في نفس الوقت واجب ديني. يتوازى الموقف تقريبًا مع ما كان يمكن أن يكون عليه الحال في الغرب إن كان النحاة اليونانيون مهتمين حصريًا بدراسة العهد الجديد.
* * *
من المثير للاهتمام مقارنة الطريقة التي يناقش بها نحاة السنسكريتية الثبات الدلالي مع الحجة التالية التي تختم حوار Cratylus لافلاطون:
سقراط: أليس الجمال المطلق في رأينا دائمًا كما هو؟
كراتيلوس: هذا حتمي.
سقراط: هل يمكننا إذن، إذا كان يندثر دائمًا، أن نقول بشكل صحيح أنه هذا، وإنه ذلك، أو يجب عليه حتمًا، في اللحظة ذاتها التي نتحدث فيها، أن يصبح شيئًا آخر ويندثر ولم يعد ما هو عليه؟
كراتيلوس: هذا حتمي.
سقراط: كيف، إذن، يمكن أن يكون الشيء الذي ليس نفس الحالة أبدا شيئا؟ لأنه إذا كان في نفس الحالة، فمن الواضح عندها أنه لا يتغير؛ وإذا كان دائمًا في نفس الحالة وهي نفسها، فكيف يمكن أن يتغير أو يتحرك دون التخلي عن شكله الخاص؟
كراتيلوس: الأمر كما تقول.
سقراط: لكن لا يمكننا حتى أن نقول إن هناك معرفة، إن كانت كل الأشياء تتغير ولا يبقى شيء ثابت؛ لأنه إن لم تتغير المعرفة نفسها وإن لم تتوقف أن تكون معرفة، فستبقى معرفة، وستكون هناك معرفة؛ ولكن إن تغير جوهر المعرفة، في لحظة التغير إلى جوهر آخر من المعرفة، لن تكون هناك معرفة، وإذا كانت تتغير دائمًا، فلن تكون هناك دائمًا أي معرفة، وبهذا المنطق لن يكون هناك أي شخص يعرف ولا أي شيء يُعرف. (كراتيلوس 439-40)
باختصار، الحجة الحاسمة لسقراط هي أن المعرفة نفسها تفترض مسبقًا معيارًا ثابتًا، يمكن من خلاله الحكم على ادعاءات المعرفة. وبخلاف ذلك، فإن المعرفة في حد ذاتها مجرد وهم، والفلسفة هي البحث المضلّل عن إرادة خادعة.
* * *
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن كل الأساطير اللغوية التي ذكرتها لها علاقة بطريقة ما بالعلاقة بين اللغة ومرور الزمن. هذا يوحي لي أن هناك عاملاً مشتركاً يحكمهما.
إن الأساطير اللغوية في الشرق والغرب، في أكثر نسخها تعقيدًا، هي محاولات للتعامل مع نوع فرعي من اللغة، متجاهلين حقيقة إنه في جميع المجتمعات اللغوية، يعيش المتكلمون ويموتون ويتغيرون حتمًا؛ باختصار، إن استبعاد الزمن من بنية النظام اللغوي من أجل إتاحة إمكانية التعبير عن حقيقة أبدية بالكلمات الزائلة. هذا الاستبعاد هو الأساس النظري للمفهوم السوسيري للنظام اللغوي التزامني، والذي تبناه تشومسكي أساسا لنحوه التوليدي.
عادة ما يقدم المدافعون عن أسطورة التزامن هذه الأسطورة اليوم على إنها مثالية مبررة علميًا: على حد تعبير تشومسكي، للأغراض النظرية افتراض "المتكلم - المستمع المثالي، في مجتمع حديث متجانس تمامًا" (تشومسكي 1965: 3). يتجاهل هذا الدفاع بالفعل حقيقة أن تشومسكي بنى نحوه التوليدي على قراءة عميقة خاطئة لسوسير. ما فشل في فهمه هو أن التزامن السوسيري يفترض مسبقًا تحديدًا شاملاً لكل من الأشكال والمعاني. اعتقد تشومسكي أنه يمكنه فقط تبني "النظام" (إعادة صياغة ساذجة لى انهمجموعة من "القواعد") ورفض الشمولية التي يقوم عليها النظام.
* * *
إذن ما هو العامل المتحكم الذي يتسبب في إشكالية اللغة والزمنية في أوقات وأماكن مختلفة؟ أشك في أن مصدر الأساطير اللغوية يمكن في معظم الحالات تتبعه، في جميع أنحاء العالم، إلى ظهور القراءة والكتابة. بقدر ما أستطيع أن أفهم، قد تستمتع المجتمعات السابقة بمفاهيم خيالية حول أصل الكلام، كما تفعل بشأن أصل أشياء أخرى كثيرة. لكن الشعوب السابقة لم تواجه مؤسسة مثل الكتابة، التي لا يتوفر وصول حر إليها، بل تتطلب تدريبًا منظمًا ومخصصا تحت إشراف معلم متخصص. علاوة على ذلك، فإن التدريب بدوره يتطلب من المتدرب قبول بعض المعتقدات التحليلية حول الكلام والتي لولاها لم يكن من الممكن النظر فيها على الإطلاق.
إن الارتباط بين معرفة القراءة والكتابة ومشكلة الوقت هو أن الكتابة تقدم، في تجربة الكاتب، التناقض الواضح بين الزوال السريع للكلام والبقاء النسبي للكلمة المكتوبة. لن تكون الكتابة سوى تناظر مباشر للكلام إذا اختفى ما كتبته في لحظة انتهائك من الكتابة.
أهمية هذا بالنسبة إلى ياسكا بالكاد تحتاج إلى تأكيد. وبالنسبة للمعلقين الفيديين، تأخذ مشكلة المعنى مركز الصدارة بمجرد أن يكون هناك سؤال حول الحفاظ على النصوص الفيدية في الكتابة. من الواضح أنه ستكون هناك كارثة إذا سُمح بنشر نسخ غير دقيقة في شكل مكتوب موثوق. مع تراتيل ذات اهمية مثل هذه، فإن الشك في وجود أخطاء في نص لم يتم تمريره شفهيًا من قبل كهنة مؤهلين بشكل مناسب سيكون كافياً لإثارة الشكوك حول اصالته.
يظل المفهوم التكاملي للتصاحب الزمني هي الإسهامة الأكثر ثورية التي قدمت حتى الآن لفلسفة اللغة الحديثة. مفهوم التصاحب الزمني cotemporality وحده يسمح لعالم اللسانيات أن يدرك الآثار الكاملة للدور الذي يلعبه السياق في التواصل البشري. إنه يحمل مفتاح تطوير نظرية شاملة للمعرفة اللغوية، والتي في يوم من الأيام ستدفن أخيرا كل الأشباح المعرفية التي لا تزال تسكن آلات ما يسمى بـ "العلم الادراكي".
المراجع:
- Bauer, L. and Trudgill, P. (eds.) (1998), Language Myths, London, Penguin.
- Chomsky, A.N. (1965), Aspects of the Theory of Syntax, MIT Press, Cambridge, Mass.
- Harris, R. (1981), The Language Myth, London, Duckworth.
- Harris, R. (1996), The Language Connection, Bristol, Thoemmes.
- Harris, R. (2003), ‘Nagarjuna, Heracleitus and the problem of language’. In H.G. Davis and T.J. Taylor (eds), Rethinking Linguistics, London, Routledge , pp. 171-188.
- Harris, R. (2009), Rationality and the Literate Mind, New York, Routledge.
- Matilal, B.K. (1990), The Word and the World, Delhi, Oxford University Press.
- Plato, Cratylus, trans. H.N. Fowler, Loeb Classical Library, London, Heinemann, 1926.
- Ryle, G. (1949), The Concept of Mind, London, Hutchinson.
- Ryle, G. (1966), Plato’s Progress, Cambridge, Cambridge University Press.
- Sarup, L. (ed.) (1920), The Nighantu and the Nirukta, Delhi, Motilal Banarsidass.
II نسبة إلى (فيدا veda،في السنسكريتية: "المعرفة") مجموعة من القصائد أو الترانيم مؤلفة باللغة السنسكريتية القديمة من قبل الشعوب الناطقة باللغة الهندية الأوروبية التي عاشت في شمال غرب الهند خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. لا يوجد تاريخ محدد يمكن أن يُعزى إلى تشكل الفيدا، لكن الفترة من 1500 إلى 1200 قبل الميلاد مقبولة لمعظم العلماء. شكلت الترانيم جسدًا طقسيًا نشأ جزئيًا حول طقوس سوما والتضحية وكان يتم تلاوتها أو ترديدها أثناء الطقوس. (الموسوعة البريطانية) [المترجم]
تغريد
اكتب تعليقك