البلاغة والإفهام الباب: مقالات الكتاب
د. رشيد سكري الخميسات - المغرب |
في كثير من الأحيان، كنت أقرأ كتبًا عن البلاغة العربية، ودائمًا كانت تتزاحم في ذهني أسئلة من قبيل: هل علم البلاغة ضروري للإقناع؟ أم يقف هذا العلم شامخًا، فقط، عند مشارف الإفهام؟ وفي مستوى آخر، هل كل ما يفهم يكون خاضعا لنسق بلاغي؟ أم هو مجرد تخييل المعاني؟ ماذا نعني إذا قلنا إننا فهمنا كذا وكذا؟
الإفهام هو وضوح وتجل ضد الإبهام والغموض، ديدنه رفع اللبس عن مقام الحال، فالنهضة الإسلامية قامت على سحق المشككين في الرسالة النبوية، حيث اعتبرت المعجزات إحدى الخيارات الصعبة، التي دافع بها الأنبياء والرسل عن الوحي الإلهي، وواجهوا بها عتو الكافرين والملحدين. فالإفهام، في هذا المستوى، رسالة بلاغية يتوخى منها نـُصرة الدين الجديد على يد المكلفين بالتبليغ، كما هو الحال بالنسبة لموسى عليه السلام، عندما تحولت عصاه، التي يهش بها على الغنم، إلى أفعى تلقفت ما صنعوا من إفك. أو عندما خرج الماء الزلال من بين أصابع المصطفى الأمين، ليروي ظمأ قومه، ويطهرهم للصلاة. إن الإفهام لا يتعلق، دائمًا، بالدوال اللغوية، أو ربط الدال بالمدلول أو حتى تخييل المعنى، وإنما هو مرتبط بالحجة المنطقية التي تقطع الشك باليقين، وتمد جسور الإفهام بهدف الإقناع واستمالة الجاحد والمنكر أو التشكيك في قناعاته، عن طريق قطع روابط التفكير لديه. فالمعجزة، على سبيل المثال، حجة منطقية، بلاغتها إفهام المشككين بمضمون الرسالة، التي جاء بها النبي، فتوظيف حدود العقل يبطل النقل؛ لأن قصة موسى وعصاه، تمت بحضور الفرعون وحاشيته.
عند ذكر البلاغة يتبادر إلى ذهننا الحجاج، بما هو منطق سيكولوجي يتغيى تنظيم الكلام والقول، بل هو مبحث بلاغي نعيشه في السر والعلن. فالمنطق الحجاجي، حسب عميد البلاغيين المغاربة محمد العمري، له امتدادات معرفية تصل إلى تخوم الإحساس بدفء البديع والمحسنات البديعية، التي تخيط الوجود الإنساني ككل. فمن بين الأشياء، التي أرقت العمري الالتباس الحاصل بين البلاغة والحجاج. فهذان المبحثان ينحدران معًا من أصول لسانية ومنطقية، يقضيان بالانسجام في القول والكلام الحجاجي. ولأن الظاهرة البلاغية تتخلص من شوائبها باستمرار، فإن الحاجة الماسة لرسم حدود للتعاريف، أصبحت مطلبًا رئيسًا لمعرفة الامتدادات بين أهم بنياتها التعبيرية.
فما البلاغة إذن؟ وما الحجاج؟
إن البلاغة، في مفهومها العام، تدلنا على الخطابة، من حيث إنها مفهوم أرسطي يكشف عن خبايا التواصل الجيد، وقد يأتي النسق الحواري مجسدًا لمفاهيمَ تحوم حولها من زاوية المعنى والمبنى؛ كالفن والصناعة والدُّربة والإجادة… وغيرها، التي تدور في فلك معرفي يتصيد حسن الخطابة والإلقاء. وفي هذا الباب يتسنى للخطباء أن يرحلوا خببا إلى ميدان الشعر، فتـُكتم في جوفه أسرار الخطابة، وإن تعلقت ـ أي الأسرار ـ بالصوت وطريقة اللباس والإنشاد أيضًا، بما هي طقوس ترافق جنون الكلام والقول. فالإنشاد، في هذا المستوى، حسب أدونيس، مجرد امتلاك السمع الخاص في الجذب والتأثير. فالخطابة تقضي بالكينونة البلاغية من زاوية التواصل، الذي يهدف إليه الأدبُ كرسالة إنسانية. وفي هذا الإطار يأتي الحجاج بمفهوم الخطاب البلاغي، خصوصًا عندما يـُستعمل الكلام البليغ وصفًا للكلام. إن اختيار الصفات الحسنة، التي لها وقع على السامع بهدف إقناعه أو استمالته، تندرج ضمن إطار الخطابة التداولية العليمة بأحوال السامع، ومدى تمكنه من الخبر ومقتضياته، فالخطيب الجيد هو الذي يلقي الخبر وفق الحال والأحوال، بما هو اقتصاد في الجهد والعمل، حسب المقام التداولي. وعلى مرّ عصور الأدب العربي الفصيح، وفي تاريخه العريق، الذي انكتبت فيه الغنائية والإنشاد الشعري، كان حضور السمع والإفصاح عن الطرب من أهم الركائز، التي وطدت بها البلاغة أسسها في الوجدان العربي، ومن الطبيعي أيضًا أن تحفل الطبيعة بالاختلاف على مستوى إيقاع الأصوات، بما هو إنشاد تتشكل منه سمفونية الوجود. وفي هذا التباين والتشاكل الخاص في أصوات طبيعية، أو بالأحرى أصوات الطبيعة المتمثلة في غنائية الطيور والحيوانات وجريان المياه في الوديان، وصفير الرياح في الفلاة والفيافي، وكل ما له علاقة بالكينونة، هي بمثابة لغة طبيعية فصيحة وبليغة، حسب الرومانسيين الجدد، الذين ينتصرون للتميز وإبراز الذات في الإبداع. هذا الإسقاط العفوي جاء نتيجة الصلة العضوية بين الإنسان والطبيعة، ومن هنا نفهم أن الخطابة طورت من بنائها المتميز لتكون مصدرًا لعلوم تهتم بالإنسان في أبعاده المعرفية والثقافية والرمزية والسيميائية.
بهذا المنعطف تتداخل الخطابة بالبلاغة، ويصبحان معًا تيارين معرفيين كبيرين يغذيان الوصل الثقافي بين قديم التراث العربي وحديثه؛ لينفصلا في ما بعد إلى تيارات فكرية كبرى، تهتم بالبديع الشعري والنثري على حد سواء. فمع جماعة «مو» و«لييج» في بلجيكا كانت الانطلاقة الفعلية للبلاغة العامة، ومن ثـَم إلى الشعرية اللسانية البنيوية مع المنظر رومان جاكوبسون، الذي أحدث زلزالاً حقيقيًا في التلقي البلاغي والخطابي.
إن ما يفيدنا في البلاغة، هو تلك القوة الخطابية التي يستمدها التواصل اللساني عبر عصور المعرفة العربية بالخصوص؛ لأن التكوين الجيولوجي للثقافة العربية، حسب أدونيس، مرت عبر الشفهي قبل أن تؤسس منطقها في الكتابة، لذا يحتل الحجاج مكانة أسنى في الإقناع وقوة الاستمالة. فضلاً عن أن التراث العربي الديني كان حافلاً بتيارات فكرية تـُعنى بالشأن العقائدي، ويأتي تيار «المعتزلة» الذي ينتصر إلى العقلانية، في قلة هذه التيارات إلى جانب «الأشاعرة» في التاريخ الإسلامي. وفي هذا ما يوضح الدور الذي تلعبه الحجة البلاغية في حياة الناس، بهدف الإقناع ورجحان الرأي وتغليبه.
إن الحجة البلاغية تنشغل بعالم المنطق، أو بعوالم مستمدة شرعيتها من أحداث تاريخية تشرعن النسق الحجاجي، بما هو حسب أوليفيي روبول، كل ما يتعارض والبرهنة، وتذهب إلى تخوم مقارعة الحجة بالحجة. فالمنطق الحجاجي أساس بلاغي يستشرف به المتحاج ضفافًا أثيلة من ألفاظ مستحدثة تغني الرصيد اللساني، ومن ثم فاللغة البلاغية الجديدة، حسب محمد العمري، تسير في توافق مع اللغة الحجاجية وفق منطق تداولي لساني.
إننا، إذن، إزاء منتظم من الكلام والقول، الذي يؤشر لتواصل مرغوب فيه، بدءًا بالمعرفة البيانية، واستحداثًا لصور بنائية تأخذ مسافة مثلى بين ما هو منطقي وما هو لساني. فالمنطق سيشرعن لنا العبور الآمن إلى عوالم الحجاج، ذات النسق المركب بين السبب والمسبب، بينما اللساني يستشرف عوالم البديع وجميع المحسنات البلاغية، التي نستميل بها السامع. ورغبة في تداولية المعرفة حسب الكرونولوجية التاريخية، نجد أن ما يعرف تجنيًا بعصر الانحطاط دوّنت فيه أسماء أعطت الشيء الكثير لإمبراطورية الإقناع البلاغي، والائتلاف بين استعمالات الألفاظ ومعانيها، ويأتي عالم الاجتماع ابن خلدون في طليعتهم إلى جانب التفتزاني وآرائه البلاغية.
* اللوحة للفنان: سلطان الجريس
SultanAlJurais
تغريد
اكتب تعليقك