المتخيل ورسالة الأدبالباب: مقالات الكتاب
د. رشيد سكري الخميسات - المغرب |
لم يكن السرد تلك اللعبة السهلة، التي ركبها المثقفون طيلة عقود من الزمن، وإنما تنساق-أي اللعبة - وراء عملية تواصلية جد معقدة تهدف إلى ربط جسور بين ذاتي، فضلاً عن تأسيس أركان تضمن من خلالها هذا التواصل المنشود. فالمرسل والمرسل إليه والرسالة لا يستقيم ظل السرد من دونها أبدًا، وما يقابل هذه الثوابت والمنتهيات نجد: الراوي والمروي له والرواية أو القصة. فهذه الأخيرة، بالموازاة مع ذلك، وحسب هنري جيمس، تمسرح الأحداث. بمعنى أنها تحكي ذاتها، ولا دخل للراوي في العملية الحكائية.
إن الرسالة التي يحملها الإبداع تكون مشحونة برؤى ومواقفَ تتبلور في ظل نوعية الرؤية، التي استمد منها الكاتب بلاغته. علاوة عن ذلك فالمنطق الأيديولوجي يلازم الكاتب كالظل الحرون، مهما حاول التخلص منه. فلا إبداع، حسب تزيفطان تودوروف، يكون خاليًا من الأيديولوجية، وإلا سقطنا في اللعبة المكشوفة ميْسمها: الفن من أجل الفن. فالقصة القصيرة، مثلاً، كإبداع وتفاعل، هي عبارة عن سيطرة مطلقة عن أدوات فنية، تنتزع من القارئ ذلك الاعتراف التلقائي، بوسائلَ ذات طبيعة حجاجية، يرى فيها ذاته، ويتفاعل من خلالها مع الآخر.
فالمزية لا تكمن في الوصف وسرد الأحداث فحسب، وإنما في تمرير أفكار، وكشف عن الهامش والمنسي من التجربة الإنسانية، بغية إحداث رجَّات مجتمعية، تدفع نحو التقدم، والخروج من سراديب الهيمنة العمياء على مصادر العيش الكريم. ومنه كانت القصة القصيرة، بالمغرب، تنشد ذلك الصراع بين التحديث والحداثة من جهة، وجر المجتمع المغربي نحو بقعة الضوء من جهة أخرى. فالنصوص القصصية، من الستينيات إلى حدود بداية الألفية الثالثة، كانت على محك حقيقي من الجدل والصراع الوجودي بين الذات والواقع، أو بين الذات والآخر، مما يمكن من بسط ومعرفة الأسباب والمسببات المباشرة وغير المباشرة في هذا الانكسار المعرفي والثقافي والجدل، الذي أحدثته هذه الانتقالة النوعية في مسار المجتمع المغربي.
بات من الواضح جدًا، وحسب العديد من المفكرين والباحثين، أن ما يهيمن على الثقافة العربية بعامة والمغربية بخاصة، ثقافة الوصاية و الانصياع و الإذعان وأخيرًا الخضوع؛ لأن المسار التاريخي، وفرض الحماية الفرنسية في ظروف غامضة، استنادًا إلى مجموعة من الاتفاقيات الملتبسة، كان حاسمًا في هذا الضرب من الثقافة السائدة، مما اصطلح عليه بـ "ثقافة القيم الثابتة"، فكانت المرأة، في ظل هذا الوقع، مرتهنة منذ البدء للقيم الماضوية و للتخلف وللاستبداد الاجتماعي والسياسي، فما كان أمام الكاتبات المغربيات إلا أن يرفعن بنودًا خفاقة تقف في وجه الريح، بهدف هتك سترة الجور والظلم والإقصاء والتهميش، فكانت خناثة بنونة، إلى جانب رفيقة الطبيعة، سبَّاقتين إلى هذا العالم الفسيح والمترامي، بمجموعة من المجاميع القصصية الهادفة، إلى تحرير المرأة المغربية من رواسب الماضي و أغلال الحاضر؛ وبالتالي جاء صوتهما متفردًا وسط ثقافة الرجاجيل.
تغدو الكتابة، في ظل هذه الظروف، كتابة مقاومة لكل حيف وظلم، استنادًا إلى اختيار شخصيات القصص من الواقع، مما يؤمن لها فعل العبور والامتداد نحو باقي الذوات الأخرى، التي تتلقى هذا الخطاب السردي. إن فعل المقاومة يجئ، حسب جابر عصفور، دائريًا أو لولبيًا، انطلاقًا من المؤشرات الزمنية، التي يبتدئ منها الحكي و يؤوب إليها. وهذه الخاصية تنطلي على مجموعة من القصص المغربية الحديثة، خصوصًا بين الستينيات والسبعينيات، حيث إنها – أي المقاومة - أصبحت ضفيرة سردية.
فالمقاومة بالكتابة لا تقف عند هذا الحد، وإنما تشتغل على مستوى أعمق حيث تراهن على فعل التأريخ، وبالتالي رفض النسيان. حيث إن هذا الأخير يهزم الإرادة الحقيقية، التي تؤمِّن فعل العبور نحو التغيير المنشود. فمقاومة النسيان بالكتابة الأدبية ما هو إلا مجلى للتواصل، الذي يطمح إليه المبدع، مادام هذا الأخير بحاجة ماسة إلى الصور، التي تبعث عن الحياة. ففي المحاورات الفلسفية الفيدونية نسبة إلى فيدون، نجد التعبير التالي: "المرء إذا أمسك بالصورة، فإنه تمكن من الإمساك بالروح أو من امتلك الصورة امتلك الروح ". بالموازاة مع ذلك، ألا يمكن اعتبار أن البيان، بما هو مشتل حيوي للصور، وجه من وجوه التواصل بين ذاتي؟ أم هو عبارة عن هروب كبير يفصل بين الذات والواقع؟
ارتباطًا بالسؤالين السابقين، نجد أن للمتخيل وجودًا تفرضه هذه العلاقة الحميمية، التي تجمعنا بعالم الصور، مادام - أي المتخيل - شديد التعلق بالحوض الدلالي والمعرفي، الذي نسبح في ملكوته. فكيف انعتق المتخيل من سلطة العقل؟ وكيف آب إلينا هذا المتخيل ليحسم في تصورات الإنسان للذات والموضوع؟ وهل يمكن أن يعيش المرء من دون متخيل ملأ علينا الدنيا وشغل الناس؟ إذا كان المتخيل عالمًا من الصور المتراكمة في الذهن، أيمكن اعتباره تواصلا بين – ذاتيا أم هروبًا من هذا الواقع الموبوء؟
تغريد
اكتب تعليقك