وجعُ المتخيَّلُالباب: مقالات الكتاب
د. رشيد سكري الخميسات - المغرب |
ببعض المتخيلات التي نحيا بها، نجد أن الإنسان ينتمي إلى عالم من الصور أكثر مما ينتمي إلى مجالات الأفكار، وهذا ما ذهب إليه كل من غاستون باشلار وجلبير دوران، فالمتخيل هو سند الإنسان في كشف عن عالم خاص به من الصور، التي ترتكز في الذاكرة. فالربط بين الواقع والمتخيل جعل كل من رولان بارت و كاستورياديس أن يهتما أكثر بالطبيعة الاجتماعية للمتخيل، فهما لم يقفا أبدًا عند حدود الظاهرة المجتمعية، وإنما تجاوزاها بإصرار ليصلا معًا إلى حدود البصمة الهوياتية، التي تنطلي على النصوص السردية. وفيها يكون المتخيل عبارة عن فكرة مهيمنة على طبقة دون سواها، من خلال الصيرورة التاريخية، التي تساهم في تشكل إيديولوجيات معينة، تكون منبعًا ثرًا للمتخيل.
لا يسعنا إلا أن نعود إلى المسار التي تقطعه الصورة في الذاكرة، فضلاً عن أنها تعيد إنتاج الوعي حسب جون بول سارتر، فالمتخيل هو عبارة عن مخزون من الصور انفصلت عن الوعي، وأصبحت بعيدة كل البعد عن العدم، فالكاتب من هذا المنظور يميت العالم، بهدف إنتاج عوالم متعددة من الصور. إن نزوع الإبداع نحو هذا المخزون الثر من العادات والتقاليد والأفكار كان بهدف تواصلي، يطمح إليه المبدع إلى أن يتواصل مع ذاته التي يتراشق فيها العقل والحلم معًا.
ففي المفهوم المعجمي يكون المتخيل مقرونا بلفظ الخيال، ودالاً على إنتاجاته الغزيرة. وعلى هذا المحور يتلاقى كل من الرمز والخيال والصورة؛ ليكتمل هذا الانفصال في نظر العديد من الدارسين. في حين ارتبط مفهوم المتخيل، في الثقافة العربية، بالدرس البلاغي ومنجزه من خلال البيان والبديع والمعاني. قريبًا من المتخيل، دائمًا، نجد التناص يلعب دورًا كبيرًا في استبانة الغامض والمبهم من التجربة الإبداعية. وفيها هذا فالمتخيل الفلسفي يطل على العمل الأدبي من خلال التقابلات المعرفية والوظيفية. بما هما عنصران يتدخلان في بناء هذا المفهوم وفي الوظيفة التي يقوم بها. بالموازاة نجد المتخيل الاجتماعي يتسربل كثيفًا في العديد من النصوص القصصية. حيث إنه يعضض من الانتماء الطبقي عند المبدع، والذي يجعل منه لسان حاله.
في قصة "ماذا يشرب الأطفال؟" لأحمد بوزفور من ديوان السندباد، يقول: "في البداية لم يكن الحادث يثير غير الضحك، كان الرجال يقهقهون حتى تتشوه وجوههم وتدمع أعينهم، أما النساء فقد كن يتناقلن الحديث متهامسات، ويضحكن في خفوت، وقد احمرت وجناتهن ووارين نظراتهن خوفًا أن يسمعهن الرجال". إن البناء السردي في هذا المقطع القصير، له امتداد على طول القصة، من حيث إنه يعتبر العتبة التي تؤمن العبور الآمن نحو باقي المكونات الأخرى. علاوة عن أن المتخيل، هنا، عبارة عن صورة اجتماعية راسخة في ذاكرة المغاربة؛ جلسة محافظة في بادية من البوادي المغربية، حيث الكلمة الفاصلة للرجال، بما هم أهل الحل والعقد، وإليهم يرجع الفضل كله. وما النساء إلا توابع يدرن في فلكهم، وصوتهن لا يسمع ولو كان هسيسًا خافتًا. فالمتخيل الاجتماعي، حسب كاستورياديس، صور لنا هوية الأفراد الفاعلين في السرد القصصي، بل عرى حتى على انتماءاتهم التقليدية العتيقة التي تعود، بنا، إلى منتصف القرن الماضي من أوراق البادية المغربية.
فكاستورياديس كان على علم بأن المتخيل الاجتماعي يوازيه متخيل زماني، حيث لا تقوم قائمة الواحد دون الآخر. لذا فالرباط متين. والصورة المنبعثة من متعدد، تجعل من البلاغة ركنها الأساس. فالرجال يقهقهون، بينما النساء يتهامسن، فبين القهقهة والهمس جسر الطباق جرت تحته مياه كثيرة. فالمجتمع الخاص بالبادية المغربية، سوسيولوجيا، مشخص بنظام اقتصادي وطبقي وفكري وسياسي أيضًا من خلال عمليتي القهقهة والهمس. وفي ذات السياق تبقى الرؤية التي ينظر بها المبدع إلى الواقع حاسمة، أهو يبغي تغيير الوضع القائم، أم المحافظة عليه؛ من زاوية أنه دليل هوية متوارثة؟ فالتغيير يكون ثقافيًا بادئ ذي بدء، تتغير فيه الأنساق الثقافية المهيمنة، ومن ثم تدخل في عراك مصيري مع الثقافات الهجينة، أو الوافدة بهدف محوها تمامًا. وما تتشكل منه الثقافات ناجم عن كل الإنتاجات الأدبية في منظومة خاصة من الأفكار والأيديولوجية. فالإبداع بكل تلاوينه يدخل في نسق ثقافي، يهدف إلى تغيير واقع ماثل للعيان، وكانت الثورة الفرنسية خير مثال لمن أراد الاستفادة من التاريخ الإنساني العريق. فالقصص القصيرة ما هي إلا حكايات تواكب عصرها، تستمد من الواقع وتعود إليه محملة بأفكار وتصورات وأيديولوجيات تخبو وتنام في أنسجة المجتمع وتختمر إلى حين استفاقتها على واقع جديد.
تغريد
اكتب تعليقك