طه حسين ... واللَّهو الفلسفيالباب: مقالات الكتاب
د. رشيد سكري الخميسات - المغرب |
كان الأدبُ، ولايزال، رحلةَ بحث دائم عن المعرفة والثقافة، وسفرًا دؤوبًا في إنماء طاقات شخصية قادرة على مواجهة ونزال خصوم فضلاً عن تبني مواقف ذات منابع وروافد هادفة إلى خلخلة ثوابتَ ومرتكزاتٍ بُنيت، وعلى مد عصور من الزمن، بالإسمنت المسلح.
ففي كتاب "الغرب في المتخيل العربي" لمحمد نور الدين أفاية، أشار إلى الأسس التي انبنت عليها الحضارة الأوروبية، فأصبحت جسرًا متينًا نحو الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، علاوة على التفاني في العمل. هذه المبادئ الأربعة عناوينُ كبيرةٌ؛ لتأسيس مجتمع حضاري منفتح ومتقدم يتشرب العلم والمعرفة. بما هي فتحت أمامه شهية البحث عن موارد طبيعية، يفرضها تطوره الصناعي والاقتصادي والسياسي أيضًا.
إن الحاجة إلى فرض هذا الكيان الجديد، على الشعوب المستضعفة، حسب أفاية، دفعت بنابليون بونابارت، نهاية القرن الثامن عشر، إلى المغامرة التاريخية في اتجاه الشرق العربي، فمعظم المؤرخين ينظرون إلى هذه الحملة أنها خلقت من مصر بلدًا جديدًا، بعدما تخلصت من أدران الرجل المريض، الذي أدخلها بحرًا من ظلمات وانحطاط.
وأمام التحدي الحضاري والتفوق التقاني الغربي أصبح النموذج، الذي يجب أن يحتذى به هو النمط الأوروبي، خصوصًا في ميدان العلم والمعرفة. فرفاعة الطهطاوي كان من بين الرعيل الذين بعثهم علي محمود باشا إلى المعاهد الأوروبية، بهدف التحصيل العلمي. فجاء كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" بمثابة كشف عن عوالم الفن والأدب، الذي تتمتع به الحضارة الأوروبية. وهذه الرحلة كانت فاتحة لمجموعة من الرحلات (رحلة المهندس علي مبارك وغيره)، التي اكتشفت الآخر الأوروبي من خلال أهم مذاهبه وتوجهاته الفكرية والعلمية والعقائدية والسياسية أيضًا.
غير أن السفر، الذي قام به عميد الأدب طه حسين، إلى رحاب جامعة السوربون بفرنسا، ظل شاهدًا على خارطة طريق، استطاعت أن تخلخل أهم الثوابت والأسس، التي يقوم عليها المجتمع العربي بعامة والمصري بخاصة. فالرحلة الأولى باءت بالفشل مما اضطر، طه حسين، العودة إلى الديار بفعل العوز المادي، الذي تعاني منه الجامعة المصرية المحتضنة. بينما الثانية، والتي دامت أربع سنوات، تعرف من خلالها على أساطين الفكر الفرنسي؛ إميل دركهايم وغاستون لانسون ولوسيان ليفي برول، كما أنه تأثر بفلسفة ديكارت؛ لينقل نزعتي الشك والريب إلى التراث العربي في كتابه: "في الشعر الجاهلي" الذي ألفه سنة 1927، ليتحول عنوانه فيما بعد إلى: "في الأدب الجاهلي".
إن أهم تصور جاء به طه حسين، في معالجته للثقافة العربية، هو تخليصها من زوائدَ، تشوش على الصرح الثقافي العربي. ففي "حديث الأربعاء" الجزء الأول، يقول طه حسين: "الرواة يختلفون في وجود قيس، فأما الثقات منهم فقد أنكروا وجوده، ... زعموا أن بني عامر أغلظ أكبادًا من أن يعبث بهم الحب إلى هذا الحد". فإذا كانت الغاية هي التشكيك في أصالة التراث العربي، الضارب بجذوره الثقافة في عمق الحضارة الإنسانية والممتدة من الجاهلية إلى العصور الأدب الأندلسي، بشبه الجزيرة الإيبيرية، فإن عميد الأدب قد خصص لذلك فصلاً في "في الأدب الجاهلي" للحديث عن اللَّحَن، الذي طال ديوان العرب، باحثًا عن أسباب نحل الشعر، فأرجعه ـ أي النحل ـ إلى عاملي الدين والسياسة، حيث وقف الشعر إلى جانب السيف في نصرة العقيدة الجديدة.
فأسوة بالأمم السابقة؛ الرومانية والإغريقية، فإن تحضُّر الأمة العربية جاء على شاكلتها وعلى منوالها أي: حضارتها بعد بداوتها. وهذا، في نظر طه حسين، عامل حاسم في اللحن، الذي طال الشعر العربي. فاستكثار الشعر كان سببًا موضوعيًّا في إلحاق أشعار أخرى لشعراءَ ثبت أنهم لم يتغنوا بالقصيد أبدًا. وفي هذا أشار صاحب الطبقات العشر في الشعر العربي، ابن سلام الجمحي قائلاً: "وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام".
إن النظرة العقلانية، التي كان طه حسين يعالج بها الأدب العربي، لم تثنه عن حماية جوهره كفنان وكأديب. بالموازاة مع ذلك، فالتوليف بين العقل والخيال، في جل إبداعاته، حافظ عليه عميد الأدب العربي، بالرغم من تأثره الشديد بالنزعة الديكارتية، التي تنتقد الخيال والمخيلة. لذا كان البحث عن أسباب هذا المذهب، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أمرًا في غاية الأهمية، خصوصًا أنه سيدرس في بيئة ثقافية مغايرة. ففي مقال نشره طه حسين في مجلده الضخم "علم الأدب" أشار إلى الأسباب الكامنة وراء تبني النزعة الشكية عند ديكارت، وذلك حينما وجد تناقضًا صارخًا بين قواعد اللاهوت وفلسفة أرسطوطاليس. ومن هذا المنعطف التاريخي جاء اللهو الفلسفي، كما يحب أن يسميه ديكارت.
تغريد
اكتب تعليقك