التجربة اليسارية العالمية السقوط والمراجعةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 05:47:51

د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا

كان النقد الموجه للتجربة الاشتراكية السوفيتية موجعًا، وقد جاء إجابة عن السؤال القائم حول أسباب فشل النموذج السوفيتي، فالأسباب الجوهرية للفشل تتمثل في هلاك الطبقة العمالية المناضلة في الحروب التي واجهت روسيا، ومن ثم لجأت الدولة إلى الموظفين البيروقراطيين الذين تزعمهم "ستالين" السكرتير العام للحزب الشيوعي، والذي بسط نفوذه على كافة أجهزة الدولة والبيروقراطية العتيقة فيها، ونادى بشعار "الاشتراكية في بلد واحد" ألا وهو الاتحاد السوفيتي، في رد على  فشل الثورات الاشتراكية الموازية في البلدان الغربية الأخرى، فتحولت التجربة بمرور الوقت إلى بيروقراطية مقيتة، أضاعت قيم الاشتراكية. فعلى مستوى الصعيد الداخلي، قام ستالين بتأميم الأراضي الزراعية كلها، من أجل السيطرة على إنتاج الحبوب وتصديره للخارج، ولجلب المزيد من المال لإقامة حياة صناعية كاملة، وبالفعل تم هذا، ولكن على حساب هلاك ملايين المزارعين الذين لم يجدوا الطعام الكافي، ولا المال الذي يعيشون عليه، ونفس الأمر حدث في الصناعة، حيث أقيمت مصانع كثيرة، اعتمدت على إعطاء العمال الأجر الأساسي فقط مقابل تشغيلهم فترات طويلة، أي تم استغلالهم ببشاعة من قبل بيروقراطية الدولة السوفيتية، والتي سيطرت أيضًا على النقابات العمالية. وكم كانت التركة الأليمة التي ورثها خروشوف وتحدث عنها علانية متمثلة في: مقتل اثني عشر مليون إنسان، منهم غالبية الحزب الشيوعي السوفيتي (الحزب البلشفي)، الذين هلكوا خلال التطهير العرقي في العام 1936م، بجانب الملايين الذين قبضت عليهم الشرطة السوفيتية وأودعتهم في معسكرات اعتقال في سيبيريا ولم يعد معظمهم ثانية إلى قراهم. أما رجال البيروقراطية السوفيتية فقد استفادوا من مناصبهم في الدولة، والتي جعلت منهم ومن أسرهم نخبة في المجتمع، يتمتعون بعيش مرفه، وحياة مخملية؛ فلهم مستشفياتهم ومدارسهم الخاصة، وأرصدتهم في بنوك سويسرا، وتم كل هذا من أجل تغييب قيم الاشتراكية عن الموظفين، وانغماسهم في التنافس على المناصب والثروات والمزايا. أيضًا، فإن 15 % من الدخل خُصَّصَ لوزارة الدفاع، فتمت التضحية بمتطلبات كثيرة من أجل السباق العسكري مع الغرب، مما أدى لتدني الخدمات. فمجمل القول حول ما حدث في الاتحاد السوفيتي هو تحوله إلى رأسمالية الدولة بما تعنيه الكلمة، فرأسماليوها هم الموظفون الكبار.

والكارثة، أن المثقفين الحقيقيين أعضاء الحزب البلشفي، فيما أسموه المعارضة اليسارية، تمت محاربتهم وإقصاؤهم عن الحزب والحياة السياسية بسجنهم أو نفيهم، فغاب الصوت الثوري العاقل، لصالح دولة الاستبداد التي أقامها ستالين.

وهو نفس ما حدث للتجربة الصينية، ذلك أن الخطأ الذي سقط فيه الحزب الاشتراكي الصيني هو تأييده لقيادة الكومينتانج التي كانت تقاتل القوى الأجنبية المحتلة وتسعى في الوقت نفسه إلى إقامة حكومة رأسمالية على النمط الغربي وليست حكومة اشتراكية؛ وقد أدى هذا التأييد إلى ذبح زعيم الكومينتانج للفلاحين والعمال الذين أيدوه في الحرب وكانوا من مؤيدي الشيوعيين، ومن ثم تحولت البلاد للحكم الديكتاتوري تحت قيادة الحزب الشيوعي عندما تسلم السلطة، وناصرته طبقة الموظفين، وسائر المنتفعين، وغاب الاشتراكيون المخلصون (1)

وقد جاءت التجربة الاشتراكية في دول العالم الثالث وفي الدول العربية مشابهة لتجربة المنظومة الاشتراكية قبل سقوطها المدوي، من حيث الاستبداد، وسيطرة طبقة البيروقراطية الوظيفية، واحتكارها للمناصب والمزايا، واستعلائها على الشعب، بجانب محاربتها للجادين، فهكذا الاستبداد – بغض النظر عن إيديولوجيته - يقتل قتلاً أعمى من يشتم فيه رائحة المنافسة له على السلطة، وفي نفس الوقت يحيط نفسه بالمنتفعين المنافقين في حلقات سلطوية مترابطة ومحمية بالمنظومة المخابراتية الأمنية، ويسيطر عليه هاجس الخوف من كل من يمتلك تأييدا شعبيا ما.

أما عن التيارات اليسارية الجديدة في العالم العربي عامة، وفي مصر خاصة؛ فقد استوعبت الدرس، وراجعت التجارب العالمية والعربية، وانتقدتها بشدة. ومن ثم باتت تنتهج نهوجًا جديدة تتعاطى بها مع مساحات الحريات المتاحة في المجتمعات. وهذا ما حدث أيضًا، مع الشخصيات التاريخية المحسوبة على الفكر اليساري والتي دعّمت وساندت الأنظمة الشمولية أو غير الديمقراطية التي حكمت؛ فجاءت مراجعتها لأنفسهم وأيضًا للتجارب السابقة، لتؤكد لهم أن عليهم تبني سبل جديدة، تواصل بها نشر رسالة اليسار الأساسية وقيمه الإنسانية.

ويمكن القول إن أبرز الإنجازات الحقيقية للاشتراكية في دول العالم الثالث، أنها كافحت بإخلاص في حقب الاستعمار، فكانت أوعية ومنظمات للحركات الوطنية التحررية، حيث تضافرت هذه الحركات وتوحدت توجهاتها لطرد المستعمر الأجنبي وتحقيق الاستقلال الوطني، ومن ثم كانت ثوراتها رافعة لشعارات تقدمية اشتراكية، إلا أنها لم تكن ثورات اشتراكية بالمعنى المقصود، ولم يكن للطبقة العمالية نضال واضح فيها، بل كانت على هامش الحركة السياسية، بل إن العمال الثوريين كانوا أقلية لا تكون تنظيمات ثورية يسارية حقيقية، فلما تم الاستقلال الوطني، لجأت الحكومات إلى الطبقة المتوسطة المتعلمة التي شكلت التكنوقراط، فظهرت السلطة البيروقراطية التي نالت المناصب في الحكومة والأحزاب الحاكمة لتتحول في النهاية إلى ما نخبة الموظفين المتمتعين بالامتيازات(2)، ولا عزاء للثوار اليساريين، ولا إعداد لأجيال يسارية جديدة، تخلص للفكرة بعيدًا عن الدولة.

وكثير من الأحزاب اليسارية في أوروبا - بعد الحرب العالمية الثانية – أعادت النظر في قناعاتها الفكرية وقبل التعاطي الإيجابي مع الرأسمالية الوطنية ورفضت الاستقلال التام للسوق؛ في ضوء صعود فكر اقتصادي جديد يتمثل في ضم شرائح كبيرة من القوى العاملة ومرؤوسيهم من خلال عمليات إعادة توزيع الثروة، كما عُرّف العقد الاجتماعي المواطنةَ ذاتها من حيث الحد الأدنى المعقول من العدالة الاقتصادية في سوق منظم. وقد تم كل هذا، مع بقاء أحزاب يسارية صغيرة في دائرة الانتخابات الديمقراطية الغربية، مع معاناتها من انهيار النموذج الاشتراكي في الكتلة الشرقية، وبالطبع بقيت جماعات من المتعنتين الثوريين(3).

ويرى اليسار الجديد أنه يمكن الوصول إلى السلطة وتغيير منظومة الحكم ذاتها عبر الطرق الديمقراطية، بشرط أن تلتزم أكثرية الشعب بقواعد الديمقراطية، وتكون البيروقراطية المتنفذة في الدولة ناضجة وقادرة على العمل بشكل جديّ مع التغيرات الحادثة في السلطة، والتي تنتج فلسفات قد تغاير مصالحها أو رؤاها(4)، فالاشتراكية على قناعة أنها لا تمتلك حلولاً لمشكلات صنعتها طبقات برجوازية لها مصالحها الخاصة، وتسعى إلى البقاء والحفاظ على هذه المصالح(5)، فإصلاحها يحتاج وقتًا طويلاً، لأن الإصلاحات الاشتراكية تفيد طبقات وتخسر طبقات أخرى.

أيضًا، فإن الأجيال الجديدة من اليسار يرون أن ماركس وكثيرًا من أتباعه قد ارتكبوا خطأً شنيعًا، يتمثل في أن تغيير ملكية وسائل الإنتاج مفتاح لا غنى عنه لتغيير اجتماعي راديكالي، والتجربة السوفيتية أثبتت فشل هذا الأمر. لذا فإن اليسار الجديد يؤكدون على أولوية السياسة على أولوية الملكية، بمعنى أن المفتاح لتغيير اجتماعي راديكالي هو استخدام سياسة ديمقراطية مع قوة الدولة في آن، للحد من التفاوتات في الدخل والثروة والسلطة التي تنتج عن التملك غير المتكافئ للممتلكات. فالمشكلة في الصيغة الماركسية أنها تتصور أن تغيير علاقات الملكية سيثمر مكاسب دائمة في هدم التراتب الطبقي، وهي تتجاهل أساسًا إمكانية نشوء محاور جديدة لعدم التكافؤ والتراتب، حيث تسعى جماعات جديدة (وهذا حدث بالفعل) إلى ترسيخ مواقعها في التمايز والسلطة.

لذا، فإن اليسار الجديد (الديمقراطية الاجتماعية) يستطيعون - بشكل تقدمي - تضييق وتقليل مصادر النفوذ، فالملكية في واقع الأمر حزمة من حقوق وأشكال مختلفة من النفوذ السياسي، وكل هذا يتم عبر السيطرة الديموقراطية على الاقتصاد، بمزيد من قواعد المساواة وقوانين العدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية مع تقييد الملكية الخاصة، مما يؤدي في النهاية إلى تأسيس مجتمعات عالية من المساواة والشمول الاجتماعي والقوة النقابية(6). وجدير بالذكر، أن توجهات الديمقراطية الاجتماعية في هذا الصدد بدأت في العقد الثاني من القرن العشرين، ونمت مع تطبيقاتها الفاعلة في الدول الاسكندنافية، فيما يسمونه "التاريخ الديمقراطي الاجتماعي"، والذي تم عبر نقابات عمالية فاعلة، واستخدام ماهر للسلطة الحكومية، ضد النظم التقليدية المتمثلة في التنميط والمركزية والسعي للنمو الاقتصادي الكمي لإنجاز تغيير اجتماعي مهم، دون مراعاة الفروق الفردية، فالنظم التقليدية تعاملت مع الناس على أنهم في حاجة إلى مسارات /احتياجات واحدة وهي: العمل والزواج وإنجاب الأطفال ثم التقاعد الآمن، ولكن طرأت تحديات جديدة تتمثل في الهجرة والتعدديات الثقافية والحركات النسوية واختلاف القناعات والآمال والرغبات، مما دفع الديمقراطية الاجتماعية إلى التفكير جديًا بتغيير تلك السياسات، عبر تبني اللامركزية، والتنوع الثري في الاختيارات الحياتية(7).

ولكن بلا شك فإن هناك تجارب يسارية في العالم، شيوعية كانت أو اشتراكية، ارتبطت بالنظم الشمولية/المستبدة، على نحو ما رأينا في الاتحاد السوفيتي سابقًا، والصين الشعبية حاليًا، ومعروف أن النظام الشـــمولي  Totalitarianism قائم على: "إخضاع الفرد للدولة، وعلى السيطرة المطلقة على جميع مظاهر حياة الأمة وطاقاتها المنتجة، على أساس افتراضات إيديولوجية تحكمية، تعلنها الزعامة في جو من الإجماع المفروض إكراها، وهذا كان موجودًا في النظام النازي والفاشي والشيوعي"(8).

 

الهوامش:

1) لماذا الدول الاشتراكية لم تكن اشتراكية؟ ضمن سلسلة مبادئ وخبرات ثورية (أوراق تثقيفية)، يصدرها مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، العدد 3، مارس 2006م، س9-17.

2) السابق، ص21، 22.

3) هل ماتت الديمقراطية الاشتراكية؟ أزمة الرأسمالية في أوروبا، نورمان بيرنبوم، ترجمة: نورة إبراهيم البلوشي، مجلة الثقافة العالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو2013م، ص29.

4) الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، ص566.

5) السابق، ص567.

6) إعادة اكتشاف الديمقراطية الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين، فريد بلوك، ترجمة: حمدي أبو كيلة، مجلة الثقافة العالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو2013م، ص41، 42.

7) السابق، ص47، 48.

8) معجم العلوم السياسية الدولية، د. أحمد زكي بدوي، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، 1989م، ص150.


عدد القراء: 2159

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-