محمد عبده وتولستوي: حوار الدين والفكرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 05:22:51

د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا

من الأمور اللافتة التي يشير إليها التيار اليساري العربي ويستدلون بها على توجه الشيخ عبده وجنوحه نحو قضايا اليسار؛ ما يوردونه عن مراسلة الإمام محمد عبده للأديب الروسي الشهير ليون تولستوي (1828-1910)، حيث يستحضرون رؤية الشيوعيين البلاشفة لـتولستوي بوصفه واحدًا من كبار الأدباء المعبرين عن هموم الشعب، وأحوال الفقراء في كتاباته الروائية، فقد برع في التعبير عن مآسي الفقر في المجتمع الروسي، وضيق سبل العيش أمام الفقراء، مما يدفعهم إلى الانحرافات العديدة.

والثابت أن تولستوي لم ينجرف إلى الفلسفة المادية التي هي أساس الفكر الماركسي، وإنما رأى أن الدين له مكانة كبرى في الحياة، وأعترف بما في الإسلام من قيم رفيعة، وهدي كبير، معلنًا احترامه وتقديره للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم).

وكان تولستوي قد كتب مقالات عديدة، تم جمعها من تراثه بعد ذلك، وترجمتها إلى العربية، ثم نشرها ضمن كتيب في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد عرّف فيه تولستوي بنبي الإسلام، وعرض فيه بعضا من الحكم والأقوال التي ذكرها الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد استند تولستوي في مقالاته إلى نسخة مترجمة لأحاديث الرسول، قام بترجمتها ونشرها في الهند عبدالله السهروردي، وجعل عنوانها الآية الكريمة (يُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (الصف، الآية: 8)

وقد رأى تولستوي في عرضه لأقوال الرسول أنها تتفق مع الحكمة الإنسانية، ولا تخالف جوهر الأديان، مؤكدًا أن الأديان في حقيقتها تنشد الخير والسعادة للإنسان، بحضها على الإيمان بالله تعالى، وتشديدها على الالتزام الأخلاقي والسلوكي من قبل المؤمنين بها(1). وهي رؤية تخالف ما روّجه الماركسيون من مادية وإلحاد.

حيث يستهل تولستوي كتيبه المذكور بالتعريف بالرسول، ثم ذكر عدة أحاديث له، ومن ثم أشاد بالحجاب وستر المرأة، مرجعًا سبب انتشار الطلاق في الغرب، إلى سفور المرأة وخروجها من المنزل، ومخالفتها لزوجها، بل رأى أن الأفضل أن يكدّ الرجل خارج المنزل، وتمكث الزوجة في المنزل لرعاية شؤونه ثم يتطرق إلى كثير من الجوانب الأخلاقية السامية، والحكمة التي لمسها في أحاديث النبي محمد(2).

   وواضح أن الشيخ عبده قرأ بعضًا من كتابات تولستوي، بجانب قراءته لأعمال تولستوي الأدبية، فأراد أن يتواصل معه، فكلاهما معاصر للآخر، فأرسل الإمام رسالة خطية إليه، وتولى إيصال هذه الرسالة صديق للإمام وصديق لتولستوي أيضا وهو "س.ك. كوكريل"، بناء على طلب من الأمام. أما من ترجم رسالة الإمام إلى الإنكليزية فهي المستشرقة آن بلنت، وهي زوجة كوكريل، وجاء نص الرسالة:

"أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نورٌ من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها ووفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركتَ أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبًا ترتاح به نفسه، وسعيًا يبقى ويرقى بها جنسه. شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، استعملوا قواهم التي لم يمنحوها ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين، فرقت حجب التقاليد، وصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه. فكما كنت بقومك هاديًا للعقول، كنت بعلمك حاثًا للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياءً يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمامًا اهتدى به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخًا من الله للأغنياء، كان مددًا من عنايته للفقراء. هذا وأن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك، فيما تستقبل من أيام عمرك والسلام. محمد عبده مفتي الديار المصرية 2 أبريل 1904م"(3).

وقد قام تولستوي بالرد على الإمام برسالة جميلة شفافة، بتاريخ ‏12/5/ 1904م، وجاء فيها: "تلقيت خطابك الكريم‏،‏ وها أنذا أسارع في الرد عليه، مؤكدًا امتناني الكبير من هذا الخطاب الذي أتاح لي الاتصال برجل مستنير، رغم اختلاف عقيدته عن العقيدة التي نشأتُ عليها وتربيت،‏ ولكن من نفس الديانة،‏ حيث إن العقائد تختلف وتكثر،‏ ولكن ليس هناك سوى دين واحد هو دين الحق،‏ آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت من واقع خطابك أن الدين الذي أؤمن به هو دينك،‏ الذي يرتكز علي الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير،‏ وأن نتمنى لهذا الغير ما نتمناه لأنفسنا،‏ واعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج من هذا المبدأ‏.‏ واعتقد أنه كلما ازدادت العقائد في الأديان‏،‏ وامتلأت بالمعجزات كلما ساعدت علي تفرقة البشر وخلق العداوات،‏ وعلى العكس كلما كانت الأديان بسيطة كلما اقتربت من هدفها المثالي وهو وحدة الناس جميعًا،‏ وهذا ما جعلني أقدر خطابك وأود استمرار الاتصال بك‏. توقيع ليون تولستوي‏"(4).

من خلال الرسالتين المتبادلتين، نرى أن ما جمع بينهما كثير من الأمور، عنوانها الحكمة، والبحث عن الهداية للبشرية، وسبل السعادة لها، وقد أشار الإمام إلى توبيخ تولستوي للأغنياء وبخلهم على الفقراء وتحكمهم فيهم، وهذا جزء من رأي الإمام الموجز في جهود تولستوي، والتي نرى أنها تأتي معبرة عن فيلسوف وإصلاحي، كان يناطح القياصرة، ويجهر برأيه في فساد الحكم القيصري ورجال الحكومة، وسوء القرارات المتخذة. كما أن موقفه من المسلمين في روسيا القيصرية كان رائعًا، حيث رفض ادعاءات جمعيات التبشير العاملة في قازان المسلمة، فقد ربط المبشرون بين بعض الممارسات الخاطئة للمسلمين وبين الإسلام نفسه، وهذا ما رفضه تولستوي، الذي قرأ عن الإسلام، ورفض قياس الإسلام على ما يقوم به أتباعه(5).

  وكان رد تولستوي على رسالة الإمام مفاده التقاؤهما معًا في كون الديانات نابعة من معين واحد في رأيه، وتدعو لأهداف إنسانية سامية، فلا يمكن قبول أن تكون العداوات نابعة من دين، وإنما مما يقترفه بعض المتدينين.

وإذا كان تولستوي يمثل شخصية فكرية رفيعة فهمت الإسلام حق الفهم بعيدًا عن الفهم المبتسر والمتجني السائد في أوروبا، فإن شخصية الشيخ محمد عبده مثلت نموذجًا للعالم الشرعي المنفتح على ثقافة عصره، المتفاعل مع قضايا أمته، المتوحّد مع هموم وطنه، المواكب للمستجدات والأسئلة والإشكاليات على الساحة الفكرية، ليس في مصر وإنما في العالم الإسلامي. وهو ما يجب أن نتعلمه من الشيخ، فلا نريد عالمًا متقوقعًا على الكتب، وإنما تكون له عينان: عين على العلم الشرعي، وعين على الواقع المعيش، فيمتاح من العلم الشرعي ما يصلح به الواقع المعيش.

ولقد جاءت اجتهادات التنويريين ذوي المرجعية الإسلامية بشكل عام - والشيخ محمد عبده خاصة- منطلقة من الإسلام، وقوامها التوقف عند المنظومة الأخلاقية والقيمية والتشريع الإسلامي، وإدراك أهمية التحديث، والعصرنة، والاستفادة من مختلف الجهود الإنسانية في تطوير المجتمعات بوصفها أدوات يمكن تعبئتها وصياغتها بالإسلام، وليست أدوات وغايات، تأتي ومعها فلسفات ومرجعيات، هي في النهاية ضد هويتنا.

 

الهوامش:

1) حِكمُ النبي محمد وشيء من الإسلام، الفيلسوف تولستوي، ترجمة: سليم قبعين، المصرية للنشر، القاهرة، ط3، 1987م، ص7 وما بعدها.

2) المرجع السابق، ص28، 29.

3) صورة الرسالة بالزنكوغراف في الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الكتابات السياسية، ج1، ص269. والرسالة تقبع بمتحف تولستوي تحت رقم المخطوطة (52040) وهي بالعربية وبجانبها الرسالة الأصلية باللغة الإنكليزية مؤرخة في الثاني من شهر أبريل / نيسان من عام 1904م أي أكثـر من مائة عام من عمر الزمن. انظر: حكم النبي محمد، ص18.

4) رسائل محمد عبده وتولستوي، سامح كريم، جريدة الأهرام، 20 /6 / 2004م،

http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/6/30/OPIN7.HTM

5) حِكمُ النبي محمد، ص5.


عدد القراء: 2605

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-